القاعدة وحلفاؤها في الساحل والصحراء | محمد محمود أبو المعالي

ينشط تنظيم القاعدة في عدد من بلدان منطقة الساحل والصحراء شكل وصول طلائع تنظيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية (التي ستصبح لاحقا تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي) في بداية النصف الثاني من سنة 2003، انطلاقة تغلغل المد السلفي الجهادي في منطقة أزواد بشمال مالي، وكان في طليعة من وصلوا إلى تلك المنطقة، القياديان البارزان في التنظيم عمار الصايفي الملقب “عبد الرزاق البارا” و”مختار بالمختار” المكنى “خالد أبو العباس”، والمعروف بلقبه “بلعور”، وذلك بعد اختطافهما 34 رهينة غربية من الصحراء الجزائرية، لكن “عبد الرزاق البارا” غادرا شمال مالي ضاربا في الصحراء الكبرى في رحلة استكشافية بحثا عن موطن أكثر أمنا وأسهل حياة، فوقع في قبضة عناصر “الحركة من أجل العدالة والديمقراطية” المتمردة في اتشاد، رفقة مجموعة من مقاتليه، وتم تسليمه إلى الجزائر بوساطة ليبية.

بينما قرر “بلعور” الذي كان ساعتها أميرا للمنطقة التاسعة (المنطقة الصحراوية) الاستقرار في صحراء أزواد وما جاورها من الحدود مع كل من الجزائر وموريتانيا والنيجر وذلك قبل سنة 2005 بقليل، وقد عمد إلى انتهاج سياسة العصا والجزرة، حيث كان يغدق العطايا ويوزع الهدايا على من ناصره أو سالمه، ويبطش بوحشية بكل من نصابه العداء أو حاول النيل منه.

وانتهج سياسة نشر الدعوة السلفية الجهادية في مجتمع أزواد بشقيه الطوارقي والعربي، وحتى إن مجموعات الزنوج من السونغاي كان لها حظها من تلك الدعوة، وقد ساعده على تحقيق اختراق كبير في تلك المنطقة، غياب كل أنواع الأعمال الدعوية والفكرية هناك، فضلا عن هشاشة التدين وعدم اهتمام الناس بالعلوم الدينية، بسبب غلبة حياة الصحراء التي تتسم بالقساوة وشظف العيش، فقدم “بلعور” وأنصاره “الفكر السلفي الجهادي” للناس باعتباره الدين الحقيقي، وشملت نوائله وإكرامياته، الجميع بمن فيهم بعض شيوخ الصوفية والزعماء الروحيين في المنقطة. وانتهج بلعور سياسة المهادنة مع الحكومة المالية التي يتبع لها إقليم أزواد حينها، حيث ظل يحجم عن تنفيذ عمليات ضد الجيش المالي، باستثناء رادات فعل على عمليات استهدف تنظيمه من داخل الأراضي المالية، لذلك كانت حالات الاحتكاك بينه وبين القوات المالية محدودة. كما استغل انتشار الفساد والمحسوبية في أوساط مؤسسات الدولة المالية، لنسج علاقات مع بعض كبار المسؤولين والضباط الماليين، وعمد كذلك إلى محاولة اختراق المجتمع الأزوادي عبر الزيجات والمصاهرات، حيث تزوج من إحدى الأسر المرموقة في قبيلة البرابيش العربية، ووجه مقاتليه إلى الزواج من نساء المنطقة للارتباط بسكانها أكثر(1).

القاعدة في أزواد.. قصة الظهور

بدأ “بلعور” في بناء أسس كيان سلفي جهادي، سيعرف لاحقا بإمارة الصحراء التابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، والتي باتت تصنف على أنها الجزءُ الذي أصبح أكبرَ من الكل، وتوافد عليه عشرات الموريتانيين والماليين والنيجريين وآخرين من جنسيات مغاربية وإفريقية مختلفة، فضلا عن عدد كبير من الجزائريين. أصبحت “إمارة الصحراء” قاعدة خلفية للتنظيم في الجزائر، تتكفل بتوفير السلاح عبر السوق السوداء في إفريقيا والصحراء الكبرى، ونقله إلى داخل الأراضي الجزائرية، فضلا عن اكتتاب الأفراد وتكوينهم، كما تولت “إمارة الصحراء” مهمة توسيع نشاطات التنظيم الذي تحول أواخر عام 2006 من تنظيم جزائري (الجماعة السلفية للدعوة والقتال) إلى تنظيم إقليمي له ارتباط عالمي (تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي)، فتولت تنفيذ عمليات في دول المنطقة.

وكانت النواة العسكرية التي أقام عليها “بلعور” تنظيمه في الصحراء، هي “كتيبة الملثمين” في إشارة إلى الاسم الذي عرفت به تلك المنطقة من الصحراء الكبرى تاريخيا وهو “بلاد الملثمين”. وظل كيان “إمارة الصحراء” يكبر وينمو شيئا فشيا، ساعده على ذلك توفر بحبوحة آمنة، بعيدا عن الملاحقة العسكرية والأمنية، فأقام معسكراته، ودرب عناصره، واحتجز رهائنه، وقد أطلقت القاعدة على صحراء أزواد أسماء عديدة منها “أرض العزة”، و”طورا بورا المغرب الإسلامي”، و”صحراء الإسلام”.

ظلت علاقة بلعور مع السلطات الحدودية لموريتانيا شبه جيدة، ولم يقع اي احتكاك قبل هجوم الجماعة السلفية على حامية لمغيطي العسكرية في 4 يونيو/ حزيران 2005، أما مالي والنيجر فكانت العلاقة بسلطاتهما المحلية تتسم بشبه هدنة وعدم التعرض لقواتهم إلى إذا كانت ردة فعل، كما أحجمت تلك القوات عن التعرض لبلعور ومقاتليه، وكان هناك أحيانا مستوى من التعاون مع الضباط ورجال الإدارة بسبب انتشار الفاسد والرشوة في أجهزة تلك الدول.

وبعد أكثر من ثلاث سنوات من الجهد المتواصل في بناء “إمارة الصحراء” كانت علاقة “بلعور” تتسم بالفتور وأحيانا التوتر مع أمير التنظيم في الجزائر “عبد الملك دوركدال” المكنى أبو مصعب عبد الودود، الذي رأى أن “بلعور” يعمل لنفسه أكثر من ما يعمل للتنظيم، فكان أن قرب صديقه “عبد الحميد أبو زيد” وأسند إليه مهمة قيادة كتيبة جديدة في الصحراء تحت اسم “كتيبة طارق بن زياد”، وتفاقمت الخلافات بين الرجلين (بلعور وأبو زيد)، الأمر الذي اتخذه “دوركدال” ذريعة لتعيين أمير جديد للصحراء بدلا عنه، وتنزيل رتبته من قائد إمارة إلى قائد كتيبة، فأوفد إلى الصحراء أواخر عام 2007 صديقه الشخصي القائد العسكري للتنظيم “يحيى جوادي” المكنى “يحيى أبو عمار” في صيف عام 2007 إلى الصحراء الكبرى وعينه أميرا على أمرائها.

شرع هذا الأخير في إعادة هيكلة إمارة الصحراء مع تزايد عدد الملتحقين بالتنظيم، ليستقر الأمر في النهاية على أربع تشكيلات (كتيبتان وسريتان) هي: كتيبة الملثمين، وكتيبة طارق بن زياد، وسرية الفرق، وسرية الأنصار، لكن “يحيى جوادي” كان طرفا في الصراع بعد انحيازه إلى “عبد الحميد أبو زيد” فتم عزله، وأسندت إمارة الصحراء إلى أمير ثالث هو “نبيل أبو علقمة”، ويعتقد أنه على علاقة جيدة مع “بلعور”.

كتيبة الملثمين:
تتألف من العناصر القديمة في إمارة الصحراء، ويتولى قيادتها أمير الصحراء السابق “بلعور”، وهو شاب جزائري من مواليد سنة 1972 بمدينة غرداية.
انتقل إلى أفغانستان ولم يكمل بعد عقده الثاني، حيث تلقى تدريبات في معسكرات القاعدة وطالبان، وأصيب في انفجار قنبلة يدوية، ففقد إحدى عينيه، فأصبح يعرف بلقبه الحالي “بلعور”. وتعتبر كتيبته هي المسؤولة عن اختطاف عدد من الرهائن الغربيين خصوصا، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحد إلى النيجر الكندي “روبرت فاولر” ومساعده السفير السابق لكندا في الغابون “لويس غواي”، الذين اختطفا من النيجر في ديسمبر/ كانون الأول عام 2008. كما قامت كتيبته بأول هجوم نفذه التنظيم على الأراضي الموريتانية، في 4 يونيو/ حزيران 2007 عندما هاجم العشرات من مقاتلي الكتيبة بقيادة “بلعور” نفسه حامية “المغيطي” العسكرية شمال البلاد، فقتلت 17 عسكريا موريتانيا واستولت على كميات من الأسلحة والذخيرة. كما أعلنت الكتيبة مسؤوليتها عن اختطاف فرنسيين في النيجر في يناير/ كانون الثاني 2011 ، وقتلهما لاحقا أثناء محاولة القوات الفرنسية الخاصة تحريرهما بالقوة، كما خطط أمير كتيبة الملثمين “بلعور” لعملية اختطاف ثلاثة رعايا إسبان على الطريق الرابط بين مدينتي نواكشوط ونواذيبو في موريتانيا نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2009.

وقد عمد “بلعور” إلى تشكيل نواة للتنظيم داخل موريتانيا عرفت فيما بعد بمجموعة “أنصار الله المرابطون في بلاد شنقيط” التي هاجمت السفارة الإسرائيلية بنواكشوط مطلع شهر فبراير/ شباط 2008، ونفذت قبل ذلك عملة سطو على مبالغ نقدية ضخمة لميناء نواكشوط في أكتوبر/ تشرين الأول 2007.

كتيبة طارق بن زياد:
يقودها الجزائري “عبد الحميد أبو زيد”، واسمه الحقيقي عبد الحميد السوفي، ويصنف على أنه من صقور التنظيم، وإلى كتيبته تنسب عمليات قتل واختطاف عديدة، أبزرها اختطاف زوجين نمساويين، من جنوب تونس في شهر فبراير/ شباط عام 2008، واختطاف خمسة فرنسيين وتوغولي ومالغاشي، تابعين لشركة أريفا الفرنسية العاملة في مجال استخراج اليورانيوم بالنيجر في شهر سبتمبر/ أيلول 2010. وما يزال أربعة منهم حتى الآن رهن الاحتجاز لدى التنظيم، كما نفذت كتيبة طارق بن زياد هجوما على بلدة تورين شمال موريتانيا وقتلت 12 عسكريا، فضلا عن مسؤوليتها عن اختطاف وقتل البريطاني “آدون داير” أواخر شهر مايو/ أيار 2009 بعد أن رفضت الحكومة البريطانية الاستجابة لمطالب التنظيم.

سرية الفرقان:
ويقدها الجزائري “جمال عكاشة” المكنى “يحيى أبو الهمام”، وتتشكل في أغلبها من مقاتلين موريتانيين وماليين، وتنشط هذه الكتيبة في الحدود الشمالية الغربية من أزواد، وبالتحديد شمال مدينة تمبكتو بمحاذاة الحدود الموريتانية، وإليها تنسب عمليات عديدة أبرزها اختطاف إيطالي وزوجته البوركينابية من ضواحي مدينة كوبني على الحدود الموريتانية المالية أواخر عام 2009. كما شنت هذه السرية هجوما قتلت خلالها ثلاثة جنود موريتانيين في بلدة الغلاوية شمال موريتانيا في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2007. وتولت سرية الفرقان مهمة التصدي للجيش الموريتاني خلال عمليات توغله في شمال مالي واشتبكت معه في معارك عديدة. كما أنها هي المسؤولة عن اختطاف دركي موريتاني من وسط مدينة “عدل بكرو” في شرق موريتانيا كذلك في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2011. وقد نفذ عناصر من السرية عملية اغتيال راح ضحيتها مواطن أمريكي وسط نواكشوط في 23 يونيو/ حزيران 2009، وقام أحد عناصرها بعملية انتحارية استهدفت السفارة الفرنسية بنواكشوط في أغسطس/ آب 2009.

سرية الأنصار:
ويقودها “أبو عبد الكريم الطارقي”، وهو الوحيد من غير الجزائريين، الذي أسندت إليه مهمة إمارة سرية في التنظيم، وتتألف سريته في معظمها من عناصر ينحدرون من الطوارق الماليين والنيجريين. وقد نفذت العديد من العمليات في شمال مالي والنيجر، من أبرزها المشاركة مع كتيبة طارق بن زياد في “معركة الوسرى”، في بداية شهر يوليو/ تموز 2009 ضد الجيش المالي ومليشيات تابعة لإحدى القبائل العربية في تمبكتو. وتقول مصادر التنظيم إن “أبو عبد الكريم التاركي”، هو من قتل الرهينة الفرنسية ميشيل جرمانو في نهاية يوليو/ تموز 2010 ردا على هجوم مشترك بين القوات الموريتانية والفرنسية على معسكر للتنظيم قتل فيه سبعة من عناصره شمال مدينة تمبكتو.

ومن الصعب معرفة حجم مقاتلي الكتائب والسرايا المذكورة وإن كانت تقدر بالمئات، ولا توجد أرقام دقيقة عنها بسبب التحفظ الشديد لقادتها، وبسبب توزعها في أمكان مختلفة من الصحراء، هذا فضلا عن أن المقاتلين من الدرجة الأولى يتنقلون بين السرايا والكتائب، كما أن استراتيجية التنظيم تقتضي بمنح العناصر إجازات سنوية تصل أحيانا أشهرا عديدة، مما يجعل ثلث المقاتلين تقريبا دائما موجود خارج المعسكرات في أغلب الأوقات.

خلايا نائمة:
تمكنت قيادة القاعدة في شمال مالي من استغلال الأوضاع في المنطقة خلال السنتين الماضيتين، لصالحها، فأوفدت عشرات المقاتلين إلى ليبيا في بداية الثورة الليبية، لكنهم سرعان ما أحجموا عن القتال إلى جانب الثوار بعد تدخل حلف الناتو ضد كتائب القذافي، وهو ما اعترف به مؤسس إمارة الصحراء “بلعور” في مقابلة صحفية معه، لكن التنظيم عمد إلى استغلال الأوضاع في لبيبا لتهريب السلاح واكتتاب العناصر، ويعتقد المراقبون أن القاعدة تمكنت من اكتتاب عشرات الخلايا النائمة في أنحاء ليبيا، انتظارا لاستغلالها في الوقت المناسب، حين تستدعي الضرورة إخراجها من مخابئها. ونفس الشيء ينطبق على تونس التي سبق وأن أرسل التنظيم إليها مجموعة من المقاتلين نهاية عام 2006 كطليعة أولية، تسعى إلى اكتتاب العناصر وتشكيل الخلايا، لكن الأمن التونسي اكتشف المجموعة واشتبك معها، وقتل جميع أفرادها، مما شكل ضربة قوية للتنظيم حينها، لكنه استغل اضطراب الأوضاع في تونس خلال السنة الماضية للعودة إلى سياسة الاكتتاب مجددا، وهو ما تجسده الاشتباكات التي تقع من حين لآخر بين الأمن التونسي ومسلحين يوصفون بالسلفيين.

وفي موريتانيا والمغرب يسعى التنظيم منذ سنوات عديدة لاكتتاب خلايا نائمة بعضها تمكنت مصالح الأمن من تفكيكه، فيما يعتقد أن البعض الآخر ما زال يحتفظ بولائه للتنظيم، وقد نجح في التواري عن أعين الأمن انتظارا لصدور الأوامر بالتحرك.

جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا.. انشقت ثم نسقت

أعلن عن هذه الجماعة لأول مرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، عندما نفذ عناصر تابعين لها عملية اختطفوا خلالها ثلاثة رهائن غربيين (إسبانيين وإيطالية) من مخيمات اللاجئين الصحراويين قرب مدينة تيندوف جنوب الجزائر. ويأتي تأسيس جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا بعد انشقاق زعيمها “سلطان ولد بادي” المكنى (أبو علي) عن تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، بعد رفض قيادة التنظيم تشكيل سرية خاصة بعرب أزواد كان يطالب بها، على غرار “سرية الأنصار” التي يقودها “أبو عبد الكريم الطارقي” والمؤلفة أساسا من مقاتلين طوارق، وقد نفذت “جماعة التوحيد والجهاد” هجوما انتحاريا على موقع أمني في مدينة تمنراست جنوب الجزائر في شهر مارس/ آذار 2012، قتل فيه عدد من رجال ألأمن الجزائريين.

وينحدر “ولد بادي” من قبيلة “الأمهار” العربية التي تستوطن مدينة غاوه وضواحيها في أزواد، وكان ينشط سابقا في مجال التهريب في الصحراء الكبرى، قبل أن يلتحق بتنظيم القاعدة. وحين أعلن انشقاقه كان برفقته الناشط الموريتاني “حماده ولد محمد الخير” المكنى “أبو القعقاع”، وقد تمكنا من سحب عشرات المقاتلين الشباب المنتمين لقبيلة “الأمهار” من صفوف القاعدة، وشهدت الأسابيع الأولى لانشقاق ولد بادي ومجموعته، توترا ملحوظا بينهم وبين عناصر القاعدة، قبل أن يتولى أمير كتيبة الملثمين “بلعور” قيادة مفاوضات معهم، انتهت باحتفاظهم بتنظيمهم مقابل التنسيق مع القاعدة وجماعة أنصار الدين الأزوادية التي يقودها الزعيم الطارقي “إياد أغ غالي”. ويقول مسؤول الإعلام في تنظيم القاعدة إن هناك اتفاقا في التوجه والرؤى، وأن القوالب التنظيمية لن تحول دون العمل المشترك لتحقيق الأهداف الكبرى للجماعات الجهادية في الصحراء.

وشاركت حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا في مفاوضات مع القاعدة وتنظيم أنصار الدين، تم خلالها توزيع المهام بين تلك التنظيمات، لخوض حرب موحدة للسيطرة على المدن الكبرى في أزواد، حيث أسندت مهمة السيطرة على مدينة “غاوه” إلى “حركة التوحيد والجهاد” نظرا لانحدار معظم قادتها ومقاتليها من تلك المدينة، ووصل مقاتلو الحركة إلى المدينة نهاية شهر مارس/ آذار 2012 بالتزامن مع مقاتلي الحركة الوطنية لتحرير أزواد ذات التوجه العلماني، حيث تقاسموا السيطرة عليها.

جماعة أنصار الدين.. أو طالبان أزواد

أسس الزعيم السابق للمتمردين الطوارق “إياد أغ غالي”، المكنى “أبو الفضل” هذه الجماعة. وإياد أغ غالي زعيم تقليدي من قبائل الإفوغاس الطوارقية، وقد شارك إلى جانب نائبه في قيادة الحركة حاليا “الشيخ أوسا” بداية ثمانينيات القرن الماضي في القتال ضد القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان، ضمن عشرات من المقاتلين العرب والطوارق أرسلهم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي إلى لبنان, وقد قاد إياد غالي “الجبهة الشعبية لتحرير أزاد” المتمردة بداية تسعينات القرن الماضي، وبعد توقيع اتفاق السلام مع الحكومة المالية برعاية الجزائر سنة 1992، انضم إلى الحكومة المالية وساعدها في إخضاع بقية حركات التمرد الرافضة لاتفاق السلام، وعين بعدها قنصلا عاما لجمهورية مالي في المملكة العربية السعودية.

انتمى خلال العشرية الأولى من القرن الماضي لجماعة الدعوة والتبليغ، التي تنشط عبر العالم في المجال الدعوي وترفض الخوض في السياسة ومجالات اختلاف الأمة، لكن التوجه التبليغي للزعيم الطارقي لم يكن إلا قنطرة عبر منها نحو الفكر السلفي الجهادي.

وانتظر إياد غالي ما اعتبره الفرصة المناسبة، بعد رحيل نظام القذافي عن ليبيا، والذي شكل عقبة في وجه محاولات الطوارق التمرد على الحكومة المالية، فعاد إلى أزواد واتخذ من سلسة جبال أغرغار في أقصى شمال أزواد، مقرا له، وجمع حوله مئات المقاتلين الطوارق واستجلب كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة، وأعلن عن تشكيل حركة تحمل اسم “جماعة أنصار الدين”، يقول قياديون فيها إن اختيار اسمها لم يأت اعتباطا وإنما جاء بعد مشاورات ودراسة متأنية، حيث تقرر أن تسمى “أنصار الدين” لأن هدفها الأول هو إقامة الشريعة الإسلامية وإعادة الاعتبار للدين وإيجاد مجتمع إسلامي وفقا للرؤية السلفية الجهادية، ولا تقتصر أهداف الحركة على إقامة الشريعة الإسلامية في أزواد وإنما في سائر أراضي مالي، وما تصل إليه أيدي الجماعة في المستقبل، وانطلاقا من أيديولوجيتها الجهادية فإنها لا تؤمن بالحدود بين الشعوب الإسلامية.

دخلت “جماعة أنصار الدين” بعد تأسيسها في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2011 في تنسيق مباشر مع تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، أشبه ما يكون بالتنسيق القائم بين حركة طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان. كما استطاعت أن تدخل معها في نفس التنسيق حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا التي انشقت حديثا عن تنظيم القاعدة، وهو التنسيق الذي أشار إليه إياد غالي في أول خطاب يوجهه إلى سكان تمبكتو في الرابع من شهر إبريل/ نيسان عام 2012 بعد سيطرة قواته عليها، حيث قال “…اجتمع إخوانكم من المجاهدين ومن جماعة أنصار الدين وتعاهدوا على نصرة الحق وإقامة الدين ورفع الظلم عن المظلومين، وجمع شمل المسلمين، وتوحيد كلمتهم على كلمة التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله صل الله عليه وسلم”.

وقد حدد إياد غالي الخطوط العريضة لبرنامج حركته السياسي، واستراتيجيتها لتحقيق أهدافها، والتي ذكر منها الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، مضيفا أن من أعظم وسائلها لتحقيق أهدافها “جهاد الممتنعين عن الشريعة وقتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله”.

وقد بدأت “جماعة أنصار الدين” عملياتها المسلحة في أزواد بهجوم على مدينة أغلهوك غرب كيدال في أواخر شهر يناير/ كانون الثاني 2012، حيث سيطرت على قاعدة عسكرية هناك، قبل أن يتمكن مقاتلوها من اقتحام قاعدة “آمشش” العسكرية قرب مدينة تساليت واستولوا على كميات كبيرة من الأسلحة والآليات العسكرية. استثمر إياد غالي تجربته العسكرية التي اكتسبها من جولات التمرد السابقة في الإقليم، فكانت عملياته موجهة ومركزة ضد القواعد العسكرية والمواقع الاستراتيجية، تاركا المدن والقرى لمقاتلي “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” (الحركة التي أعلنت استقلال إقليم أزواد من جانب واحد). ومع انهيار الجيش المالي بسبب تداعيات الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المالي آمدو توماني توري في 22 من مارس/ آذار 2012، سارع إياد غالي إلى وضع خطة مع حلفائه في القاعدة وحركة التوحيد والجهاد للسيطرة على مدن أزواد الكبرى.

فقرر هو محاصرة مدينة كيدال بمقاتليه واقتحامها، مستغلا البعد القبلي للمدينة المشكلة أساسا من قبائل الإفوغاس الذين ينتمي معظم مقاتلي الحركة إليهم، بينما وجه حلفاءه من حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا إلى مدينة غاوه، لأن أغلب مقاتلي تلك الحركة وقادتها ينحدرون من تلك المدينة، وقد سيطروا على معظم أجزائها بما في ذلك القاعدة العسكرية التي تضم مقر قيادة الجيش المالي في الشمال. أما مدينة تمبكتو التاريخية فقد استغل إياد غالي المفاوضات التي كانت تدور بين الحركة الوطنية لتحرير أزواد ومقاتلين تابعين لمليشيات من القبائل العربية في المدينة، ليباغتها فجأة بقوات ضخمة، يتقدمها فيلق من تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي يقوده أمير سرية الفرقان” يحيى أبو الهمام” الذي كانت مكافأته لاحقا على “فتح المدينة” تعيينه واليا عليها.

احتمالات مفتوحة

وأمام الوضع الجديد الذي فرضه تطور الأحداث في المنطقة، تواجه دول الساحل والصحراء تحديا حقيقيا، فهي أمام خيارات سيتكون كلها ذات ثمن باهظ:

إما أن تسعى دول المنطقة إلى تنسيق جهودها لتقويض المشروع السلفي الجهادي في أزواد، وإعادة الإقليم إلى السيادة المالية، عبر تدخل عسكري في المنطقة، وهو خيار المجموعة الاقتصادية لدولة غرب إفريقيا “الإكواس”. وهنا يمكن القول إن ذلك يستعدي التنسيق بين جميع التنظيمات المسلحة في أزواد بما فيها الحركة الوطنية لتحري أزواد ذات التوجه العلماني. أي أن المنطقة ستشتعل لا محالة، وسيمتد شرر تلك الحرائق إلى أطراف المنطقة وما وراءها.

أما الخيار الثاني فهو أن تفشل دول المنطقة في التوصل لقرار بالتدخل الموحد في شمال مالي، وتقدم دول منفردة مثل موريتانيا والنيجر على مغامرات للتدخل في الإقليم، وهنا ستكون على تلك الحكومات أن تستعد لدفع الثمن غاليا، لأنها بتدخلها تستدعي عداءَ سائر المجموعات المسلحة في الإقليم، في وقت تعاني فيه جيوش تلك الدول ومنظوماتها الأمنية من هشاشة لا تتحمل ضربات موجعة ومتتالية.

الخيار الثالث هو أن يتم تشكيل مليشيات من أبناء المنطقة، لمواجهة المجموعات المسلحة، وهو خيار مطروح، خصوصا وأن أبرز قائدين للجيش المالي في أزواد “الهجي أغ غامو” وعبد الرحمن ولد أميدو، ما زالا يحتفظان بولائهما لباماكو ويرفضان سيطرة الحركات المسلحة على الإقليم، كما يحتفظ كل واحد منهما بولاء عشرات أو مئات المقاتلين التابعين له، وكلاهما ينحدر من قبائل أزواد الطوارقية والعربية.

وعلى الحدود بين موريتانيا وإقليم أزواد يحتشد عشرات المقاتلين العرب بقيادة الضابط السابق في الجيش المالي “سيدي محمد بوشرويطة”، معلنين عن استعدادهم لمحاربة القاعدة والمتمردين، وهنا يخشى الكثيرون أن تتورط دول الجوار وباماكو في دعم تلك المليشيات، لتشعل بذلك فتيل حرب أهلية في الإقليم، قد لا تكون الدول الداعمة لبعض أطرافها في الساحل والصحراء بمنأى عن تبعاتها، وقد تأخذ تلك الحرب طابعا عرقيا بسبب تفاقم الحساسيات بين المجموعات السكانية في أزواد.

أما الخيار الرابع فهم أن تترك دول المنطقة تلك الحركات وشأنها، وهو أمر مستبعد نظرا للمخاوف من ميلاد كيان سلفي جهادي يقوده عناصر كانوا بالأمس القريب ينفذون هجمات داخل تلك البلدان ويختطفون الرعايا الغربية الذين ما يزال عدد منهم بين أيدي تلك التنظيمات، وقد يتحول إلى مأوى لكل المطاردين عالميا بتهمة الإرهاب، والمناصبين العداء للغرب والأنظمة المتحالفة معه في العالم الإسلامي. فيما لا يستبعد آخرون اعتماد فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية خيار الضربات الجوية المحددة على غرار الاستراتيجية الأمريكية في منطقة وزيرستان الباكستانية.

بيد أن عددا من المراقبين يعتقدون أن القاعدة بتحالفها مع أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد وتحملها مسؤولية إدارة بعض المدن، إنما تتجه لوضع مراجعة استراتيجية في مسيرتها “الجهادية” يفرضها عليها الواقع الجديد، الذي حولها من مجموعات من المسلحين تتعاطها قمم الجبال وفيافي الصحراء، إلى مسؤولين عن تسيير مدن بها عشرات آلاف السكان، يسعون لتقديم أنفسهم لهم كبدائل أفضل من الأوضاع السابقة، مما يحتم عليهم تركيز الجهود من أجل التموين بالغذاء والدواء والخدمات الأساسية. ويعتقد الكثيرون أن المسؤوليات الجديدة تشكل تحديا حقيقيا للقاعدة وحلفائها يفرض عليهم مستوى من الواقعية قد يدفعهم على كف بأسهم عن دول الجوار، والانشغال بالمسؤوليات الجديدة، هذا إضافة إلى ما عرف عن زعيم حركة أنصار الدين “إياد أغ غالي” المسؤول السلفي الأول في أزواد من براغماتية وعلاقات متشابكة في المنطقة، قد تقوده إلى دعوة القاعدة والجهاد والتوحيد إلى تحالف يقدم لهم المأوى ويطبق الشريعة الإسلامية وفقا لرؤيتهم، مقابل تخليهم عن استعداء الآخرين ولو إلى حين.

وإلى أن يتحدد الموقف الذي ستتعامل به دول المنطقة مع الأوضاع الجديدة في أزواد، تبقى كل الاحتمالات مرشحة، بدءا من تدخل خارجي، وحتى حرب أهلية تتورط فيها فرنسا ودول المنطقة الحليفة لها، خصوصا موريتانيا والنيجر ومالي والجزائر.
____ _____ _____
•كاتب ومحلل موريتاني متخصص في الحركات الإسلامية المسلحة
1 – لم يكتب حتى الآن عن موضوع الجماعات السلفية جهادية في منطقة الساحل الكثير مما يستحق الذكر. وأغلب ما قرأته من مراجع -مع تتبعي للموضوع منذ عدة سنوات- في الغالب الأعم يفتقد إلى الدقة والمصداقية، ومرد ذلك أن قاعدة المغرب الإسلامي ظلت حتى عهد قريب بعيدة عن الأضواء ولا علاقة لها بالصحافة والكتاب، بل كانت العلاقة معهم تتسم بالعداء بسبب مخلفات حملة الجماعة الإسلامية المقاتلة في الجزائر التي انبثقت عنها الجماعة السلفية ضد الاعلاميين والمثقفين في تسعينيات القرن الماضي.
ومن بين النصوص الجيدة التي عدت إليها دراستان مهمتان وإن كان يغلب عليهما الطابع التنظيري وهما: الدراسة الموجزة والمركزة التي كتبها وزير الخارجية الموريتاني السابق محمد محمود ولد محمدو: فهم القاعدة، تغيير الحرب والسياسات العالمية، وهي باللغة الإنجليزية.
Mohammad-Mahmoud Ould Mohamedou: Understanding Al Qaeda, Changing War and Global Politics, Second Edition Pluto Press, June 2011.
وكذلك كتاب الصحفي الفرنسي من أصل بنيني سيرج دانيل: تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي: صناعة الاختطاف (بالفرنسية).
Serge Daniel, Aqmi, l’industrie de l’enlèvement, aux Editions Fayard, 2012.
ومعلوم أن هذه المجموعات السلفية الجهادية بعيدة عن الأضواء، لذلك فإن أغلب المعلومات التي تتوفر عنها في الغالب الأعم مصدرها التقارير الأمنية ولا تخلو في معظمها من معلومات مغلوطة وموجهة. وقد اعتمدت في الغالب على معلوماتي الخاصة وجهدي البحثي وما استقيته من عناصر التنظيم وقادته والعارفين به، وعلى مواد من كتاب أقوم بإعداده عن الموضوع.
يستند التحرك التركي إزاء الملف السوري إلى تقييم مفاده أن النظام السوري الذي يرأسه بشار الأسد فقد شرعيته، وأن شخص الرئيس الأسد لا يمكن الوثوق به أو بكلامه أو وعوده بأي شكل من الأشكال.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا:

http://studies.aljazeera.net/ResourceGallery/media/Documents/2012/6/27/2012627103614635734salafia.pdf