عندما يكتب المبدعون وتنعتق أفكارهم من أسر مسوداتهم، وحين تخرج الكلمات إلى العلن، فإنها تصبح ملك الناس وذائقتهم، لكن نزعة التحليل الرصين، واستشراف المستقبل لدى الكاتب أو الكاتبة، تتحول إلى تاريخ موازٍ لسير الوقائع الموثقة، ففي روايته المتميزة والعابرة لزمانها (القرن الأول بعد بياترس)، نقل لنا أمين معلوف رؤية مبكرة لما عشناه من أجواء الإحتجاجات والإنفلات من قبضة الإستبداد، وكانت طبعتها الأولى قد صدرت في العام 1977، وانطوت على هامش بدا غير مقصود بذاته، يؤرخ لسقوط عبدان، حاكم دولة رمال، الطاغية و”الجنرال الورع” في العام 2020، بعد تسلط دام ستة عشر عاماً، وكيف تداعت لسقوطه أركان البلاد “.. كان الغضب الذي اجتاح رمال يتميز بطابع ملحمي .. وإن الأحداث اكتسبت منذ الأيام الأولى دلالة يوم الدينونة. كما لو أن شيئاً غير قابل للتقويم قد حدث، وإن البشرية جمعاء أدركت، فجأة، كابوساً نجحت بهذا القدر أو ذاك في إغفاله. كانت هناك بالتأكيد صور الفظائع وعدد القتلى ومن بينهم آلاف الرعايا الأجانب، وحتى الحكومات التي كانت تتفاخر بشفافيتها لم تجرؤ على تأكيد المحصلة ..”. قد يكون عبدان هو القذافي مثلاً أو صدام وإن كان هذا بعيداً عن الشمال المتقدم، لكن الأمر لا يتعلق بشخص بل بحالة من الإستبداد المرضي عنه أوروبيا لفترات طويلة “..كان الجميع يعتقدون إن رمال ستبقى بمنأى عن الإضطرابات التي تعصف بالجنوب… يتظاهرون بانتقاد حكم عبدان، غير أنهم يباركونه سراً قياساً بما يجري في كل مكان تقريباً “.
في العام 1977 كانت الدكتاتوريات العربية في أوج قوتها وتمكنها من شعوبها، وثقتها بعلاقاتها الدولية، لذلك أرجأ الأديب معلوف سقوطها إلى عشرينيات قرننا هذا، وبحكم أسلوبه الثري والجامع للمعاني المتحققة، فقد لملم شظايا الإحتراق، عواقب الإنهيارات العظمى لما يبنيه الجبابرة ولايحسنون تأمين بقائه، وبعد أن سرد وقائع متخيلة من مأساة “نايبوتو”، أبلغنا بهواجس العالِم (بطل الرواية)، وهي ما تتردد كثيرا على ألسنتنا في زمن الثورات المتشعبة الموارد، قائلاً ” .. أن الزمن غيّرنا، وتعلمنا أن نخشى الفوضى أكثر من الإستبداد.. أتساءل من الذي كان يشيخ أنا أم التاريخ، فالجواب، هنا، ليس واضحاً على الدوام .. “، وأنا بدوري أتساءل، أهي دعوة لنبذ الإنتفاض على الحكام الظالمين، بالطبع لا، ولكن هي صرخة تحذير للثائرين حتى لايخطئوا توجيه ضرباتهم، ويبذلوا ما بوسعهم لتفادي الإنزلاق في طرق غيرهم ، هي استشراف لما يمكن أن تؤول اليه بعض الثورات من نكوص عن مبادئها، كنتيجة لمسارات خاطئة وتطبيقاً لقانون الإضطرار القاهر.
الخوف من الفوضى لم يكن يوماً حائلاً أمام الإنتفاضات الحقيقية، ولذلك تنساق الجموع العزلاء لمقارعة أنظمة مدججة بالسلاح، هكذا كانت انتفاضة العراقيين في العام 1991، بضربة سددها جندي غاضب، لجدارية هائلة لصدام حسين، وهكذا أشعل غضب مواطنين في درعا، نيران الثورة السورية، ولكن أين نحن الآن من سمو النقمة الشعبية على حكم آل الأسد، أين نحن من نقاء الصرخة الأولى من أجل الخلاص، لاشك بأن نهاية النظام الأربعيني ليست بعيدة، وإن دولة المخابرات في آخر مراحل تفسخها، ولكن كيف سيكون البديل، ومن ستكون له القيادة في بلد تفتحت جروحه الطائفية الغافية على أنغام شتى من عازفين لا يهمهم أن كان النشيد الوطني سيحقق الإنسجام، أو إنه سيوقظ نزعات الثأر الدفين، عازفون كثر لا يعرفون من يؤلف الألحان، لكن نخبة منهم تعرفه جيداً، وتتهيأ لاحتلال موقع مريح في خارطة المستقبل. إنها المأساة أن تكون الشعوب هي الخاسرة في معظم الثورات، على الرغم من أن تضحيات أبنائها هي التي تحمل القادة إلى مواقعهم، ليتربعوا عليها بانتظار ثورة جديدة.
قادة المعارضة السورية والجيش الحر، لا يملكون مفاتيح الحل لمأساة الشعب السوري، لكنهم لو طرحوا الطموح السياسي لتبينوا حقيقة النوايا المحيطة بهم، فتركيا، تتحرك مع أعدائها التاريخيين في كردستان العراق (البارزانيين) لتبدو وكأنها نصيرة لحقوق الشعب السوري، متناسية إنها تحتل أراض سورية تقطنها ملايين من العلويين السوريين، ورئيس إقليم كردستان الحالم بدولة مستقلة لتكريس سلطانه العائلي، يتوهم إنه قادر على خداع القادة الترك، الذين يترصدون للحلم الكردي في الإستقلال، وكلا الجانبين يتآمران على مستقبل عراقية كركوك، غير آبهين بمصير سكانها من التركمان والكرد والعرب، كلاهما يعملان على المشترك السوري المؤقت لانتزاع المكاسب. والأدهى والأمّر هو دور منظمة القاعدة العالمية، ولم يعد سرا إنها تؤجر خدماتها لمن يدفع أكثر، أو أنها مضطرة للقتال حيث تؤمر، بحكم وقوع عدد كبير من عناصرها تحت طائلة السجن في مواقع مختلفة، واليوم تنشط مجموعاتها في سوريا، وتستعيد وجودها في بعض مناطق العراق، على الرغم من تسرع رئيس الوزراء نوري المالكي بالإعلان عن نهايتها، في تعبير استباقي عن الخوف من تأثيرات انفلات الأوضاع في سوريا. سابقا برز للقاعدة حضور غريب في لبنان أثناء معارك نهر البارد، وقد علمنا كم استفاد علي عبد الله صالح من خدماتها للنيل من نضال الجنوبيين ضد الوحدة المفروضة بالسلاح. وبالأمس استأجر نظام الأسد خدمات القاعدة لقتل المدنيين العراقيين بحجة إفشال المشروع الأميركي في العراق، تضامناً مع رغبة إيران واليوم تستأجر جهات أخرى مرتزقة قاعديين للعمل في سوريا، واستثمار كل ما يختزنونه من حقد وتطرف وتكفير لغير ملّتهم، وربما يبدو الإخوان المسلمون مخلوقات مسالمة قياساً بهؤلاء، إلا إذا صدقت بعض التحليلات بأن هناك حلفاً بينهم. ما العمل إذاً وسط كل هذا التداخل في المصالح، واللعنات الطائفية، هل تسقط دولة المخابرات وإرث الأسد الأب، بسواعد الثوار وما يتلقونه من دعم خارجي، أم يتفتق ذهن النظام السوري عن خطة بتنشيط حزب العمال الكردستاني في شمال البلاد، ما يستدعي عملاً عسكرياً تركياُ، ثم رد فعل إيراني، تعقبه حرب إقليمية، تهمش حركة الشعب السوري، فيسهل على النظام القضاء عليها، وربما بمساعدة دولية – كما يقول الكاتب محمد الرميحي (جريدة الشرق الأوسط، الرابع من آب-أوغسطس).
وجه المقبولية لهذا السيناريو، سياسة الشحن التي تعتمدها إسرائيل ضد إيران، وكمية السخط الدولي الظاهر على حكام طهران، فما أن تتوفر فرصة لإضعافهم، حتى يتهيأ لها الغرب، لكن دون ذلك ماتفكر به فعلاً القيادة التركية، سياستها المتهيبة من أي تدخل عسكري في سوريا، قد يؤثر على أوضاعها الداخلية، وبخاصة على شريطها الحدودي العميق، ذي الساكنة العلوية، وتذهب بعض التقديرات إلى أن عدد العلويين في تركيا يتراوح ما بين 15 إلى 20 مليون نسمة، هذا بالإضافة إالى نزاعها المستديم مع الملايين من مواطنيها الكرد. ولا ننسى الهمّ المشترك بين تركيا وإيران في السيطرة على الكرد، ومنع عدوى الفيدرالية العراقية من أن، تنتقل إليهم، ما يجعلهما أكثر تبصراً في اتخاذ قرار بالحرب، وحتى إسرائيل نفسها غير قادرة على شنّ حرب، لا تبدي واشنطن دعمها لها.
أعود مرة أخرى إلى كتاب معلوف (القرن الأول بعد بياترس)، وأمضي معه في قلقه المشروع على مآل البشر في قرننا هذا، الملتهب بصراع الطوائف وشعارات السلفية البائدة، حسرته على الهوة السحيقة بين الشمال المتقدم، والجنوب السادر في ملكوت تخلفه الفكري، والذي لم تعن له التكنولوجيا المستوردة غير الإستعمال الآني، يتساءل عن سر انهيار دولة رمال، وحاكمها عبدان ” لماذا رمال تحديداً؟ ”
ويجيب بأن ليس من بلد آخر غير رمال (البلد الغني والمتخلف) ” كان الإيمان فيه بالتفوق المطلق للذكر أمراً مفروغاً منه وغير قابل للنقاش، وليس من دولة أخرى من دول الجنوب كانت فيها التكنولوجيا الحديثة، لا سيما في المجال الطبي، متاحة بهذه السهولة. لقد انتشرت وسائل الإنجاب الإنتقائي سريعاً دون أي رادع أخلاقي “. وهنا لابد من توضيح سريع للقارئات والقرّاء، عن قصة معلوف، فهي ركزت على اختراع عالِم غربي، انتشر في أقطار العالم المتخلف، وبسببه قلّت مواليد الإناث وزادت أعداد الذكور زيادة موحشة. ولعلّ هذا الإبداع الأدبي يريد أن يدلّنا على فكرة مفادها إن بؤر العنف المنفلت والمتجاوز لكل الحدود، لا تجد أرضيتها الملائمة إلا في رمال، وما شابهها من البلدان، ليس عن تخطيط واع، وإنما كنتيجة لعقدة تمييز الذكور والخوف الكامن من الإناث، بما يمثلن من استمرارية متحدية للإستئصال والتغييب.
أخيرأ ومع دعوات كثيرة للتدخل الدولي لإنهاء معاناة الشعب السوري، وهو تدخل قائم فعلاً، وفي مراحله الوسطية، لا مناص من الإعتراف بأن النظام السوري لن يزول إلا بتدخل خارجي، وعلى من يعوّلون عليه أن يعتذروا للشعب العراقي، لأنهم أنكروا عليه التطلع لمثل ذلك، للخلاص من طغيان صدام. وهنا أترك القول لبطل قصة معلوف، لينقل لنا على لسان أستاذ جامعي من دولة رمال، كان يتحسر على بقاء شعبه تحت رحمة الطاغية عبدان، دون يد تمتد لانتشاله من أسره، يقول:” في السابق كنا ضحايا العنصرية الإحتقارية، واليوم نحن ضحايا للعنصرية الإحترامية التي لا تكترث لطموحاتنا وتنظر برأفة وشفقة إلى عيوبنا، فتصبح أحقر بقايانا وأسفل تشويهاتنا (إرثاً حضارياً) “. ذلك كان صوت رمال، أما نحن، ومنذ أواخر القرن الماضي فقد عشنا ظروف إلغاء مفاهيم عدم التدخل، وأقانيم السيادة الوطنية، والمسألة لم تعد تتعلق باحترام شعوبنا أو احتقارها، وإنما فقط بتصيد اللحظة المناسبة لقرار التدخل العسكري، ومدى اعتباره ضرورياً لإنقاذ الشمال المتقدم، وهذا ما حصل مع ليبيا. وللعراق وغيره قصص أخرى.
http://www.elaph.com/Web/opinion/2012/8/754311.html