في الدولة الحديثة التي يفرض فيها القانون على الجميع، يمكن للناظر التمييز بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية بينما في دول الاستبداد وإن ظهرت بمظهر الدول الحديثة تبقى السلطات الثلاث فيها ليست إلا سلطة الرجل الواحد خاضعة إلى مصالحه وإرادته وقانونه يتصرف فيها كيفما شاء والمشيئة له وحدة!
تشكل هذه السلطات أعمدة الدولة الحديثة باستقلالها وتمايزها، وفي ظلها يعيش المجتمع بتنوعه واختلافاته العرقية والدينية ظاهرة صحية حميدة، إن وُجد فيها الاستبداد، فالمجتمع أول من يحاربه ويضيق عليه بالآليات القانونية المتاحة، بينما في دولة الرجل الواحد يصبح التنوع والاختلاف ظاهرة مرضية لا يمكن ضبط إيقاعها إلا برحمة ومشيئة من المستبد وحاشيته.
المستبد أحيانا قد لا يكون صانعا للصراعات الداخلية بين أطياف المجتمع وتياراته، الصراعات في ظل الاستبداد لا يصنعها إلا الحمقى وبعض الأذكياء المرتزقة!
والمستبد يوظف هذه الصراعات وينميها لصالحه، فإذا احتدم الأمر وحمي الوطيس بادر المستبد بالإصلاح بين الأطراف المتنازعة وعاقب المسيء منهم! فيُظهر نفسه أمام الإعلام والبُسطاء مظهر الحكيم العاقل الذي يضحي من أجل وحدة وطنه!
وفي أحايين أخرى قد تهدأ الصراعات وتخبو وربما تنتهي تماماً فيعيد المستبد إيقادها بأي شكل وبأي طريقة.
من فلسفة الاستبداد تخويف الشعب من بعضه البعض، فلا يثق شخص بآخر ولا تثق طائفة بأخرى، ينزع المستبد الثقة بينهم، وهم أبناء وطن واحد وأرض واحدة!! يستدعى المستبد في سبيل ذلك التاريخ وكل الأحداث والمصائب التي حدثت في أزمنة قديمة يُذكر كل طائفة بتاريخ الطائفة الأخرى.. لا يسمح لهم بالتفكير في المستقبل أبدا.
المستبد يوهم كل طائفة أنه هو الذي يحميها من عدوان الأخرى! ويشجع الناعقين من كُل الأطراف.. فتغيب العقول وكأن المختلفين حيوانات ستفترس بعضها لولا وجود صاحب العرش الحكيم موحدهم وجامع كلمتهم!
يتمادى المستبدون وزبانيتهم في توظيف التعدد الديني والعرقي فيجعلون التنوع والتعدد في صالحهم هم فقط دون الأوطان، وأستاذهم في ذلك فرعون فقد جاءنا خبره في القرآن الكريم إذ يقول تعالى “إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا..”، وشيعا أي: فرقا مختلفة جميعها في خدمته.
المستبد لا يعرف معنى الوطن ولا قيمته، يضرب المسلم بالمسيحي والسني بالشيعي والعكس، يُقرب هذا ويُبعد ذاك ثم يناديهم في مجلسه ليتحاوروا حول “التعايش” هذا الشعار الدعائي غير المفهوم!
فالتعايش في ذهن المستبد: أن يبقى هو على العرش مدى الحياة يسرق المال العام وينتهك القوانين ويتلاعب بالدين والثقافة والإعلام، والشعب يصمت ويوزع الابتسامات ويرفع صُوره في كل مكان فيبقى هو رمز التعايش! هذا التعايش الذي يريده كُل مستبد.
لا يخطر بباله أن التعايش الحقيقي يعني الاستقرار بالشراكة في الوطن.. شراكة في الرأي وشراكة في التربة شراكة في الحاضر والمستقبل. المستبد أفضل ما يملك الشعارات البراقة، فتارة تجده منبطحا للغرب متنكرا لثقافة المجتمع وتاريخه ينادي بأن دولته دولة مدنية متحضرة وأنه داعية للتنوير وإن اختلف معه أحد في فكرة هامشية أهلكه تنكيلا وتعذيبا كما كان يفعل الهارب زين الفاسدين بن علي في تونس.
وتارة تجد المستبد ينادي بأنه حامي لواء الشريعة، فيستبد بالناس ويهلك مخالفيه ويقمعهم ويفرض نفسه ورأيه عليهم بداعي أن دولته إسلامية وكأنه هو الإسلام ومن يخالفه فكأنما خالف الإسلام! وأقرب مثال لهذه الشعارات هو استبداد عمر البشير -الإسلامي- بالسلطة حتى ضاع نصف السودان الحبيبة.
المستبد يتعامل مع الدين كسلاح ووسيلة بقاء، ربما يكون متدينا في شخصه، لكن في الجانب السياسي العام ما لم تتوفر الرقابة والمُساءلة الشعبية على سياساته وعلى المال العام ومؤسسات الدولة فحتماً أن الدين سيبقى مجرد شعار وأداة جيدة لإضفاء الشرعية له ولتصرفاته.
في زمن الخلفاء الراشدين، كان الناس يسألون الخليفة عن كُل صغيرة وكبيرة بل ويعترضون عليه، وقصة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشهورة حينما قال: “ماذا تقولون لو ملت برأسي هكذا”، أي لو ملت عن الحق والعدل.. فقام إليه رجل وقال: أجل كنّا نقول بالسيف هكذا –وأشار إشارة القتل بسيفه- فقال عمر رضي الله عنه: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا اعوججت قومني بسيفه”! بالله عليكم أين هؤلاء الذين يزايدون بالشعارات الإسلامية اليوم من موقف ابن الخطاب رضي الله عنه؟
يُعبر الشخص عن رأيه اليوم فيمنع من السفر ويقطع رزقه بفصله من الوظيفة، وربما يغيب في السجون سنين عجاف بعيدا عن أهله وأبنائه بلا تُهمة أو محاكمة! ثم يشوه الإعلام والأقلام المرتزقة سمعته وتلفق له التهم، ليبقى تحت رحمة هذا المستبد وزبانيته وفق الضوابط الشرعية! الاستبداد ينتهك جمال الشريعة ويصادم مقاصدها وإن زينوه وشرّعوه.
http://alharah2.net/alharah/t40239.html