لينين وتروتسكي- ما هي مواقفهما الحقيقية الفصل الرابع: نظرية الثورة الدائمة

خصص مونتي جونستون ما لا يقل عن ثمانية صفحات من مؤلفه (حوالي الربع) من أجل “فضح” نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة، والتي يعارضها بشعار لينين “الديكتاتورية الديموقراطية للبروليتاريا والفلاحين”. لقد طرحت هذه النظريات أول الأمر سنوات 1904- 1905، وتأكدت صحتها بشكل كامل على أساس التجارب الثورية لعام 1905. سبق لنا أن رأينا أهمية الأفكار التي عرفتها النقاشات التي جرت بين صفوف الحركة الماركسية الروسية قبل عام 1914. لكن مونتي جونستون لا يخصص ولو جملة لكل ذلك. من الواضح أنه يرى أن أعضاء رابطة الشباب الشيوعي العاديين “غير مهتمين” بالصراعات الإيديولوجية التي شهدتها سنوات تكوّن البلشفية. نحن نختلف عن الرفيق جونستون بهذا الخصوص. نحن لا نقتصر في تحليلنا على الاقتباسات “الانتقائية للغاية” والمعزولة من سياقاتها، لأننا متأكدون أن جميع الأعضاء الجديين لرابطة الشباب الشيوعي والحزب الشيوعي، وجميع الأعضاء الواعين داخل الحركة العمالية عموما، يريدون أن يعرفوا الحقيقة بخصوص هذه المسائل. وما هي بالضبط الخلافات حولها؟

يصور مونتي جونستون المسألة كما لو أن الخلاف الرئيسي كان بين موقف لينين وموقف تروتسكي. إنه يقفز بسرعة على موقف المناشفة، وبالتالي يطرح النقاش بطريقة خاطئة تماما. دعونا نفحص المواقف الثلاثة ونرى العلاقة بين بعضها البعض.

اتفقت جميع تلك المواقف الثلاثة حول أن الثورة القادمة ستكون ثورة ديمقراطية برجوازية، أي ثورة ناتجة عن التناقض بين الاقتصاد الرأسمالي المتنامي وبين الدولة القيصرية الاستبدادية الشبه إقطاعية. لكن مجرد القبول العام بالطبيعة البرجوازية للثورة لا يجيب عن السؤال الملموس حول من هي الطبقة التي ستقود النضال الثوري ضد الاستبداد. افترض المناشفة، من خلال إجراء قياس على الثورات البرجوازية الكبرى في الماضي، أن الثورة الروسية ستكون بقيادة الديمقراطيين البرجوازيين والبرجوازيين الصغار، الذين على الحركة العمالية دعمهم.

لينين، من جهة أخرى، انتقد بقسوة المناشفة لكبحهم الحركة المستقلة للعمال وصب جام غضبه على محاولاتهم تملق البرجوازية “التقدمية”. منذ عام 1848، لاحظ ماركس أن البرجوازية الألمانية “الديمقراطية الثورية” لم تكن قادرة على لعب دور ثوري في النضال ضد الإقطاع، والذي فضلت القيام بصفقة معه خوفا من الحركة الثورية للعمال. كانت هذه هي المرة الأولى التي استعمل فيها ماركس نفسه شعار “الثورة الدائمة”.

وسيرا على خطى ماركس، الذي كان قد وصف “الحزب الديمقراطي” البرجوازي بأنه “أكثر خطورة على العمال من الليبراليين السابقين”، أوضح لينين أن البرجوازية الروسية ليست حليفا للعمال، بل ستكون لا محالة إلى جانب الثورة المضادة.

كتب عام 1905: «إن البرجوازية في مجموعها، ستنتقل حتما إلى معسكر الثورة المضادة، إلى معسكر الاستبداد، ضد الثورة وضد الشعب، وبمجرد ما سيتم تحقيق مصالحها الضيقة والأنانية، سوف “تنكص” عن الديمقراطية المتناسقة (وقد بدأت بالفعل تنكص عنها!)» (الأعمال الكاملة، المجلد 9، الصفحة 98)

ما هي الطبقة التي ستقود الثورة الديمقراطية البرجوازية من وجهة نظر لينين؟

«يبقى “الشعب”، أي البروليتاريا والفلاحون. وحدها البروليتاريا من يمكن الاعتماد عليها للسير حتى النهاية، لأن أفقها يتجاوز بكثير الثورة الديمقراطية. وهذا هو السبب الذي يجعل البروليتاريا تناضل في الطليعة من أجل الجمهورية وترفض بازدراء النصيحة الغبية والتافهة حول ضرورة أن تأخذ في الاعتبار احتمال نكوص البرجوازية». (المرجع نفسه)

ضد من وجهت هذه الكلمات؟ هل ضد تروتسكي والثورة الدائمة؟ دعونا نرى ما كان تروتسكي يكتبه في نفس الوقت الذي كتب فيه لينين ذلك:

«يؤدي هذا إلى واقع أن الصراع من أجل مصالح كل روسيا وقع على كاهل الطبقة الثورية الوحيدة الموجودة الآن في البلد، أي البروليتاريا الصناعية. لهذا السبب تكتسب البروليتاريا الصناعية أهمية سياسية بالغة، ولهذا السبب أيضا تحول الصراع من أجل تحرير روسيا من نير الحكم المطلق الذي يخنقها إلى معركة واحدة بين الحكم المطلق وبين البروليتاريا الصناعية، معركة واحدة يمكن للفلاحين أن يقدموا فيها مساعدة هامة، لكنهم لا يستطيعون أن يلعبوا دورا قياديا». (نتائج وتوقعات، الصفحة 198)

ويضيف أيضا:

«إن تسليح الثورة في روسيا يعني أولا وقبل كل شيء تسليح العمال. والليبراليون الذين يعلمون هذا ويخافونه يتفادون مسألة إنشاء الميليشيا من أساسها. بل إنهم يتخلون عن مواقعهم للحكم المطلق بدون قتال مثلما تخلى البرجوازي تيير عن باريس وفرنسا لصالح بسمارك فقط للحيلولة دون تسليح العمال.» (المرجع نفسه، الصفحة 193)

في مسألة الموقف من الأحزاب البرجوازية (كما رأينا بالفعل) كانت أفكار لينين وتروتسكي تتلاقيان في تضامن كامل ضد المناشفة الذين اختبأوا وراء الطبيعة البرجوازية للثورة كستار لإخضاع حزب العمال للبرجوازية. وفي صراعهما ضد التعاون الطبقي أوضح كل من لينين وتروتسكي أنه وحدها الطبقة العاملة، بتحالف مع جماهير الفلاحين، من يمكنها أن تنجز مهام الثورة البرجوازية الديمقراطية.

وسيرا وراء الروايات الكاذبة تماما لدويتشر في “النبي المسلح”، يستنسخ مونتي جونستون كل الهراء القديم حول أن نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة مستمدة من بارفوس، الاشتراكي الديمقراطي الألماني الشهير، الذي انتقد لينين شعاره “لا قيصر بل حكومة العمال”، في عدة مناسبات. لم يطرح تروتسكي في أي وقت من الأوقات شعارا من هذا القبيل، وهو الذي أشار مرارا وتكرارا، سواء قبل أو بعد عام 1905، إلى الطبيعة الديمقراطية البرجوازية للثورة.

لم تكن المسألة التي تناقش بين صفوف الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية هي طبيعة الثورة (فلا أحد كان ينازع فيها)، بل من هي الطبقة التي ستقودها. وحول هذا السؤال تبلور اتجاهان اثنان واضحا المعالم داخل صفوف الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية: من جهة رأى المناشفة، الذين كانوا يقولون إن الثورة “برجوازية”، وكأنهم يرددون ابتهالا دينيا، أنه على الحركة الماركسية تقديم التنازلات من أجل الاتفاق مع “الليبراليين”؛ ومن جهة أخرى كان هناك الذين أشاروا إلى جبن وضعف وخيانة البرجوازية، وطالبوا بالعمل المستقل للجماهير، تحت قيادة الطبقة الوحيدة الثورية المنسجمة: البروليتاريا، ضد البرجوازية إذا لزم الأمر. كانت هذه هي خطتا الاشتراكية الديمقراطية الشهيرة اللتان ناقشهما لينين في كتابه الذي ينقل منه مونتي جونستون، والذي يشوهه إلى درجة لا تصدق.

ويصل جونستون إلى قاع المستنقع حقا عندما يكرر الافتراءات القديمة حول أن نظرية تروتسكي تجاهلت دور الفلاحين في الثورة. يكرر جونستون افتراءات ستالين بأن تروتسكي في عام 1905 «نسي ببساطة كل شيء عن الفلاحين كقوة ثورية، وطرح شعار “لا قيصر بل حكومة العمال”، والذي هو شعار لثورة دون طبقة الفلاحين.» (ستالين: الأعمال الكاملة، المجلد 4، صفحة 392)

إن ستالين، والآن مونتي جونستون، “نسي ببساطة” الشعار الذي طرحه تروتسكي فعلا في عام 1905. لا قيصر ولا زيمتسي (أي الليبراليين)، بل الشعب! أي شعار يضم العمال والفلاحين. ويمكن إيجاد المنشور الذي يتحدث عن هذا، إضافة إلى العديد من النداءات إلى الفلاحين الذين “نسيهم” تروتسكي في الأعمال الكاملة لتروتسكي (المجلد 2، الصفحة 256) والتي طبعت في روسيا بعد ثورة أكتوبر.

أممية لينين

ماذا كان موقف لينين تجاه الفلاحين في الثورة؟ لقد أكد انه ينبغي تعبئة الفلاحين من طرف العمال من أجل إنجاز المهام الديمقراطية المناهضة للإقطاعية. لكن في اللحظة التي سيبدأ العمال فيها بالمضي قدما نحو الاشتراكية، ستبدأ التناقضات الطبقية في الظهور على السطح، وستبدأ الميولات البونابارتية الرجعية بين الفلاحين، والتي حذر لينين منها مرار، في التحول ضد البروليتاريا. وفي بلد حيث الغالبية العظمى من السكان تتألف من الفلاحين سوف يواجه النضال من أجل الاشتراكية أكثر أشكال المعارضة قوة وعنادا من جانب الفئات الغنية بين الفلاحين. إلا أن مونتي جونستون يقول إن لينين قد تصور بالفعل، في عام 1905، “تنامي” الثورة الديمقراطية إلى الاشتراكية في روسيا حيث يقول:

«بينما تحدث لينين في هذه الفترة عن بداية النضال من أجل الثورة الاشتراكية بعد “النصر الكامل” للثورة الديمقراطية، مع “تحقيق المطالب الآنية للفلاحين”، وبالتأكيد [!] لم يتوقع أن تأتي الثورة الاشتراكية في غضون ثمانية أشهر اللاحقة، لكنه كان يعتبر أن العامل الرئيسي في تحديد نقطة الانتقال من الواحدة إلى الأخرى هي “درجة قوتنا، قوة البروليتاريا المنظمة والواعية طبقيا”. لقد أثبت التاريخ أنه كان على حق في رفضه استراتيجية تروتسكي التي تتوخى أساسا [؟] القيام بقفزة [؟] من القيصرية إلى أكتوبر، وتخطي فبراير[!]».(Cogito الصفحة 13)

يتلوى مونتي جونستون بشكل غير مريح فوق فخ نصبه للإيقاع بتروتسكي! إن التأكيد على أن نظرية الثورة الدائمة تتألف “أساسا” من “قفزة” من القيصرية إلى الثورة الاشتراكية، من دون أي مرحلة وسيطة، هو هراء بكل ما في الكلمة من معنى، وهو يثبت فقط أن مونتي جونستون إما لم يكلف نفسه عناء قراءة تروتسكي، أو أنه عاد إلى أساليبه “الموضوعية العلمية” القديمة. نود أن نسأل مونتي جونستون، وبصرف النظر عن أي شيء آخر، أين تكمن الطبيعة “الدائمة”، “والغير منقطعة” للثورة إذا كان الأمر يتعلق بـ… “قفزة” من القيصرية إلى الاشتراكية؟

ولأن تشويهه لموقف تروتسكي في عام 1905، لم يكفه حاول مونتي جونستون أن ينتقل إلى لينين أيضا! حيث جعله يقول أشياء تتناقض بشكل صارخ مع مواقفه، محولا زعيم ثورة أكتوبر إلى مهرج. فمن جهة يكرر جونستون إلى درجة تثير الغثيان أن لينين اعتبر الثورة برجوازية (بدون جدوى لأن الجميع، ما عدا رجال الصف الثاني الستالينيين، يتفقون على هذا)، ومن جهة أخرى، ينسب إلى لينين أنه قال في عام 1905 بأن “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين” سوف “تنمو” في اتجاه دكتاتورية البروليتاريا! دعونا نرى ماذا قال لينين حقا بشأن مسألة الطبيعة الطبقية للـ”الديكتاتورية الديمقراطية”:

«لكن بالطبع ستكون دكتاتورية ديمقراطية وليس اشتراكية. وستكون غير قادرة (دون سلسلة من مراحل وسيطة من التطورات الثورية) على التأثير على أسس الرأسمالية. يمكنها في أحسن الأحوال أن تحقق إعادة توزيع جذرية لملكية الأرض لصالح الفلاحين، وتقيم ديمقراطية ثابتة وكاملة، بما في ذلك تشكيل جمهورية، والقضاء على كافة المظاهر القمعية للعبودية الآسيوية… وإرساء الأسس لتحسين شامل في أوضاع العمال وارتفاع في مستوى معيشتهم، وأخيرا وليس آخرا ستحمل الحريق الثوري إلى أوروبا». (الأعمال الكاملة، المجلد 9، الصفحة 57)

موقف لينين واضح لا لبس فيه على الإطلاق: إن الثورة القادمة ستكون ثورة برجوازية، بقيادة البروليتاريا بالتحالف مع جماهير الفلاحين. وأفضل ما يمكن توقعه منها هو إنجاز المهام الديمقراطية البرجوازية الأساسية: توزيع الأراضي على الفلاحين، وجمهورية ديمقراطية، وما إلى ذلك. هذا، بالضرورة، لأن أي محاولة “للتأثير على أسس الرأسمالية” سيؤدي بالضرورة إلى دخول البروليتاريا في صراع مع جماهير صغار الفلاحين. ويحسم لينين المسألة قائلا: «إن الثورة الديمقراطية ثورة برجوازية في طبيعتها. وشعار التوزيع العام، أو “الأرض والحرية” هو شعار برجوازي.» (المرجع نفسه، ص 112)

وبالنسبة للينين لم يكن هناك من مخرج آخر ممكن على أساس بلد متخلف شبه إقطاعي مثل روسيا. إن الحديث عن “نمو” الديكتاتورية الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية هو تحويل لكل تحليل لينين لعلاقة القوى بين الطبقات في الثورة إلى هراء.

بأي معنى كان لينين يشير إلى إمكانية الثورة الاشتراكية في روسيا؟ في الاقتباس الوارد أعلاه من “خطتا الاشتراكية”، يؤكد لينين أن الثورة الروسية لن تكون قادرة على التأثير على أسس الرأسمالية “دون سلسلة من مراحل وسيطة من التطورات الثورية”. يسارع مونتي جونستون إلى ملء الحلقة المفقودة للينين: إن الشرط المسبق لعملية الانتقال من الثورة الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية هو: “درجة قوتنا، قوة البروليتاريا المنظمة والواعية طبقيا”، ويضيف أن التاريخ أثبت أن لينين كان على حق. إن التاريخ قد اثبت بالفعل أن لينين كان على حق، أيها الرفيق جونستون، لكن ليس لشيء لم يقله. دعونا نستغني عن خدمات الترجمة التي يقوم بها مونتي جونستون، ونسمح للينين بأن يتكلم بلسانه.

يواصل لينين الاقتباس أعلاه على النحو التالي؛ إن الثورة البرجوازية الديمقراطية في روسيا:

«ستحمل، أخيرا وليس آخرا، الحريق الثوري إلى أوروبا. إن مثل هذا النصر لن يحول بعد، بأي شكل من الأشكال، ثورتنا البرجوازية إلى ثورة اشتراكية؛ إن الثورة الديمقراطية لن تتجاوز على الفور حدود العلاقات الاجتماعية والاقتصادية البرجوازية، غير أن أهمية مثل هذا النصر على التطور المستقبلي لروسيا والعالم كله سوف تكون هائلة. لا شيء سيرفع الطاقة الثورية للبروليتاريا العالمية كثيرا، ولا شيء سيقصر الطريق المؤدي إلى انتصارها الكامل إلى ذلك الحد، مثل الانتصار الحاسم للثورة التي بدأت الآن في روسيا». (المرجع نفسه، الصفحة 57)

تبرز هنا أممية لينين بجرأة في كل سطر. إنها أممية بالأفعال وليست بالكلمات فقط. أممية بعيدة كل البعد عن خطابات العطل التي يلقيها القادة الحاليون لحزب العمال والستالينيون. لم تكن الثورة الروسية بالنسبة للينين عملا مكتفيا ذاتيا، لم تكن “الطريق الروسي إلى الاشتراكية”! لقد كانت بداية الثورة البروليتارية العالمية. في هذا الواقع بالضبط تكمن الإمكانية المستقبلية للتحول من الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى الثورة الاشتراكية في روسيا.

أبدا لم يحمل لا لينين ولا أي ماركسي آخر على محمل الجد الفكرة القائلة بأنه من الممكن بناء “الاشتراكية في بلد واحد”، وخاصة في بلد آسيوي فلاحي متخلف مثل روسيا. في مكان آخر يفسر لينين، الموقف الذي يعتبر ألف باء الماركسية، بأن الشروط اللازمة للتحول الاشتراكي للمجتمع كانت غائبة في روسيا، على الرغم من أنها نضجت تماما في أوروبا الغربية. وفي جداله ضد المناشفة في “خطتا الاشتراكية” كرر لينين موقف الماركسية الكلاسيكي بخصوص الأهمية الأممية للثورة الروسية:

«إن الفكرة الأساسية هنا هي فكرة تكررت مرارا من قبل فبريود [جريدة لينين] والتي أكدت أنه يجب علينا أن لا نخاف… من الانتصار الكامل للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية، أي من الديكتاتورية الديمقراطية الثورية للبروليتاريا والفلاحين، لأن مثل هذا الانتصار سوف يتيح لنا إيقاظ أوروبا؛ وبعد تخلصها من نير البرجوازية سوف تساعدنا البروليتاريا الاشتراكية في أوروبا بدورها على تحقيق الثورة الاشتراكية «(المرجع نفسه، صفحة 82، التشديد من عندنا)

هذا هو جوهر تشخيص لينين للثورة المقبلة في روسيا: لا يمكن للثورة أن تكون إلا برجوازية ديمقراطية (وليس اشتراكية)، لكن وفي نفس الوقت، وبسبب أن البرجوازية عاجزة عن لعب دور ثوري، فإن الثورة لا يمكن أن تُنجز إلا من طرف الطبقة العاملة، بقيادة الاشتراكية الديمقراطية، التي سوف تحرّض جماهير الفلاحين على دعمها. الإطاحة بالقيصرية، واقتلاع كل آثار الإقطاع، وإنشاء جمهورية سيكون له تأثير ثوري هائل على البروليتاريا في بلدان أوروبا الغربية المتقدمة. لكن الثورة في الغرب لا يمكنها أن تكون إلا ثورة اشتراكية، بسبب التطور الهائل للقوى المنتجة التي تراكمت في ظل الرأسمالية نفسها، والقوة الهائلة للطبقة العاملة والحركة العمالية في هذه البلدان. وأخيرا سوف تثير الثورة الاشتراكية في الغرب المزيد من الانتفاضات في روسيا، وبمساعدة البروليتاريا الاشتراكية في أوروبا، سيقوم العمال الروس بتحويل الثورة الديمقراطية، بالرغم من معارضة البرجوازية والفلاحين المعادين للثورة، إلى ثورة اشتراكية.

سيهز الرفيق جونستون رأسه بغضب قائلا “هذه ليس اللينينية، بل التروتسكية! لقد شوهتم أفكار لينين!” كلا على الإطلاق أيها الرفيق جونستون. إن المعنى واضح تماما. فلندع لينين يتحدث بلسانه:

«وهكذا، في هذه المرحلة، [بعد الانتصار النهائي للـ”الديكتاتورية الديمقراطية”] سوف تُنظّم البورجوازية الليبرالية، وكذلك الفلاحون الميسورون إضافة جزئيا إلى الفلاحين المتوسطين، الثورة المضادة. وستُنظّم البروليتاريا الروسية إضافة إلى البروليتاريا الأوروبية الثورة.

«في مثل هذه الظروف يمكن للبروليتاريا الروسية أن تحقق نصرا ثانيا. إن القضية لم تعد ميئوسا منها. إن النصر الثاني سيكون هو الثورة الاشتراكية في أوروبا.

«عمال أوروبا سيبينون لنا بعد ذلك “كيفية القيام بذلك”، عندها وبالتعاون معهم سنقوم بإنجاز الثورة الاشتراكية» (الأعمال الكاملة، المجلد 10، الصفحة 92)

هنا وفي عشرات المناسبات الأخرى أعرب لينين عن فكرته بأوضح العبارات أن انتصار «ثورتنا البرجوازية العظيمة… سوف يعلن عصر الثورة الاشتراكية في الغرب.» (الأعمال الكاملة، المجلد 10، صفحة 276، التشديد من عندنا) ومهما لف مونتي جونستون ودار وحاول أن يضع الكلمات في فم لينين، فإنه لا يمكنه أن يغير حقيقة أن لينين، في عام 1905، لم يرفض فقط فكرة “بناء الاشتراكية في روسيا وحدها” (حيث لم تتبادر إلى ذهنه هذه الفكرة قط)، بل رفض حتى إمكانية إقامة العمال الروس لدكتاتورية البروليتاريا قبل الثورة الاشتراكية في الغرب.

لينين وتروتسكي

ما هي الاختلافات بين أفكار لينين وتروتسكي؟ كما سبق لنا أن رأينا، كلاهما اتفقا حول المسائل الجوهرية للثورة: دور البرجوازية المعادي للثورة؛ الحاجة إلى العمال والفلاحين لإنجاز الثورة الديمقراطية؛ الأهمية الأممية للثورة، الخ. نشأت الخلافات من توصيف لينين للحكومة الديمقراطية الثورية التي ستنفذ مهام الثورة باعتبارها “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”.

لقد انتقد تروتسكي هذه الصيغة بسبب غموضها؛ لأنها لم توضح من هي الطبقة التي ستمارس الديكتاتورية. كان غموض لينين متعمدا. لم يكن مستعدا ليقول مسبقا ما هو الشكل الذي ستتخذه الديكتاتورية الثورية. إنه لم يستبعد حتى إمكانية أن يسود الفلاحون في الائتلاف. وهكذا فإن صيغة “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين” حملت، منذ البداية، طابعا رياضيا متعمدا – مع عدد غير معروف من المجاهيل التي على التاريخ أن يحلها. وقد أوضح لينين هذا في كتابه خطتا الاشتراكية:

«سيأتي الوقت عندما سينتهي النضال ضد الاستبداد الروسي، وتمر مرحلة الثورة الديمقراطية في روسيا، سيكون من السخافة آنذاك الحديث عن “وحدة الإرادة” بين البروليتاريا والفلاحين، حول الدكتاتورية الديمقراطية، إلخ. عندما سيحين ذلك الوقت سنتطرق لمسألة ديكتاتورية البروليتاريا الاشتراكية، وسنتحدث عنها بمزيد من التفصيل» (الأعمال الكاملة، المجلد 9، الصفحة 86)

وقد رد تروتسكي على فكرة لينين هذه قائلا إن الفلاحين لم يكونوا في أي وقت في التاريخ قادرين على لعب دور مستقل. وسوف يتقرر مصير الثورة الروسية من خلال نتيجة الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا حول قيادة جماهير الفلاحين. إن الفلاحين إما أن يُستخدموا كأداة للثورة أو أداة للثورة المضادة. وفي جميع الحالات إن الأفق الوحيد الممكن للثورة هو إما ديكتاتورية البرجوازية، التي من شأنها أن تسقط في أحضان الرجعية القيصرية، أو ديكتاتورية البروليتاريا بالتحالف مع الفلاحين الفقراء.

ولا يمكن للحكومة الثورية، التي يسود فيها العمال تحت راية الماركسية، أن تتوقف في منتصف الطريق، وتقتصر على المهام البرجوازية، بل سوف تمر بالضرورة من مهام الثورة الديمقراطية إلى الاشتراكية. من أجل البقاء على قيد الحياة، سيكون على الديكتاتورية الثورية أن تشن الحرب ضد الرجعية داخل البلاد وخارجها. بعد ذلك يتفق تروتسكي مع لينين حول أن انتصار الثورة الروسية سيعطي زخما هائلا للثورة الاشتراكية في الغرب، التي ستأتي لمساعدة الدولة العمالية الروسية وتنجز مهام التحول الاشتراكي.

هذه، إذن، هي الجريمة البشعة التي ارتكبها تروتسكي ونظريته حول الثورة الدائمة في عام 1905! كان هذا، وفقا لمونتي جونستون، هو ما وضعه “خارج الحزب”… أي التكهن مسبقا بما حدث بالفعل في عام 1917: شرح أن منطق الأحداث سيضع حتما الطبقة العاملة في السلطة! حتى لينين نفسه لم يكن مستعدا ليلزم نفسه بهذه المسألة في عام 1905، كما سبق لنا أن رأينا.

من بين جميع الماركسيين كان تروتسكي وحده هو من توقع قيام ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا قبل الثورة الاشتراكية في الغرب:

كتب تروتسكي سنة 1905 قائلا: «من الممكن للعمال أن يصلوا إلى الحكم في بلد متخلف اقتصاديا قبل وصولهم إليه في بلد متقدم… إن الثورة الروسية سوف تخلق، من وجهة نظرنا، الظروف التي يمكن خلالها انتقال السلطة إلى أيدي العمال… وفي حال انتصار الثورة عليها أن تقوم بذلك… قبل أن يتمكن السياسيون البرجوازيون الليبراليون من فرصة استعراض كل مواهبهم في الحكم». (نتائج وتوقعات، الصفحة 195)

هل يعني هذا، أن تروتسكي كان ينفي الطبيعة البرجوازية للثورة، كما يزعم مونتي جونستون؟ يقول تروتسكي نفسه:

«أما بالنسبة للثورة في بداية القرن العشرين، والتي مهامها المباشرة برجوازية هي أيضا [التشديد من عندنا]، يظهر التوقع الأقرب هو حتمية، أو على الأقل احتمال، السيطرة السياسية للبروليتاريا. وسوف تعمل البروليتاريا على ألا تصير هذه السيطرة مجرد “مرحلة” عابرة، كما يأمل بعض الأدعياء الواقعيين. لكن يمكننا منذ الآن أن نتسائل: هل من الحتمي تحطم الديكتاتورية البروليتارية نتيجة اصطدامها بحدود الثورة البرجوازية؟ أم أنه من الممكن، في ظل الظروف التاريخية العالمية الحالية، أن تجد أمامها إمكانية اختراق هذه الحدود؟ ها نحن ذا أمام مسائل تكتيكية: هل علينا العمل الواعي من أجل إقامة حكومة عمالية بقدر ما يؤدي تطور الثورة إلى جعل هذه المرحلة قريبة، أم علينا في هذه الفترة أن ننظر إلى السلطة السياسية على أنها بلية تلقي بها الثورة البرجوازية على كاهل العمال وسيكون من الأفضل لهم أن يتفادوها؟» (نتائج وتوقعات، الصفحات 199- 200، التشديد من عندنا)

هل أفكار تروتسكي موجهة حقا ضد لينين أيها الرفيق جونستون؟ أم هي موجهة ضد “الأدعياء الواقعيين”، مثل بليخانوف، الذين كانوا يخشون العواقب المترتبة عن الحركة المستقلة للعمال؟ وأين هي هنا “القفزة” من القيصرية إلى الثورة الاشتراكية، التي يؤكد لنا الرفيق جونستون أنها تشكل جوهر نظرية الثورة الدائمة؟

تتلخص توقعات تروتسكي لعام 1905 في ما يلي: إن البرجوازية في روسيا عاجزة عن لعب أي دور ثوري. وحتما، سيؤدي تطور الثورة، في مرحلة معينة، إلى استيلاء العمال على السلطة، وبدعم من قسم من الفلاحين. وحدها حكومة العمال والفلاحين من يمكنها إنجاز المهام التاريخية للثورة البرجوازية الديمقراطية. لكن وبمجرد وصولها إلى السلطة فإن البروليتاريا لن تتنازل عنها لصالح البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة. يجب عليها أن تحكم قبضتها على السلطة عن طريق الانتقال من المهام البرجوازية الديمقراطية إلى التدابير الاشتراكية. أو بعبارة أخرى لا يمكن للحكومة الثورية، من وجهة نظر تروتسكي، أن تتخذ أي شكل آخر ما عدا ديكتاتورية البروليتاريا. عليها أن تشن حربا لا هوادة فيها ضد الثورة المضادة الداخلية، وللقيام بذلك لا بد لها أن تدفع بالعمال الاشتراكيين في الغرب إلى دعمها. لقد دافع تروتسكي، مثله مثل لينين، عن أفكار الماركسية الأممية ضد ضيق الأفق المنشفي. وفي مواجهة الأطروحة الانتهازية القائلة بأن الشروط “من أجل الاشتراكية غير موجودة في روسيا، ولذلك ينبغي على الثورة أن تبقى ضمن الحدود البرجوازية، أكد كل من تروتسكي ولينين على أن شروط الاشتراكية ناضجة تماما على الصعيد العالمي. لقد اعتبر كلا هذان الماركسيان العظيمان الثورة الروسية مجرد حلقة أولى في سلسلة الثورة الاشتراكية العالمية.

الثورة الدائمة في الممارسة: الجزء الأول

كل النظريات حول طبيعة الثورة الروسية التي طرحت قبل عام 1917 من قبل الماركسيين كانت بالضرورة ذات طابع عام ونسبي إلى هذا الحد أو ذاك. لم تكن مخططات معدة مسبقا أو توقعات فلكية، بل كانت توقعات تهدف إلى تمكين الحركة من دليل للعمل، من منظور، وهو ما يعتبر المهمة الأساسية للنظرية الماركسية.

ويمكن قياس صحة، أو خطأ، هذه النظريات ليس من خلال الاطلاع على جدالات عام 1905، بل فقط في ضوء ما حدث بالفعل. كان انجلز مولعا جدا بالمثل القائل: “إن الدليل على وجود الكعكة أكلها”، في حين كان لينين كثيرا ما يستشهد بمقولة غوته: “إن النظرية رمادية اللون يا صديقي، لكن شجرة الحياة خضراء”. وبالتالي فإنه بالنسبة للماركسي لا يمكن إثبات صحة أي نظرية ثورية إلا من خلال تجربة الثورة نفسها.

لقد أثبتت تجربة عام 1917 بشكل لافت للنظر توقع لينين وتروتسكي حول الدور الجبان والمعادي للثورة المضادة للبرجوازية، كما ظهر في ممارسات الحكومة المؤقتة التي جاءت إلى السلطة بعد ثورة فبراير. إن الاستيعاب العميق لأسلوب الماركسية هو ما جعل كلا من لينين وتروتسكي يفهمان على الفور، وباستقلال عن بعضهما البعض، طبيعة نظام كيرينسكي والموقف الذي ينبغي على العمال أن يتخذوه تجاهه. لقد وصل لينين في سويسرا، وتروتسكي في نيويورك، في وقت واحد إلى الخلاصة نفسها، أي إلى ضرورة المعارضة الحازمة للحكومة المؤقتة البرجوازية، والإطاحة بها من قبل الطبقة العاملة.

ماذا كان موقف “البلاشفة القدماء” الذين لعبوا “دور مهما” سنة 1917؟ جميعهم دعوا إلى دعم الحكومة المؤقتة. من بين كل الكوادر البلشفية الذين، على حد قول مونتي جونستون، “دربوا أنفسهم في صفوف الحزب” و”تربوا على الانضباط الجماعي” طيلة مرحلة كاملة، لا أحد صمد أمام المحك الحاسم للأحداث. نود أن نطرح على مونتي جونستون السؤال التالي: ماذا كانت فائدة كل الإعداد خلال الفترة الماضية: ماذا كان الهدف من نضال لينين طيلة “الثلاث عشر أو أربع عشر سنة” لبناء “حزب ماركسي مستقر ومنضبط”، عندما فشل جميع “البلاشفة القدماء “في اللحظة الحاسمة في أن يكونوا في مستوى الحدث؟

في عام 1909، كتب تروتسكي:

«إذا كان المناشفة، الذين ينطلقون من الفكرة المجردة القائلة بأن “ثورتنا برجوازية”، قد وصلوا إلى تكييف كل تكتيكات البروليتاريا تبعا لسلوك البرجوازية الليبرالية قبل الاستيلاء على سلطة الدولة، فإن البلاشفة، وانطلاقا من فكرة مجردة مشابهة، “دكتاتورية ديمقراطية وليست اشتراكية”، وصلوا إلى فكرة تقييد البروليتاريا لذاتها، بعد استيلائها على سلطة الدولة، بحدود الديمقراطية البرجوازية. صحيح إن هناك فرقا كبيرا جدا بينهما في هذا الصدد: فبينما الجوانب المعادية للثورة في الفكرة المنشفية تبرز بقوة كاملة حاليا، فإن الصفات المعادية للثورة في الفكرة البلشفية ستشكل خطرا هائلا فقط في حال انتصار الثورة» (تروتسكي، 1905، صفحة 285)

مونتي جونستون الذي بتر السطرين الأخيرين في هذا المقطع من سياقهما، يحاول استخدامها كدليل آخر على عداء تروتسكي لموقف لينين. في الواقع تمكن تروتسكي، في هذه الكلمات، من أن يتوقع في عام 1909 بشكل صحيح الأزمة التي شهدتها صفوف الحزب البلشفي في عام 1917 والتي نتجت بالضبط عن التفسير الرجعي الذي قدمه “البلاشفة القدماء” لشعار لينين “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”.

عندما قدم لينين موضوعات أبريل الشهيرة للحزب، والتي دعا فيها إلى الإطاحة بالحكومة المؤقتة، نشرت باسمه وحده: لم يكن أحد من “قادة” الحزب مستعدا لربط اسمه مع موقف يتعارض بصورة مباشرة مع جميع النداءات والبيانات والمقالات والخطب التي أصدروها منذ ثورة فبراير. وبالضبط في اليوم التالي بعد نشر موضوعات لينين كتب كامينيف افتتاحية لجريدة برافدا تحت عنوان “خلافاتنا”، شدد فيها على أن الموضوعات لا تمثل سوى “الرأي الشخصي” للينين وحده. وانتهى المقال بالعبارات التالية:

«إن مخطط لينين العام يبدو أمرا غير مقبول، لأنه ينطلق من الافتراض بأن الثورة البرجوازية قد انتهت ويعول على التحول الفوري للثورة إلى ثورة اشتراكية».

لاحظ هذه الكلمات جيدا أيها القارئ: إنها ليست كلمات لينين وهو يجادل تروتسكي عن الثورة الدائمة، بل كلمات “البلشفي القديم” كامينيف وهو يوجه الاتهام إلى لينين بجريمة التروتسكية البشعة! تمثل حجج كامينيف وشركاه في عام 1917 محاكاة ساخرة لكلام بليخانوف في مؤتمر ستوكهولم لعام 1906: لا بد للبروليتاريا من الاستيلاء على السلطة في الثورة البروليتارية، لكن الثورة برجوازية، وبالتالي فعلينا ألا نأخذ السلطة! لقد دارت العجلة دورة كاملة، وظهر “ارتباك” “البلاشفة القدماء” بجلاء سنة 1917 في العودة إلى أفكار المناشفة الإصلاحية البالية. بقيت معادلة لينين “الجبرية” مفتوحة لسوء الفهم من هذا القبيل، في حين أن معادلة تروتسكي “الحسابية” كانت دقيقة للغاية.

سبق لماركس أن أشار منذ زمن بعيد إلى أن الانتهازية تحاول في الكثير من الأحيان أن تخبئ نفسها في زي الشعارات الثورية البالية، الشعارات التي استنفذت صلاحيتها الثورية. لذلك حاول “البلاشفة القدماء” سنة 1917، استخدام شعار “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين” كقناع لإخفاء انتهازيتهم. في هذا السياق حيث كتب لينين ما يلي:

«لقد اثبت التاريخ بشكل تام صحة أفكار البلاشفة وشعاراتهم، بوجه عام؛ بيد أن الأمور قد جرت، في الواقع الملموس، بصورة تختلف عما كان بوسع المرء (أيا كان) توقعه: لقد جرت بصورة أكثر أصالة وأكثر تحديدا وأكثر تنوعا… إن “ديكتاتورية البروليتارية والفلاحين الثورية” قد صارت بالفعل واقعا، في شكل معين وإلى حد ما، في الثورة الروسية.» (مقتبسة من قبل مونتي جونستون، الصفحة 11، لينين، المؤلفات المختارة، المجلد 6، صفحة 33)

يستنسخ مونتي جونستون هذا النص، من دون شرح السياق، من أجل إثبات أن لينين واصل الدفاع عن فكرة “الدكتاتورية الديمقراطية” في عام 1917. لكن كل المؤلف الذي اقتبس منه هذا الكلام – رسائل حول التكتيك- هو جدال ضد كامينيف وشركائه هدفه إثبات العكس تماما! إن اقتباس مونتي جونستون غير دقيق. إنه يدمج فكرتين معا، بينما هما في الأصل مفصولتان بفقرة كاملة، على النحو التالي:

«فإذا نسينا هذه الحقيقة، سنصير شبيهين بهؤلاء “البلاشفة القدماء” الذين لعبوا، أكثر من مرة، دورا مشؤوما في تاريخ حزبنا بترديدهم صيغة محفوظة عن ظهر قلب بغباء، بدلا من دراسة الصيغة المحددة والمميزات الجديدة للواقع الحي.» (المرجع نفسه. التشديد من عند لينين)

إن هذه الفقرة الصغيرة التي استبعدها جونستون “بطريق الخطأ” من منتصف الاقتباس توضح كل المسألة باختصار. يحاول لينين أن يشرح للـ “البلاشفة القدماء” أن شعار “الديكتاتورية الديمقراطية” ليس “صيغة فوق تاريخية” لكي يردد عند كل منعطف، بغض النظر عن التطور الفعلي للصراع الطبقي.

أكد لينين مرارا وتكرارا أنه ليست هناك حقيقة مجردة، فالحقيقة دائما ملموسة. إن محاولة البحث عن الخلاص في تكرار شعار استنفذ ضرورته شكلت قطيعة تامة مع الماركسية، وتراجعا عن المهام الملحة للثورة نحو السكولاستيكية. كان التجسيد التاريخي الملموس للـ “الديكتاتورية الديمقراطية” هو حكومة رأسمالية، تشن حربا إلحاقات امبريالية، حكومة عاجزة عن حل، أو حتى التعامل بجدية مع أي من المهام الأساسية للثورة الديمقراطية. لقد ملأ التاريخ الصيغة الجبرية “الديكتاتورية الديمقراطية” بمضمون سلبي.

يحاول مونتي جونستون، بسلسلة من اللف والدوران، أن يفسر أن حكومة كيرينسكي مثلت تحقيق الدكتاتورية الديمقراطية البرجوازية، كما هي منصوص عليها من قبل لينين في عام 1905. لكن مهلا أيها الرفيق جونستون! ما هي مهام الديكتاتورية الديمقراطية التي حددها لينين في خطتا الاشتراكية؟ أولا وقبل كل شيء إيجاد حل جذري للمسألة الزراعية، على أساس تأميم الأرض؛ ثانيا، إقامة جمهورية ديمقراطية على أساس الاقتراع العام والجمعية التأسيسية؛ واستبدال الجيش الحالي بالشعب المسلح. وإلى هذه النقاط يجب أن نضيف، في الظروف السائدة في عام 1917، التحقيق الفوري لسلام ديمقراطي. أليس الأمر كذلك أيها الرفيق جونستون؟ لكن إذا كانت حكومة كيرينسكي هي “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين” (أي حكومة الثورة البرجوازية الديمقراطية)، فلماذا لم تحل أيا من هذه المهام الأساسية للثورة البرجوازية الديمقراطية، ولم تكن قادرة على حل أي منها؟

يقول مونتي جونستون إن ثورة فبراير كانت هي الثورة البرجوازية الديمقراطية (وإن “تروتسكي لا يحاول إنكار هذا”)، لكنه في نفس الوقت يقول إنها لم تتمكن من حل أي من مهام الثورة البرجوازية الديمقراطية. حقا أيها الرفيق جونستون، إن تروتسكي لم يحاول نفي ذلك. لقد فهم كل من لينين وتروتسكي أن حكومة كيرينسكي عاجزة عن معالجة هذه المشاكل بجدية؛ لكن هذا يعود بالضبط إلى أنها كانت حكومة برجوازية، وليست حكومة للعمال والفلاحين. وحدها ديكتاتورية البروليتاريا، بالتحالف مع الفلاحين الفقراء، من يمكنها البدء في حل مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية في روسيا.

يقول مونتي جونستون بطريقة تفكير غريبة (إن أردنا وصفها بأدب):

«لم تكن ثورة فبراير 1917 نضالا للبروليتاريا ضد الوطن البرجوازي كما توقع تروتسكي، بل كانت إسقاطا للقيصرية بثورة برجوازية أنجزت من طرف العمال والفلاحين، كما توقع لينين. لم تنتقل السلطة إلى أيدي حكومة عمالية. بل تم تقاسمها بين سوفييتات (مجالس) نواب العمال والجنود، الذين يمثلون الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين [!] (كان الجزء الأكبر من الجنود فلاحين) وبين الحكومة المؤقتة الرأسمالية التي كانت تسلم لها طوعا [!] سلطتها» Cogito)، الصفحة11)

هذا رائع حقا! كانت ثورة فبراير ثورة برجوازية أنجزت من قبل العمال والفلاحين الذين شرعوا “طوعا” يسلمون سلطتهم إلى الرأسماليين. لكن السؤال هو: كيف وصل العمال والفلاحون إلى تسليم السلطة “طوعا”، إلى البرجوازية التي، “كما توقع لينين”، كان من المحتم أن تلعب، وقد لعبت فعلا، دورا معاديا للثورة؟ إن الجواب على هذا السؤال يقدمه لينين نفسه. لقد تعامل لينين بازدراء مع هؤلاء الذين كانوا يأكدون على أنه يجب على البروليتاريا أن تطيع “القانون الحديدي للمراحل التاريخية”، وأنه لا يمكنها “تخطي فبراير”، وعليها أن “تمر من مرحلة الثورة البرجوازية”، والذين حاولوا بذلك إخفاء جبنهم وارتباكهم وعجزهم، من خلال الاختباء وراء “العوامل الموضوعية”.

«لماذا لا يأخذون السلطة؟ يقول ستيكلوف: لهذا السبب وذاك. إن هذا هراء. الحقيقة هي أن البروليتاريا ليست منظمة وواعية طبقيا بما فيه الكفاية. يجب أن نعترف بهذا: إن القوة المادية في يد البروليتاريا لكن اتضح أن البرجوازية مستعدة وواعية طبقيا. هذه حقيقة بشعة، وينبغي أن نعترف بها بصراحة ووضوح، وينبغي أن نقول للشعب بأنهم لم يأخذوا السلطة لأنهم كانوا غير منظمين وغير واعين بما فيه الكفاية». (لينين، الأعمال الكاملة، المجلد 36، الصفحة 437، التشديد من عندنا)

لم يكن هناك أي سبب موضوعي لعدم قيام العمال – الذين امسكوا بزمام السلطة في أيديهم- بإسقاط البرجوازية في فبراير 1917، لا سبب سوى عدم الاستعداد، والافتقار إلى التنظيم وقلة الوعي. لكن هذا، كما أوضح لينين، كان مجرد الوجه الآخر للخيانة البشعة لثورة العمال من طرف كل تلك الأحزاب التي كانت تسمى أحزاب العمال والفلاحين. لولا تواطؤ المناشفة والاشتراكيين الثوريين داخل السوفييتات، لم يكن يمكن للحكومة المؤقتة أن تستمر ولو ساعة واحدة. هذا هو السبب الذي جعل لينين يوجه أشد الانتقادات اللاذعة لتلك العناصر داخل القيادة البلشفية الذين ربطوا الحزب البلشفي نفسه بعربة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، مما أدى إلى نشر البلبلة واللبس بين صفوف الجماهير، وانحرف بهم عن الطريق إلى السلطة.

في محاولة للتشكيك في موقف تروتسكي، الذي صار الآن متطابقا مع موقف لينين، لا يعمل مونتي جونستون سوى على تكرار كل الهراء القديم الذي استخدمه كامينيف وشركائه ضد لينين في عام 1917. إن محاولاته الحفاظ على شعار “الديكتاتورية الديمقراطية” في وجه الثورة الدائمة غير نزيهة على الإطلاق. وبالتالي، فإن نفس المؤلف الذي يحاول أن يستخلص منه الاقتباسات للدفاع عن هذا الشعار – رسائل حول التكتيك- هو على وجه التحديد المؤلف الذي دفن فيه لينين نهائيا ذلك الشعار:

«كل من يتحدث اليوم عن “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين” يتأخر عن موكب الحياة، وينتقل، بالتالي عمليا، إلى معسكر البرجوازية الصغيرة ضد الصراع الطبقي البروليتاري. إنه يستحق أن يرسل إلى أرشيف التحف “البلشفية” ما قبل الثورة (الذي يمكن أن يسمى أرشيف “البلاشفة القدماء”)». (لينين: رسائل حول التكتيك، المؤلفات المختارة، المجلد 6، الصفحة 34)

وفي إشارة منه إلى قوة الطبقة العاملة وعجز الحكومة المؤقتة، قال لينين:

«هذا الواقع لا ينطبق على المخططات القديمة. ينبغي على المرء أن يعرف كيف يكيف المخططات وفقا للوقائع، لا أن يردد كلمات حول “ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين”… كلمات صارت عموما بدون معنى» (لينين، المؤلفات المختارة، المجلد 6، الصفحة 35)

وأضاف:

«هل تعكس صيغة الرفيق كامينيف البلشفية القديمة التي تعلن أن “الثورة البرجوازية الديمقراطية لم تنته بعد” هذا الواقع؟ كلا إن هذه الصيغة قد شاخت. ولم تعد تصلح لشيء. إنها صيغة ميتة. وكل محاولة لبعثها وإحياءها ستكون بدون جدوى.» (المرجع نفسه، الصفحة 40)

جميع جهود مونتي جونستون هي من دون جدوى. لينين نفسه تجاهل تماما شعار “الديكتاتورية الديمقراطية” في أبريل 1917. وأولئك الذين تعلقوا به لم يفعلوا ذلك بنية الدفاع عن “اللينينية” ضد “التروتسكية”، بل من أجل تغطية استسلامهم المذل لإصلاحية المناشفة. وإذا كان بإمكان لينين، في عام 1917، أن يزدري كثيرا أولئك الذين حاولوا إحياء صيغة “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين” “الميتة… بدون معنى…بالية”، ماذا يمكننا أن نقول عن مونتي جونستون وقادة ما يسمى بالأحزاب الشيوعية، الذين يواصلون بعد مرور خمسين عاما على ذلك استخدام الشعار لأغراضهم الكلبية الخاصة والمعادية للثورة؟

الثورة الدائمة في الممارسة (2)

إذا كانت الإشارات إلى نظرية الثورة الدائمة في أعمال لينين قبل 1917 شحيحة، فإن الإشارات إليها بعد الثورة منعدمة. وقد نشر كتاب تروتسكي عن الثورة الدائمة في روسيا وترجم إلى العديد من اللغات (بما في ذلك الإنجليزية) من قبل الأممية الشيوعية أثناء حياة لينين، من دون كلمة احتجاج أو انتقاد من طرف لينين أو “أغلبية أعضاء اللجنة المركزية” الأسطورية. ومع ذلك، فإنه في الأعمال الكاملة للينين، التي نشرتها الحكومة السوفياتية بعد الثورة، تظهر ملاحظة عن تروتسكي تحتوي على المقطع التالي:

«قبل ثورة 1905 قدم نظريته الفريدة والتي تستقبل الآن بحفاوة حول الثورة الدائمة، مؤكدا أن الثورة البرجوازية عام 1905 ستنتقل مباشرة إلى ثورة اشتراكية والتي ستكون الحلقة الأولى في سلسلة من الثورات الوطنية».

نجد هنا وصفا دقيقا لنظرية الثورة الدائمة بعيدا عن لف جونستون ودورانه. “استقبلت بحفاوة” بعد ثورة أكتوبر لأنها توقعت بدقة أحداث عام 1917.

في الصفحات 14-15 من مقالته، يحاول مونتي جونستون ضرب مصداقية نظرية الثورة الدائمة بطريقته المعتادة القائمة على بتر “متوازن” للاقتباسات:

«من الغريب ألا نجد في أي مكان من الكتابات التي ألفها لينين والخطب التي ألقاها في الفترة ما بين أبريل 1917 وحتى وفاته (والتي تستغرق 23 مجلدا من المجلدات الـ 55 في الطبعة الروسية الجديدة) ولو تلميحا على أن لينين كان على علم “بتحوله” إلى تبني نظرية تروتسكي “الثورة الدائمة” – مع العلم أن لينين لم يتردد أبدا في الاعتراف بأخطاء الماضي. ومن جهة أخرى نجد أن تروتسكي يعترف في أكثر من مناسبة بالعكس. وهكذا أعادت أرضية المعارضة اليسارية سنة 1927 نشر إعلان تروتسكي ورفاقه إلى الأممية الشيوعية في 15 دجنبر 1926: “أكد تروتسكي للأممية أنه بخصوص تلك المسائل المبدئية التي تنازع على أساسها مع لينين، كان لينين على حق، وخصوصا حول مسألة الثورة الدائمة والفلاحين”. وفي رسالة إلى العضو السابق في “المعارضة اليسارية” بريوبراجينسكي، الذي لم يتقبل نظريته، اعترف تروتسكي قائلا: “لقد بقي شعار الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين تقدميا من الناحية التاريخية حتى فبراير 1917”. وحتى في كتابه “دروس أكتوبر” كتب قائلا إن لينين كان يهاجم من خلال شعار الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين مسألة التقدم نحو ديكتاتورية البروليتاريا الاشتراكية، بدعم من الفلاحين بطريقة ‘قوية وثورية شاملة’ – في تناقض تام مع بيان له عام 1909 حول أن: “سمات البلشفية المعادية للثورة تهدد بأن تصبح خطرا كبيرا… في حال انتصار الثورة”.»(Cogito، الصفحات 14-15)

إن حجة جونستون في ما يتعلق بغياب تعليق في مؤلفات لينين بعد عام 1917 بخصوص مسألة الثورة الدائمة تدين نفسها. لقد كان لينين دائما دقيقا بشأن المسائل النظرية. ولم يكن ليسمح لمسألة نظرية حول أي قضية هامة أن تبقى دون حل. فبما أنه لم يكتب أي جدال سياسي ضد نظرية الثورة الدائمة بعد عام 1917، وسمح بنشر أعمال تروتسكي حول هذه المسألة من دون تعليق، ووافق على إشارة في الطبعة الرسمية لأعماله المختارة معربا عن الاتفاق مع هذه النظرية، فقد كان هذا ممكنا فقط لأنه بعد أن تم حل تلك المسائل من خلال ثورة أكتوبر، كان متفقا تماما مع تروتسكي حول هذه المسألة. لم تكن المسألة متعلقة “بتبني” لينين لأفكار تروتسكي، كما سبق لنا أن أوضحنا. فبعد عام 1917، لم يعد لكل الخلافات السابقة بينهما حول تقييم الثورة الروسية (وهي الخلافات التي، على أية حال، كانت ذات طابع ثانوي) سوى مغزى تاريخي بحت. أما بالنسبة إلى “أخطاء” تروتسكي المزعومة، فإن تروتسكي كان دائما على استعداد، ليس فقط للاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها، بل بشرحها (وهو الشيء الذي لا يمكن بالتأكيد أن يقال عن قادة الحزب الشيوعي اليوم!) لقد شرحنا سابقا كيف أوضح تروتسكي خطأه بخصوص مسألة الحزب البلشفي. لكن فيما يتعلق بنظرية الثورة الدائمة، فإن “جريمة” تروتسكي الوحيدة التي لا يمكن للستالينيين أن يغفروها له أبدا – كانت هي أن نظريته تأكدت بشكل باهر من خلال الأحداث.

في الواقع، إن ما يهاجمه مونتي جونستون وغيره من “منظري” الحزب الشيوعي، تحت ستار انتقاد نظرية الثورة الدائمة، هو جوهر البلشفية الثوري وأسلوبها. في عام 1924 اخترع كامينيف وزينوفييف وستالين بكلبية أسطورة “التروتسكية” لخدمة مصالح صراعهم التكتلي ضد تروتسكي. وقد كسبوا في هذا الصراع تأييد قويا من قبل بيروقراطية الدولة والحزب، التي رأت فيه نهاية للاضطراب الثوري وبداية مرحلة من السلام و”النظام” يمكنهم خلالها التمتع بالامتيازات التي كانوا قد اكتسبوها خلسة. وكان تبني ستالين لـ “نظرية” الاشتراكية في بلد واحد أمرا لم يتمكن كامينيف وزينوفييف، الذين تربيا بروح الأممية عند لينين، من هضمه. قطعا مع ستالين — لكن الضرر كان قد حدث بالفعل. التزمت البيروقراطية بقوة أكبر بكتلة ستالين و”نظرية” الاشتراكية في بلد واحد. وقد كانت هجماتها الخبيثة والساخطة على “التروتسكية” و”الثورة الدائمة” مجرد تعبير عن رفضها للتقاليد الثورية البلشفية التي تتعارض مع مصالحها المادية.

أما ما يخص الاقتباس من أرضية المعارضة اليسارية فإن جونستون يعرف أن هذه الوثيقة لم تكن تعبيرا عن آراء تروتسكي الشخصية، بل عن أفكار كل المعارضة اليسارية – بما في ذلك زينوفييف وكامينيف. وفي حين كان هناك اتفاق على المسائل الجوهرية في الصراع ضد الستالينية — التصنيع والتجميع والديمقراطية العمالية والأممية، وغيرها- فإن كامينيف وزينوفييف استمروا يتبنون موقفا مختلفا بخصوص المسائل الأخرى. وقد كان المقتطف بخصوص الثورة الدائمة الذي نقله مونتي جونستون واحدا من المواقف العديدة التي عارضها تروتسكي لكن نتيجة التصويت كانت ضده لصالح كامينيف وزينوفييف. ومن أجل الوحدة حول المسائل الأساسية ضد ستالين، وافق تروتسكي على هذا. تتضمن كتاباته دفاعا ثابتا عن هذه النظرية، التي كان كامينيف وزينوفييف غير مستعدين لقبولها جزئيا بسبب الدور الذي اضطلعا به في أكتوبر بخصوص مسألة “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”.

أما فيما يتعلق بالاقتباس من الرسالة إلى بريوبراجنسكي، فسيجد القارئ أنه ليس هناك أي تناقض على الإطلاق بين الموقف المتضمن في هذه الرسالة وبين نظرية الثورة الدائمة. لقد اعتبر تروتسكي دائما موقف لينين موقفا تقدميا، وقريبا من موقفه، في مقابل موقف المناشفة. ويظهر هذا بشكل واضح جدا في كتاب “دروس أكتوبر”. مونتي جونستون يقتبس (مع “الإيجاز” المعهود) من هذا الكتيب، لكنه لا يفسر لماذا كتب، ومتى كتب، أو ماذا جاء فيه. لقد كتب المؤلف عام 1923، بعد هزيمة الحركة الثورية في ألمانيا، والتي تعود إلى حد كبير إلى تخبط ستالين وزينوفييف.

يشرح تروتسكي في هذا الكتيب حتمية وقوع أزمة القيادة في وضع ثوري بسبب الضغط الهائل من قبل “الرأي العام” البرجوازي حتى على القيادة الثورية الأكثر صلابة. سبق لإنجلز أن أوضح أنه قد تمر أحيانا عقود قبل اندلاع وضع ثوري، ثم يمكن أن يتكثف عقدان أو ثلاثة عقود في أيام قليلة؛ فإذا ما فشلت القيادة الثورية في الاستفادة من الوضع فقد تضطر إلى الانتظار عشرة أعوام أو عشرين عاما لكي يعود مثل ذلك الوضع إلى الظهور. إن التاريخ الحديث مليء بالأمثلة عن هذا، رغم أن هذا لا يظهر في عمل مونتي جونستون أو تقاليد الأحزاب الشيوعية التي اكتشفت وحتى تبنت “الطريق المنشفي إلى الاشتراكية”.

يفسر تروتسكي سلوك قادة الحزب الشيوعي الألماني وقيادة ستالين زينوفييف بكونه استبدالا للبلشفية بالمنشفية، على طريقة فبراير عام 1917. وكما كان الحال في عام 1917، برر الانتهازيون موقفهم من خلال نظريات بالية – بما في ذلك “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”. لا يعدم الانتهازيون أبدا بعض “النظريات” الملائمة لتبرير جبنهم: وهكذا فإن “منظري” الحزب الشيوعي، برروا خيانتهم لثورة ماي عام 1968 بفرنسا، من خلال تشويه مقدمة إنجلز لكتاب الحرب الأهلية في فرنسا، والتي استخدمت لتشويه سمعة الثوريين من قبل التحريفيين الاشتراكيين الديمقراطيين طيلة ثمانين سنة!

ولكي نوضح بشكل جلي ملامح “موضوعية” الرفيق جونستون، دعونا نقتبس بالكامل ما قاله تروتسكي في كتابه دروس أكتوبر عن “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”:

«لقد عبر لينين، حتى قبل 1905، عن الطبيعة الخاصة للثورة الروسية في صيغة: “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”، إن هذه الصيغة في حد ذاتها لا تستمد معناها، كما أبان عن ذلك التطور التاريخي المستقبلي، إلاّ باعتبارها مرحلة نحو الديكتاتورية الاشتراكية للبروليتاريا التي يسندها الفلاحون. لقد كان تحديد لينين للمسألة، ثوريا وديناميكيا جدا، يتعارض جذريا مع الصيغة المنشفية القائلة بأن روسيا لا يمكن لها أن تطمح سوى إلى تكرار تاريخ البلدان المتقدمة، أي بأن تكون البرجوازية في الحكم، والاشتراكيون الديمقراطيون في المعارضة. إلا أن هناك في حزبنا من يشدد ليس على كلمة ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين في صيغة لينين، بل على طبيعتها الديمقراطية كنقيض لطبيعتها الاشتراكية. ومرة أخرى لا يمكن لهذا أن يعني سوى أن الشيء الوحيد المعقول في روسيا، البلد المتأخر، هو الثورة الديمقراطية. الثورة الاشتراكية يجب أن تبدأ في الغرب أولا، أما نحن فلا نستطيع أن نسير في الطريق الاشتراكي إلا بعد إنجلترا وفرنسا وألمانيا. ولكن وجهة النظر هذه تلقي بصاحبها بصورة حتمية بين أحضان المنشفية، وهذا ما تجلى تماما سنة 1917 عندما طرحت مهام الثورة أمامنا، ليس للتشخيص بل لاتخاذ إجراءات حاسمة.

«أن يتبنى المرء، في ظل الأوضاع الحالية للثورة، موقف دعم الديمقراطية مدفوعا إلى خلاصته المنطقية التي هي معارضة الاشتراكية، على أساس أنه لم يحن أوانها بعد، معناه في السياسة الانتقال من موقف بروليتاري إلى موقف برجوازي صغير. معناه الانتقال إلى الجناح اليساري في الثورة الوطنية.» (The Essential Trotsky الصفحة 122)

ماذا حدث في روسيا عام 1917؟ وفقا لمونتي جونستون شهدت ثورة فبراير انجاز المرحلة البرجوازية الديمقراطية للثورة. ومثلت ثورة أكتوبر المرحلة الاشتراكية. لكن ثورة فبراير، من جهة، لم تحل أيا من مهام المرحلة البرجوازية الديمقراطية. ومن جهة أخرى بدأت الثورة الاشتراكية بإنجاز التدابير الديمقراطية البرجوازية، وبخاصة الثورة الزراعية. يخفي مونتي جونستون حيرته (ويعمق حيرة قراءه!) من خلال الاستيلاء على اقتباسات مبتورة من لينين – من خلال خلط تعسفي وغير صحيح مطلقا لأجزاء مبتورة من كتابات لينين لعام 1905 بجدالاته ضد “البلاشفة القدماء” عام 1917! إننا نسأل الرفيق جونستون: كيف يمكن للثورة الديمقراطية البرجوازية أن تكتمل، بينما هي لم تعالج أيا من المسائل الأساسية المطروحة أمامها؟

كيف تمكن البلاشفة من حشد الدعم للثورة الاشتراكية على أساس شعارات ديمقراطية برجوازية: (“السلام، الخبز، والأرض”)؟

في ذروة اليأس قال مونتي جونستون بدون تفكير:

«لقد تطلب الأمر ثورة أكتوبر وإقامة دكتاتورية البروليتاريا، لتنفيذ تلك المهام الديمقراطية البرجوازية التي لم يتم إنجازها أو إكمالها ما بين فبراير وأكتوبر» (Cogito الصفحة 12)

صحيح أيها الرفيق جونستون! لكن هذا هو بالضبط جوهر نظرية الثورة الدائمة. ففي ثورة أكتوبر قامت البروليتاريا، بالتحالف مع الفلاحين الفقراء، أولا بحل المشاكل الأساسية للثورة البرجوازية الديمقراطية، ثم انتقلت، دون انقطاع، إلى تنفيذ التدابير الاشتراكية. هنا تكمن الطبيعة “الدائمة” والغير منقطعة للثورة الروسية.

يمكننا أيضا أن نسأل مونتي جونستون عن المهام التي تمت “معالجتها أو تم إنجازها بين فبراير وأكتوبر”؟ لم تنجز مهمة توزيع الأراضي على الفلاحين. ولا إقامة السلام الديمقراطي. ولا حتى إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي! هل قامت بإلغاء النظام الملكي؟ ولكن حتى هذا بقي معلقا: فالهدف الأصلي لأبطال “الديمقراطية” الروسية كان هو إنشاء نظام ملكي دستوري.

كان “حلفاء” الطبقة العاملة البرجوازيون الديمقراطيون، الذين يقف مونتي جونستون أمام “انجازاتهم” بخشوع ديني، هدفا دائما للنقد اللاذع من قبل لينين، الذي سخر صراحة من عجزهم:

«هؤلاء الجبناء، والنرجسيون المختالون وأشباه هاملت التافهون يلوحون بسيوفهم الخشبية، لكنهم لم يحطموا حتى النظام الملكي! لقد قمنا بتطهير كل الوحل الملكي كما لم يفعله أحد في أي وقت مضى. إننا لم نبق ولو حجرا واحدا ولو طوبة من ذلك الصرح القديم ومن النظام العقاري الاجتماعي القائم (حتى في البلدان الأكثر تقدما، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لم يتم القضاء تماما على بقايا هذا النظام حتى يومنا هذا!). لقد اجتثتنا النظام العقاري الاجتماعي، الذي هو بقايا الإقطاع والقنانة في نظام ملكية الأرض من أعمق جذوره. “قد يقول قائل”: (وهناك الكثير من الكتاب الصاخبين والكاديت والمناشفة والاشتراكيين الثوريين في الخارج من يطرحون مثل هذه الحجج) ما هي “على المدى الطويل” نتائج الإصلاح الزراعي الذي ستنفذه ثورة أكتوبر العظمى. ليست لدينا الرغبة حاليا في إضاعة الوقت في مثل هذه الجدالات، لأننا نقرر في ذلك، وكذلك في جملة من الجدالات المصاحبة لها، عن طريق النضال. لكن لا يمكن إنكار حقيقة أن الديمقراطيين البرجوازيين الصغار “تصالحوا” مع ملاك الأراضي، مع الأوصياء على تقاليد القنانة، طيلة ثمانية أشهر، في حين أننا كنسنا تماما كبار ملاك الأراضي وجميع تقاليدهم من الأرض الروسية في غضون أسابيع قليلة.» (لينين، الأعمال المختارة، المجلد 33، الصفحات 52-53)

كانت الحقوق الديمقراطية التي تمكن العمال من تحقيقها في عام 1917 ثمرة لنضالاتهم، وليس “هدية” من “أشباه هامليت التافهين” والبرلمانية البرجوازية! في واقع الأمر، تحت غطاء الحكومة المؤقتة “الديمقراطية” كانت الردة الرجعية تحضر (تماما مثلما حصل لاحقا في ظل حكومات الجبهة الشعبية في فرنسا واسبانيا) لهجوم مضاد دموي ضد حركة الجماهير الذين ذهبوا “أبعد مما يجب”. وقد أشارت محاولة انقلاب كورنيلوف المعادي للثورة في غشت- شتنبر 1917، بدعم وتشجيع من قبل البرجوازية، إلى إفلاس كل نظام الديمقراطية البرجوازية الفاسد في روسيا. ومن أجل إلحاق هزيمة ساحقة بالقوى الرجعية وإنجاز مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية، كان من الضروري على العمال والفلاحين انتزاع زمام السلطة من الأيدي المرتجفة “للديمقراطيين” الخونة المتذبذبين. هذا هو الدرس الذي ما يزال القادة “الشيوعيون” اليوم يرفضون بعناد تعلمه ؛ إن “جبهاتهم الشعبية” في اليونان، وإسبانيا وفرنسا وغيرها ستمهد الطريق لهزائم دموية جديدة للطبقة العاملة ما لم يتم القطع بشكل حاسم مع سياسات التعاون الطبقي المنشفية الفاسدة.

خلال ثورة فبراير، أطيح بالقيصرية بالضبط بفضل حركة العمال في المدن، الذين انضم إليهم بعد ذلك الفلاحون بالزي العسكري. أما بالنسبة للبرجوازية وأحزابها “الديمقراطية الليبرالية” فلم تلعب أي دور على الإطلاق. كانت السلطة الحقيقية في أيدي سوفييتات العمال والجنود. بينما كانت الحكومة المؤقتة معلقة في الهواء، محرومة من أي قاعدة دعم، لكن المناشفة والاشتراكيون الثوريون الجبناء كانوا مستعدين لتسليمها السلطة طوعا! الشيء الذي كان ضروريا بالنسبة للعمال والفلاحين، كما فهم لينين وتروتسكي بشكل واضح، هو الانتظام من اجل تحويل “ازدواجية السلطة” هذه (التي نتجت عن خيانة المناشفة والاشتراكيين الثوريين) إلى سلطة عمال حقيقية.

كان ماركس وانجلز قد أوضحا طبيعة الدور الجبان والمعادي للثورة للبرجوازية الألمانية في عام 1848 بسبب خوفها من حركة الطبقة العاملة التي وقفت بتهديد وراءها في صراعها ضد الإقطاع والاستبداد. وقد كانت البرجوازية الروسية، بعد ستين عاما، أكثر عجزا عن التشبه ببطولة إخوتها الطبقيين عام 1789. في كتابه “تاريخ الثورة الروسية” شرح تروتسكي أن تأخر التطور الرأسمالي في روسيا استبعد إمكانية لعب البرجوازية الروسية أي دور ثوري. فمن جهة تميزت الصناعة الروسية، التي استفادت من التقنيات المكتسبة من الرأسمالية الغربية، بتمركز عال للغاية مع عدد كبير من العمال مكدسين معا، في ظل ظروف سيئة، في مدن قليلة، يهددون البرجوازية بشبح كومونة باريس جديدة في حالة اندلاع انتفاضة ثورية جماهيرية.

ومن جهة أخرى، كانت البرجوازية الروسية تعتمد اعتمادا كبيرا على الاستثمار والقروض من خزائن الرأسمال الدولي:

«لقد تحددت الطبيعة الاجتماعية للبرجوازية الروسية وشكلها السياسي من قبل ظروف نشأة الصناعة الروسية وبنيتها. والتركيز الشديد لهذه الصناعة وحده يعني انعدام أي تدرج لفئات انتقالية بين القادة الرأسماليين وبين الجماهير الشعبية. ونضيف إلى هذا أن ملكية القطاعات الصناعية الرئيسية والبنوك ومؤسسات النقل كانت في أيدي الأجانب، الذين لم يكونوا يكتفون بالحصول على الأرباح من وراء استثماراتهم في روسيا، بل كانوا يسعون أيضا إلى النفوذ السياسي في برلمانات البلدان الأجنبية، ولذلك فإنهم لم يستنكفوا فقط عن دعم النضال من أجل نظام برلماني في روسيا، بل إنهم عارضوه في كثير من الأحيان: ويكفي أن نشير إلى الدور المخجل الذي لعبته الحكومة الفرنسية. كانت تلك هي الأسباب الأساسية المتأصلة للعزلة السياسية للبرجوازية الروسية وطبيعتها المعادية لمصالح الشعب. بينما كانت في فجر تاريخها غير ناضجة بما يكفي لانجاز الإصلاح، فإنها عندما حان الوقت لكي تقوم بقيادة الثورة كانت قد تعفنت». (تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية، المجلد 1، الصفحة 32)

وهذه الميزات ليست شيئا خاصا بالبرجوازية الروسية، إنها، مع اختلافات طفيفة وصف دقيق لطبيعة البرجوازيات “الوطنية” في كل البلدان المتخلفة، والشبه مستعمرة. لقد صب لينين جام غضبه على المناشفة بسبب تبنيهم لسياسة التعاون الطبقي، وتبنيهم لسياسة “الجبهة الشعبية” (التي كانت كذلك على الرغم من أن المناشفة لم يستخدموا هذه الكلمة لوصفها)، وانبطاحهم لما يسمى بالأحزاب “اللبرالية البرجوازية الديمقراطية”، بحجة أن البرجوازية قوة “تقدمية” في النضال ضد الاستبداد. لكن ماذا كان ليقول لو شهد سياسة التعاون الطبقي الأكثر وقاحة التي تتبناها الأحزاب الشيوعية في كل مكان في العالم اليوم: في اليونان وإسبانيا وإندونيسيا والهند؟ لم تلعب البرجوازية “الديمقراطية” في أي مكان أي دور سوى أسوء أدوار الفساد ومعاداة الثورة. وحتى الآن لم تتبن قيادات الأحزاب الشيوعية، سياسة طبقية لينينية مستقلة تجاه السياسيين الديمقراطيين البرجوازيين.

إن “نظرية” “المراحل” الستالينية، والتي تغنى بها بشكل ممل “منظرو” الحزب الشيوعي بمن فيهم مونتي جونستون، هي تشويه كاريكاتوري فظ وميكانيكي لأفكار لينين. ما الذي يمكن لمونتي جونستون أن يقوله عن الثورة الألمانية عام 1918 أو الإضرابات الايطالية المصاحبة بالاعتصامات عام 1920؟ في الحالة الأولى، استولى العمال الألمان على السلطة بثورة غير دموية، لكنهم تعرضوا للخيانة من طرف “الزعماء” الاشتراكيين الديمقراطيين، الذين وباختبائهم وراء الطبيعة “البرجوازية الديمقراطية” للثورة “سلموا طوعا” (!) السلطة للبرجوازية! هل كانت تلك، كما ادعى القادة الاشتراكيون الديمقراطيون، “المرحلة الديمقراطية” للثورة الألمانية، أيها الرفيق جونستون؟ إذا كان الأمر كذلك، لماذا إذن ندد لينين بالقادة الاشتراكيين الديمقراطيين لخيانتهم للثورة الاشتراكية؟

وقد جرت سيرورة مماثلة في ايطاليا عام 1920، حيث خلقت موجة هائلة من الإضرابات المصاحبة بالاعتصامات وضعا ثوريا: وقد أدى فشل القادة الاشتراكيين في تقديم مخرج ثوري واضح إلى هزيمة العمال الإيطاليين وتسبب بشكل مباشر في صعود موسوليني إلى السلطة. وكما كان الحال بالنسبة للقادة الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان، برر القادة الإيطاليون عجزهم بحجة أن الجماهير “ليست مستعدة” للثورة الاشتراكية. لكن إذا كان لينين قد هاجم بشدة قادة الحزب الاشتراكي الإيطالي لعجزهم عن تقديم برنامج ثوري، ما الذي كان ليقوله بخصوص “قادة” الحزب الشيوعي الفرنسي في الإضراب العام في مايو 1968 والذي كان أكثر عمقا وأوسع نطاقا من الحركة في ايطاليا عام 1920؟

لقد وضع الانتهازيون من مختلف المشارب مسؤولية الهزائم دائما على كاهل الجماهير الذين يزعمون أنها “غير مستعدة” للاشتراكية. لكن كل تاريخ السنوات الخمسين الماضية يظهر مرارا وتكرارا استعداد الطبقة العاملة للنضال وتقديم التضحيات البطولية من أجل تحقيق التحول الاجتماعي. “لماذا نلقي باللوم دائما على القادة؟” يتسائل “منظرو” الحزب الشيوعي لعام 1968، مرددين صدى العبارات الساخطة لأمثال كاوتسكي وشيدمان وسيراتيس سنوات 1918- 1920. فبعد أن فقدوا كل ذرة ثقة في قدرة الشعب العامل على تغيير المجتمع، يقف البيروقراطيون المتعجرفون عاجزين عن تصور أي علاقة بين غبائهم البرلماني وبين عجز الجماهير، بدون قيادة ثورية واعية، عن تطوير حركتها إلى نهاية ظافرة.

ما هي الدروس التي استخلاصها قادة الحزب الشيوعي من كل هذا؟ يستخدم مونتي جونستون اقتباسات من بعض جدالات لينين. لكنه لم يختر الاقتباس من بعض جدالات لينين العديدة ضد المناشفة، الذين حاولوا تقييد البروليتاريا الروسية بعربة البرجوازية “التقدمية”، “الليبرالية”. لماذا لا يقتبس من هجمات لينين العديدة ضد التعاون الطبقي وتأكيده على أن العمال والفلاحين الثوريين هما الطبقتان الوحيدتان القادرتان على إنجاز مهام الثورة الديمقراطية؟

مونتي جونستون لا يرى، في كل كتابات لينين، على ما يبدو، سوى إدانة طويلة لبدعة الثورة الدائمة. انه لا يرى شيئا ذا صلة بالسياسات المنشفية الوقحة لستالين في الصين خلال 1925-1927. انه لا يرى شيئا متصلا بالحزب الشيوعي الكوبي الذي دعم نظام باتيستا باعتباره “قوة تقدمية معادية للولايات المتحدة” في الثلاثينات، والذي ندد بكاسترو باعتباره “مغامرا برجوازيا صغيرا”، ولا بالحزب الشيوعي العراقي الذي أشاد بقاسم، باعتباره المحرر العظيم، حتى اللحظة التي بدأ في إطلاق النار عليهم، وإجبارهم على السرية! وقد تبنى الرفاق السوفيات سياسة حسن الجوار تجاه شاه بلاد فارس “التقدمي”، والتي تضمنت تسليم اللاجئين السياسيين من اجل إعدامهم رميا بالرصاص. والرفاق الإندونيسيون، بسياستهم “اللينينية” المتمثلة في كتلة “الفلاحين والعمال والمثقفين والبرجوازية الوطنية والأرستقراطيين التقدميين وجميع العناصر الوطنية” انبطحوا أمام الديكتاتور “التقدمي” سوكارنو، وهو الشيء الذي نتج عنه ذبح نصف مليون شيوعي دون مقاومة. وقد تنافست الصين وروسيا مع بعضهما البعض في مدح أيوب خان “المناضل الباسل المعادي للامبريالية”، حتى أطيح به من قبل العمال والفلاحين الباكستانيين.

ليست هذه سوى عينات قليلة من التوجه “اللينيني” لقيادات الأحزاب “الشيوعية” اليوم. وتحت ذريعة الولاء لشعار “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”، يسعون في كل مكان لتطبيق سياسة التعاون الطبقي التي هي نفس ما أطلق عليه تروتسكي، “صورة كاريكاتورية خبيثة للمنشفية”.

سيصاب العديد من الرفاق في الحزب الشيوعي ورابطة الشيوعيين الشباب بالارتباك بسبب ترهات مونتي جونستون حول الثورة الدائمة. ونأمل أن نكون قد وضحنا بعض النقاط هنا. إن نظرية الثورة الدائمة ليست تلك المسألة النظرية المعقدة والقاحلة كما يظهرها جونستون، بل هي خلاصة كامل تجربة الحركة الثورية في روسيا خلال ثورة أكتوبر. ومن دون فهم واضح لهذه المسائل، لن يكون في مقدور أي ماركسي أن يفهم الوضع العالمي الحالي. وسوف تتكرر مآسي اندونيسيا واليونان وباكستان. على جميع الاشتراكيين الجادين تعلم الدروس المستفادة من هذه الأحداث لإعداد أنفسهم من الناحية النظرية للدور المستقبلي الذي يجب عليهم أن يضطلعوا به في بريطانيا وعالميا.

http://www.marxist.com/lenin-and-trotsky-arabic-ch4.htm