إعلام الثورة المضادة في مرحلة ما بعد التحول! سليم عزوز

العالم يعيش مرحلة ما بعد الحداثة، وفي مصر نعيش مرحلة ما بعد التحول، والأولي تعبر عن اليأس من الحداثة والبحث عن خيارات جديدة، وفي الثانية فان اليأس دفع من تحولوا إلي العودة لمرحلة ما قبل التحول علي قاعدة من ‘ فات قديمه تاه’.
لقد تكلمنا كثيراً إلي حد الملل عن ظاهرة تحول الإعلاميين في مصر بعد الثورة، حتي اختلط الزيت بالماء، ولم نعد نميز بين الثوري الحقيقي والثوري المزيف، ورأينا قادة جدد للثورة كانوا من ‘ سدنة المعبد القديم’، وفضائية ‘ مصر 25’ تعرض لقطات لهؤلاء في مرحلة ما قبل التحول، ورأينا كيف كان هؤلاء يدافعون عن النظام الفاسد، ويسيئون للثوار، وكانت قناة ‘ الحياة’ لصاحبها السيد البدوي شحاتة رئيس حزب الوفد رافد من روافد تلفزيون الريادة الإعلامية، وكذلك قناة نجيب ساويرس ‘ اون تي في’، وهو الرجل الذي نجح بأمواله بعد تنحي الرئيس المخلوع في أن يصور نفسه علي انه كان المحرض علي الثورة ومن وقي الثوار من برد الشتاء ومن الجوع الكافر، ووجد من يؤب معه!.
كان عبد اللطيف المناوي في التلفزيون الرسمي وكانت السيدة حرمه في تلفزيون رئيس حزب الوفد ‘ المعارض’، وتأييد النظام الساقط كان يتم بالجملة وليس بالقطاعي، فعائلات كاملة كانت تؤيده، كعائلة المناوي وعائلة أديب التي تضم ثلاثي أضواء المسرح: عماد وعمرو ولميس بنت أبيها.
‘ مصر 25’ دليل من لحم ودم علي فشل الإعلام الاخواني، واعلام الاخوان الذين حصلوا علي الأغلبية في انتخابات البرلمان وفاز مرشحهم بالانتخابات الرئاسية يبدو كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وهم يتعرضون لحملة إبادة إعلامية، تجعلهم يبدون لدي المشاهد كما لو كانوا من الهنود الحمر، وفضائيتهم عندما تهتم الآن بعرض لقطات للمتحولين فان القائمين عليها يؤكدون بما يفعلون أن حساباتهم قائمة علي التوقيت الشتوي ونحن في عز الصيف، وصيف القاهرة هذا العام يجعلك تظن انك تسكن بجوار مبني ‘ قناة الجزيرة في قطر’، لم يبق إلا أن تفتح النافذة فتشاهد خديجة بن قنة تهرول لتلحق بموعد موجز الأنباء، بينما يرقبها جمال ريان فيتمني ان يطير كعب حذائها في الهواء فتقع علي وجهها ليحل هو محلها ويقرأ الموجز.. لكن من يقوي علي فتح النافذة في هذا الجو الذي يعني أن مناخ مصر لم يعد كما كان وكما كانوا يدرسون لنا في منهج الجغرافية: ‘حار جاف صيفاً دافئ ممطر شتاء’.
قد تكون لقطات ‘ مصر 25’ مهمة في مرحلة التحول لأنها كاشفة عن ان هؤلاء المتحولين كانوا منحازين لمبارك ونظامه وكانوا ضد الثورة والثوار وهم يقدمون أنفسهم للرأي العام علي أنهم من فجروا الثورة، لكنهم الآن في مرحلة الجهر بالمعصية فهم في مرحلة ما بعد التحول وقد ظنوا ان الفريق احمد شفيق سيفوز بمنصب رئيس الجمهورية، وسيعيد زمن مبارك الذي قال أكثر من مرة في حديث تلفزيوني انه قدوته، فظنوا ان الأيام الجميلة ستعود، وهم كانوا يجدون راحتهم الأبدية في ظل الفساد، الذي جرف البلاد وقام بقمع أصحاب الكفاءات الجادة، ليصبح الاحتفاء بالنطيحة والمتردية وما أكل السبع هو علامة تجارية لعصر مبارك، مما مكنهم من التمدد في المشهد الإعلامي وفي مناحي الحياة مؤكدين علي صدق الحكمة الشهيرة: ‘ قيراط حظ ولا فدان شطارة’.

اللحظة الحاسمة

ترشح الفريق شفيق ومن قبله عمر سليمان كان لحظة حاسمة في تاريخ المتحولين السابقين، فاحتشدوا وأعلنوا حقيقتهم ووقفوا مع الرجل بالباع والذراع، علي مظنة أن الدولة القديمة ستعود، لكن الذي حدث أن شفيق سقط وغادر البلاد إلي الإمارات، ومنذ فترة يقال انه سيذهب من هناك ليؤدي العمرة ويعود إلي مصر، وذلك رداً علي من يقولون انه هرب من سيل القضايا المرفوعة ضده، وعلي نحو يجعل الجاهل يظن أن العمرة تحتاج إلي قرن لتأديتها لولا أن الرئيس المنتخب أداها في ساعتين، وبعدها شاهدنا الفريق احمد شفيق في ملابس الإحرام، ولو فاز بالرئاسة لنشرت الصحف انه كان يؤدي العمرة في احدي الدول العربية، كما سبق و كتب رئيس تحرير ‘ فلتة’ من اختيار حسني مبارك والسيدة حرمه.. قد تكون البرازيل.
فلول الإعلام الذين تحولوا بعد الثورة كشفوا عن وجههم الحقيقي الان، فلم يكن بإمكانهم ان يتحولوا سريعاً من جديد فاندفعوا يسلخون الرئيس بألسنة حداد، مع انهم لم يكونوا يملكون جرأة انتقاد رئيس الدولة في السابق أو الرائد متقاعد صفوت الشريف وكثير منهم كانوا يعملون في بلاطه بالسخرة، وبعضهم كان يحسب علي المعارضة من حيث الشكل وعندما تشاهده وهو يهاجم هذا الوزير أو ذاك تظن انه زعيم المعارضة في البلاد، ولا تعلم أن هناك من حرضه علي القيام بهذا الدور وهو من يحمي الظهور المرتعشة، وكان المحرض الحامي هو صفوت الشريف، الذي كان يتصرف علي انه واحد من زعماء المافيا، وكان يعمل في خدمته كلاب السلطة ومن كان يتم حسابهم علي المعارضة، والذين بحثوا عقب الثورة عمن يخدمونه، ذلك بأن الخدمة في البيوت ‘ كيف’ بكسر الكاف، فانطلقوا يخدمون المجلس العسكري ويتقربون إليه بالنوافل، ويرشون بالنار من يرشه بالماء.
كان يمكن ان نعتبر وجود هذا التطاول علي شخص الرئيس من انجازات الثورة، لولا انه ينطلق من قاعدة المهام مدفوعة الآجر مقدماً، والبعض يظن انه بحصار الدكتور محمد مرسي والتطاول عليه والقضاء علي الهيبة المفترضة لمقام الرئاسة أمر من الممكن أن يدفع إلي إسقاطه، لتجري انتخابات جديدة وتعود مصر كما كانت، ويعود جهاز مباحث امن الدولة ليدير شؤون البلاد ولولاه لما كانوا في مقدمة الصفوف، وقد وعد الفريق احمد شفيق بعودته سالماً غانماً، وهو الذي بكي لسقوطه الإعلاميون المتحولون كما بكت الثابتة علي موقفها الهام شاهين، رمز الجمال والجودة، علي نحو جعلني أتمني أن يكون شفيق قد نجح حتي لا أري دموعها.. فدموعها غالية علي.
مصر تعيش الآن في مرحلة فرز حقيقي، لان مرحلة التحول ‘ خلطت أبو قرش علي أبو قرشين’، والجميع كانوا لا يكفون عن القول عندما كنا في ميدان التحرير وكأنه موشح جري فرضه علي الكافة حتي يحفظوه، وقد قرأت لواحدة تقول ‘ نحن قمنا بالثورة’ ‘ نحن كنا في التحرير’ ‘ نحن ضربنا بالقنابل’، وظننت ان ‘ نحن’ هذه عائدة علينا معشر المصريين وأنها تخاطب الأعراب، فإذا بي اكتشف أنها تقصد بنحن نفسها، مع أنها لم تكن في يوم من الأيام مع الثورة ولا في التحرير ولم تضرب بالتالي بالقنابل أو حتي برش الماء باعتباره تعبيرا عن العداوة.
ومما يؤسف له ان البعض ممن يحسبون علي الثورة دفعهم عداءهم للإخوان إلي الوقوف في صف الفلول في مرحلة ما بعد التحول وعلي أساس أن المصائب يجمعنا المصابينا.

عودة البرلمان

عندما اصدر الرئيس قراره المثير للجدل بعودة البرلمان، قلت إنها هدية غير متوقعة لبرامج ‘ التوك شو’ وللإعلاميين في مرحلة ما بعد التحول، ولان القرار في أصله وفصله مثل انقلاباً علي إرادة المجلس العسكري وتأكيدا علي أن الرئيس متمسك يصلاحياته، فان هناك من ظنوا أنها فرصة لانقلاب عسكري وشيك حددوا هم فيه موقعهم وانبعث أشقاها وهو من المحسوبين علي الثورة ليدعو المجلس إلي اعتقال الرئيس والقيام بانقلاب والسيطرة علي السلطة.. ثكلتك أمك!.
بدا لي أننا عدنا إلي زمن الإعلام الموجه، وأن هناك شخصاً او جهة هي التي تدير الإعلام في مصر وتوجه الإعلاميين، فانطلقوا يهاجمون الرئيس دفاعاً عن دولة القانون!.
كان واضحاً ان المجلس العسكري الذي اجتمع بعد صدور القرار ولم يصدر بياناً قد دفع بمن يقومون بالمهمة بدلاً منه، وكان من قدمهم هم الإعلاميين المتحولين في مرحلة ما بعد التحول، ومن يبتغون عنده العزة من القوي الاخري، وبعد قليل كنت علي أكثر من محطة فضائية وقلت لسنا في أزمة قانونية فهناك صراع بين الرئيس والعسكر وان القانون هو احد أدواته تماما كما ان المحكمة الدستورية العليا هي احدي أدوات هذا الصراع ومعها الإعلام.
كان قد سبق للمحكمة الدستورية العليا ان حلت مجلس الشعب، في حكم أحاطت به السياسة من كل جانب، فليست هذه المرة الأولي التي يتم الحكم فيه بعدم دستورية نص في قانون الانتخابات، فهذه هي المرة الرابعة، وفي المرات الثلاث لم تقض المحكمة بحل المجلس علي النحو الذي حدث هذه المرة.
لي كلام كثير في حق المحكمة الدستورية كتبته قبل الثورة وفي مناسبات متفرقة، وكيف عمل حسني مبارك علي تدميرها بعد مرحلة المستشار عوض المر، والذي وصفه هو في جلسة مع مقربين منه: لقد جعل حياتنا مر، وذلك عندما فاتحه مسؤول باقتراح بمد السن القانونية للقضاة لان المر علي وشك الخروج علي التقاعد.
وبعد الثورة أثيرت قضية الجهة التي تحمي الدولة المدنية وكان هناك إجماع من القوي المختلفة بأنه لابد من النص في الدستور الجديد علي ان الجيش هو من يحمي هذه الدولة فقلت في برنامج بقناة ‘ الحرة’ ان هذا ضد طبائع الأشياء فالجيوش قد يكون منوطا بها ان تحمي الأنظمة العسكرية، ولهذا فانا اقترح ان تكون المحكمة الدستورية هي من تحمي دولتنا الجديدة بعد تغيير قانونها علي نحو يحقق استقلالها فلا تعبث فيها يد عابث كما حدث في الخمسة عشر سنة الأخيرة.

دولة القانون

مناحة نصبت يا قراء، ومن برنامج لبرنامج، ومن فضائية لفضائية، تجد حالة من ‘ الشحتفة’ علي دولة القانون التي هدمها الدكتور محمد مرسي، الذي كرس بقراره لعدم احترام أحكام القضاء وغضبت المحكمة الدستورية وانعقدت الجمعية العمومية للتعبير عن حالة الغضب هذه، ولأول مرة تغضب محكمة لان أحكامها لم تنفذ، فهذه سابقة لابد وان تدفعنا للسؤال عمن يقف وراء ما يحدث!.
وصارت دولة القانون هي بمثابة قميص عثمان، مع أن احداً لم يقل بأي قانون يحكمنا المجلس العسكري إلي الآن، ومع ان أحدا لم يتنفس عندما اصدر المجلس قراره بحل مجلس الشعب بالمخالفة للقانون والإعلان الدستوري، ولم ينطق احد حزناً علي القانون المستباح عندما اغتصب لنفسه سلطة التشريع بعد قراره بحل البرلمان!.
وهذا هو ‘ بيت القصيد’، فالقرار الجمهوري استهدف سلطة المجلس العسكري فسحب قراره المنعدم بحل البرلمان ودعا مجلس الشعب للانعقاد، مما يعني ان حق التشريع انتقل من المجلس العسكري إليه، واحترم حكم المحكمة الدستورية فقال بأن الانتخابات الجديدة ستجري خلال شهرين من الاستفتاء علي الإعلان الدستوري، وفي ذات اللحظة تقدم محسوب علي الثورة بطعن للدستورية العليا ضد قرار الرئيس ومع انه لا يجوز للقاضي الذي أفصح عن رأيه أن يتصدي للحكم فقد حكم القوم
بوقف تنفيذ قرار الرئيس، وفي واقعة جرت في سنة 1990 قالت المحكمة الدستورية في حكم لها ان قرارات رئيس الجمهورية من أعمال السيادة التي لا تخضع لرقابة القضاء.
ما علينا فقد بدت المحكمة الدستورية جزءا من الصراع وأطلقت قاضية لديها لتخرج علي مقتضي الواجب الوظيفي ولتتحول إلي نجمة من نجوم برامج ‘ التوك شو’، وتهاجم الإخوان، وباعتبارها زعيمة الثورة مع ان من سوزان مبارك هي من عينتها في منصبها، وعلما بان هناك قرارا قديما للمحكمة الدستورية يحظر علي قضاتها الحديث في السياسة.
المشكلة انه بمجرد ان يغادر المجلس العسكري للثكنات سنعيش مرحلة ما بعد بعد الحداثة، وسيتراجع كل هؤلاء عن موقفهم المعادي للرئيس وسيتسابقون لكسب وده، لكن هناك من يثمن مواقفهم المتطاولة علي الرئيس الان.
انه إعلام الثورة المضادة الذي توحش وتسير.. وتسير في اللغة يعني يذكر سيرته الأولي.
صحافي من مصر

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=data%5C2012%5C07%5C07-13%5C13qpt997.htm