يدرك المنشغلون بعملية التطور الديمقراطى مدى صعوبتها، ولا أدل على ذلك من أن دولة مثل بوليفيا فشلت 26 مرة فى تحقيق الديمقراطية، ولم ينجح مسعاها إلا فى المحاولة رقم 27.
وإذا كان عالم السياسة الأمريكى البارز فيليب شميتر قد انتهى من أبحاثه المقارنة إلى أن المرحلة الانتقالية التى تفصل بين الاستبداد والديمقراطية يمكن أن تطول أو حتى تدوم إلى الأبد، فإن ما جرى فى بر مصر طيلة الشهور الماضية يضع مقولة شميتر موضع الاختبار ويشكك فى مصير المحاولة الأولى بعد الثورة للخروج من دائرة الاستبداد.
أطلت علينا ظاهرة التوظيف السياسى للدين بقوة بعد الثورة، وسمحت بفرز القوى السياسية على أساس دينى وليس موضوعيا، وحولت المساجد والزوايا إلى ساحات لتصفية الخلافات والتعبئة الانتخابية.
ومنذ اليوم الأول حذر كثيرون من خطورة هذه الظاهرة على عملية التطور الديمقراطى، لأنه فى مجتمع غير مسيس ومتدين بطبعه كالمجتمع المصرى فإن مساحة التسامح مع الاختلاف فى حالة السياسة أكبر بكثير منها فى شأن الدين. لكن أظن أن ما جرى فى صلاة عيد الأضحى فى عديد من الساحات والمساجد بطول الجمهورية يستحق منا وقفة جادة لأنه يمثل نقطة تحول خطيرة. تحريض وشحن لرئيس الجمهورية ضد المعارضة السياسية، وضد الفئات التى تستخدم حقها فى التظاهر والإضراب إلى حد مطالبته بأن يضرب على أيدى هؤلاء بيد من حديد. شجار فى أحد المساجد تسبب فيه نقد الخطيب لسلوك جماعة الإخوان فما كان من أنصار الجماعة إلا أن قاموا بالتشويش عليه ومقاطعته.
منع خطيب الأوقاف من أداء مهمته المكلف بها فى إمامة الصلاة وسط هلعه الشديد من أن يناله عقاب إدارى على تقصيره فى العمل. دعوة من فوق المنبر للتأسى بسلوك مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا لتتواصل بذلك الدعاية الانتخابية فى الداخل مع الحلوى ولعب الأطفال التى توزع فى الخارج. خوض فى إنجازات الرئيس بإحصاءات مغلوطة يستطيع أى مبتدئ التشكيك فيها، لكن الأصل أن خطبة العيد ليست كالندوة السياسية يُؤخذ منها ويُرد. المشهد بالكامل يبعث على القلق وأخطر ما فيه إعطاء الانطباع للحاكم بأن معه الضوء الأخضر ليضرب المعارضة، وكأن فى ذلك تأكيدا للهتاف الغريب الذى ردده الآلاف فى إستاد القاهرة فى ذكرى حرب أكتوبر: «حرية وعدالة مرسى وراه رجالة «، فهل هى مجرد مصادفة أن يتطاير التهديد والوعيد من الرئيس مرسى فى أول خطاب له بعد العيد من داخل جامعة أسيوط؟
●●●
ثم إن هناك منظومة قانونية يجرى الإعداد لها ومن شأنها تقييد الحقوق والحريات المدنية والسياسية، بدءا من إطلاق بالون اختبار بتعديل قانون الطوارئ ليكون جاهزا للتطبيق إذا ما استدعت الضرورة إعادة حالة الطوارئ التى تنفسنا منها الصعداء بالكاد منذ عدة أشهر، مرورا بالجدل المثار حول مشروع قانون حماية المجتمع من البلطجة الذى يعد هو نفسه بمثابة تنويع على قانون الطوارئ، وانتهاء بالقانون المنتظر لتنظيم المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات. فى حديث مع المستشار أحمد مكى وزير العدل على صفحتين كاملتين بجريدة الأخبار يوم 1 نوفمبر الماضى شرح مكى بعض تفاصيل القانون الجديد وكان أكثرها مثيرا القلق. فبموجب هذا القانون سيكون من حق وزارة الداخلية أن تتحفظ على زمان المظاهرة ومكانها و»تنصح» المتظاهرين بتغيير أيهما، وإن هى أرادت منع المظاهرة عليها اللجوء للقضاء لاستصدار أمر منع، وهذا معناه من الناحية الفعلية أن يكون حق التظاهر مرتبطا بالترخيص وليس بالإخطار.
كما أن حق الإضراب مكفول بشروط منها أن تقوم الجماهير بتشكيل جماعة للتعبير عن مطالبها وألا يتقاضى المضربون أجورا طيلة امتناعهم عن العمل، وهذا كلام خطير لأنه يخالف التنظيم الدولى لحق الإضراب الذى يحظر المعاقبة على استخدام هذا الحق طالما تبنت النقابة مطالبه، ولأنه يعلقه على شرط غامض هو تشكيل الجماهير جماعة للتعبير عن مطالبها، هذا مع العلم بأن الجماهير لا تضرب إنما الفئات المختلفة من عمال وموظفين إلخ. أما أخطر ما فى حديث وزير العدل فكان عن موقفه من حرية الصحافة التى أشار إلى أنه فقد حماسه لها ولن يستعيده إلا إن استعادت الجماعة الإعلامية وعيها، والقاعدة تقول إن الحق يثبُت لذاته وليس بحماسة المسئولين له.
●●●
بشكل عام فإن التعامل مع الإعلام كمشجب لأزمات نظام الحكم الواحدة منها تلو الأخرى بات نغمة تغلب على الخطاب السياسى الرسمى فى الآونة الأخيرة كما فى خطاب رئيس الجمهورية بأسيوط وحديث وزير العدل المشار إليه، وامتد ذلك إلى خطاب المنتسبين إلى التيار الدينى إلى حد بلغ مستوى غير مسبوق من الفجاجة كما فى شك أحدهم فى مقال نشرته جريدة الأهرام أن إذاعة مسرحية مدرسة المشاغبين فى العيد قُصد بها النيل من الرئيس بسبب عبارة وردت على لسان أحد أبطال المسرحية « مرسى ابن المعلم الزناتى اتهزم يا رجالة «. وفى الوقت الذى تُشن فيه حملة على الإعلام الذى يُوصف بتشويه الحقائق، يستمر إعلام آخر يحرض ضد المعارضة ويسبها ويحقر من شأنها. وكمثال فى 23 أكتوبر الماضى بثت قناة الحافظ الفضائية لقاء مع الشيخ على قطامش عضو مجلس الشعب السابق لمناقشته فى مستقبل الجمعية التأسيسية بعد الحكم الأخير للقضاء الإدارى، وفى هذا اللقاء وصف قطامش غير المنتمين للتيار الإسلامى « بالطراطير»، ونعت المعارضين منهم « بالكلاب الذين لا يصلح معهم إلا رجم الطوب»، فيما زايد عليه المذيع بالدعوة لضرب رءوسهم مشبها إياهم بـ«الغربان». وهذا مجرد غيض من فيض.
●●●
وأخيرا ها هى الشرطة تعود إلى الواجهة وتتسلل إليها مجددا بعض ممارسات تحمل بذاتها مسئولية مباشرة عن اندلاع ثورة يناير، وما القضايا الخاصة بالنشطاء السياسيين وآخرها قضية تقادم الخطيب إلا مجرد مثال. من المفهوم أن من اعتادوا على العمل فى ظل حالة الطوارئ لن يتحولوا بين غمضة عين وانتباهتها إلى رعاة لحقوق الإنسان، لكن من لم تبلغه رسائل الثورة حتى الآن الأرجح أنه لن يستقبلها قط، فهل يعقل بعد كل الدوى الذى أحدثته جريمة قتل خالد سعيد أن يعاد نسجها من جديد؟. الأمن مشكلة معقدة والحاجة المجتمعية إليه ماسة لكن بالتوازى مع ذلك لا بد من الشروع فورا فى عملية التطهير تعقبها رقابة صارمة ومزدوجة على أداء الشرطة، داخليا بواسطة إدارة التفتيش فى الوزارة المختصة، وخارجيا بواسطة النيابة.
●●●
تتوالى معالم الاستبداد على طريق الثورة المصرية وتتسع رقعتها الجغرافية يوما بعد يوم بطول الوطن، فترى هل تلحق مصر بدولة مثل بوليفيا ويتوارى إلى أجل غير معلوم أمل الديمقراطية؟ أم أن الثورة الأعظم فى تاريخ الشعب المصرى تستحق منه مصيرا غير هذا المصير ؟ ننتظر لنرى.
http://shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=08112012&id=8e69e9d3-0a6b-45c5-b87d-f1fb757a1963