إستراتيجية الجزائر تجاه التطورات الأمنية في الساحل الأفريقي | د. بوحنيه قوي

توطئة

يصعب فهم الدبلوماسية الأمنية الجزائرية في فضائها العام، من دون الإلمام بشبكة من المؤشرات الجيوسياسية المتداخلة، ويزداد هذا التوجه صعوبة إذ لم تتم موضعة (localisation) هذه الدبلوماسية ضمن التدبير السياسي العمومي، (management publique) للسياسة الخارجية الجزائرية التي تتكئ على جملة مقومات وثوابت دستورية (1) وقانونية شكلت على مدار التاريخ السياسي الجزائري منطلقا هاما في تفسير السلوك السياسي الجزائري الدبلوماسي.

لكن منطقة الساحل والصحراء(2) ذات الخصوصية الجيوسياسية تجعل وبشكل متزايد من السياسة الخارجية الجزائرية مجالا لإعادة القراءة لاكتشاف محركات ووسائل هذا التحرك اتجاه منطقة وحدود تتجاوز 6343 كلم تمتد عبر الحدود الجزائرية شرقا وغربا وجنوبا.

ولعل أهم ملمح ينبغي التأكيد عليه هو أنه فواصل زمنية متقاطعة تشكلت مجالا مهما لفهم السلوك الجزائري، كما أن هناك عقيدة أمنية (Doctrine sécuritaire) وثوابت دستورية إجرائية Principes constitutionnels et Opérationnels تشكل على الدوام لوازم مهمة من لوازم علاقات الجزائر بالغير؛ وترتكز على مفاهيم عدم التدخل في شؤون الغير وضبط إيقاع التحرك الدبلوماسي ضمن الجماعة العربية أو الإفريقية مع الأخذ بعين الاعتبار سياسة حسن الجوار كمورد أساسي مهم في فهم العلاقات الدبلوماسية الجزائرية.

هذه الورقة تحاول الاقتراب من هذا المجال لمحاولة إدراك التدبير الجزائري للعلاقات الإفريقية (وتحديداً دول الساحل والصحراء) في ضوء التحولات الإقليمية (الانقلاب في مالي وتأسيس كيان الأزواد)، وتغير أنظمة الحكم في ليبيا وتونس في ضوء تزايد دور حلف الناتو (NATO) وهبوب أعاصير ما أضحى يسمى الربيع العربي؟

الفضاء الجيوسياسي للبعد الإفريقي ومنطقة الساحل: “المقاربة الأمنية الجزائرية”

عند محاولة فهم المقاربة الأمنية للتعاطي مع الفضاء الإفريقي ومنطقة الساحل يجب إدراك المؤشرات التالية:

1- العقيدة الأمنية الجزائرية
تكتسي العقيدة الأمنية أهميتها من اعتبارها دليلا يوجه ويُقرِّر به القادة السياسة الأمنية للدولة ببعدها الداخلي والخارجي، ومن هنا نشأت العلاقة بين العقيدة الأمنية والسياسة الخارجية، إذ يلاحظ تنامي تأثير العقيدة الأمنية باعتبارها تمثل المبادئ المنظمة التي تساعد رجال الدولة على تعريف المصالح الجيوسياسية لدولتهم وتحديد ما يحظى منها بالأولوية، كما تساعد الدولة على التفاعل مع التهديدات والتحديات البارزة والكامنة التي تواجه أمنها على المستويات الزمنية (القريبة، المتوسطة والبعيدة) (3).

ويمكن القول إن العقيدة الأمنية على العموم تمد الفاعلين الأمنيين في الدولة بإطار نظري متناسق من الأفكار يساعد على تحقيق أهداف الدولة مجال أمنها القومي.

وتستمد العقيدة الأمنية الجزائرية توجهها العام من المبادئ العامة المستمدة من ركائز عدم التدخل في شؤون الآخرين، وهو ما لاحظناه في التحرك الجزائري حيال الأزمة الليبية التي أنتجت ثورة أدت إلى تغيير طبيعة النظام بدعم من حلف الناتو، وهي الرؤية التي تجد لها ركائز قانونية ودستورية تحدد المهام الأساسية لأجهزة الأمن الجزائرية التي تنحصر مهامها في حماية وصون سيادة الدولة وحدودها.

تتحرك الدبلوماسية الجزائرية في فضائها الجيوسياسي الإفريقي وهي تدرك أنها تعيش في ساحل من الأزمات الممتدة على حدود تتجاوز 6343 كلم، وهذا الساحل الأزماتي، يرتبط بعدد من المعضلات الأمنية أهمها 5 معضلات كبرى تتمثل أساسا في(4):

صعوبة بناء الدولة في هذه المنطقة؛
ضعف في الهوية وتنامي الصراعات الإثنية،
لبنى الاقتصادية الهشة “وهو ما سيشكل تهديدات صلبة وليّنة يمكن تصديرها للجزائر”؛
ضعف الأداء السياسي؛ إذ سجلت لحد الآن ست انقلابات في كل من موريتانيا، ومالي والنيجر؛
انتشار لجميع أشكال الجريمة وأنواع الأشكال الجديدة للعنف البنيوي.
وهذه الأشكال الجديدة للعنف تؤكدها تقارير الأمم المتحدة التي تحصي ما نسبته من 30% إلى 40% من المخدرات الصلبة تمر عبر هذه المنطقة، كما أنّها تشكل ثاني أكبر أسواق الأسلحة الخفيفة وتشير، تقديرات تقرير مسح الأسلحة الخفيفة التابع لبرنامج المعهد الأعلى للدراسات الدولية بجنيف في تقرير سابق إلى أن هناك حوالي 100 مليون سلاح خفيف في القارة الإفريقية، كما أن 80 بالمائة من الأسلحة الموجودة مصدرها بؤر الصراعات السائدة في إفريقيا الغربية والتي تنتقل إلى الجزائر عبر مالي والنيجر.

إن عين الجزائر على استقرارها وهي التي خاضت حرباً عويصة استنزافية ضد ما يسمى بالإرهاب ولمدة 10سنوات يُسميها الجزائريون “العُشرية السوداء”، وعينها الثانية على التحرك الإفريقي ذو البنى السياسية والاقتصادية الهشة والتي تشكل ما من شأنه نقل جميع أنواع الفشل الأزموي والدولتي عبر الحدود مما يعني تهديد الأمن الجزائري.

2- أزمة الطوارق: (إشكالية فوق دولتية) (5)
اعتبرت منطقة انتشار الطوارق من البؤر ذات الجغرافيا السياسية البالغة الحساسية أمنيا، كما عدت أزمة الطوارق من أقدم وأعقد التحديات التي تواجه الأمن القومي الجزائري بل ويعتبر حضورها ضمن الشواغل الأمنية الجزائرية منذ زمن قديم مقارنة بمشكلات وتهديدات دوائر إستراتيجية أخرى. وتعد أزمة الطوارق مورثا استعماريا ملغما يرجع تاريخه إلى استقلال كل من ليبيا 1951، والنيجر 1960، ومالي 1960، وبوركينافاسو1960 والجزائر1962، عندما وجدت القبائل الطوارقية المتمركزة في الصحراء الكبرى نفسها مشتتة بين هذه الدول ذات السيادة، والتي اتفقت على احترام مبدأ “عدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار” المنصوص عليه في ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1963. ومعلوم أن التقسيمات الجغرافية للصحراء التي تمت بالاتفاق بين فرنسا، التي كان أكبر جزء من الصحراء تابعا لها، ولإسبانيا وإيطاليا تم تقطيعها بشكل اعتباطي لم يراع الحدود الأنثروبولوجية (العرقية والدينية) للمجتمعات الإفريقية والقبائل الصحراوية (الطوارق فيما يخص حالة الجزائر).

خريطة توضح مناطق تواجد الطوارق في الجزائر وليبيا والنيجر ومالي وبوركينافاسو (الجزيرة)
في ظل هذا الواقع، انقسم الطوارق في رؤيتهم إلى موقفين: موقف رافض لواقعهم المقسم ويطالب بتكوين دولة طوارقية في الصحراء الكبرى، وموقف مؤيد للبقاء تحت سيادة الدول المستقلة شريطة التمتع بالحرية في التنقل والحكم والإدارة الذاتية، حتى وإن كان أغلب الطوارق في الأصل لا يعترفون بفكرة الحدود ولا بتحديد مجال جغرافي لتنقلاتهم التي تتساير مع التقلبات المناخية. ومنذ ذلك الوقت وعلاقات الطوارق مع الأنظمة المتعاقبة على الدول التي يتواجدون فيها يسودها التوتر سيما دوليتي مالي والنيجر اللتان مارستا تهميشا وقمعا ضد سكان شمال كل منهما خلال عشرية الثمانينيات من القرن الماضي مما أجبر الطوارق على الهجرة إلى الجزائر وليبيا وعلى حمل السلاح في وجه جيوش النيجر ومالي للمطالبة بحقوقهم.

نتيجة للموقف الأخير، ظهرت مجموعة من حركات الأزواد تسمي نفسها تحريرية تمردت على سلطة الحكومات المركزية لمالي والنيجر وقادت خلافاتها معها وتحركاتها ضدها إلى تنامي موجات اللاجئين والمهاجرين السريين نحو الجزائر، وفضلا عن التبعات الإنسانية والمشكلات الأمنية (تهريب، تجارة مخدرات، اعتداءات على مواطنين جزائريين وغيرها) التي أفرزها وجود هؤلاء اللاجئين والمهاجرين في صحراء الجزائر ومدنها الجنوبية واستخدامهم كمناطق انكفاء إستراتيجي وانسحاب في حال ملاحقات من طرف القوات النظامية النيجرية أو المالية. ولا تستبعد بعض التقارير أن تكون العمليات المسلحة التي قاموا بها ضد بلدانهم الأصلية (وبتحديد ضد ثكنتين عسكريتين للجيش المالي في كيدال) انطلقت من الأراضي الجزائرية وبالتعاون مع أفراد قبائلهم الذين لم يغادروا مواطنهم في مطلع تسعينيات القرن المنصرم أو حتى سنة 2006. وقد قادت هذه االعمليات إلى توتر إقليمي بين البلد المستقبل (الجزائر) والبلدان الأصلية للاجئين (مالي والنيجر) كادت أن تؤدي إلى انفلات الوضع الأمني هناك وإلى فتح جبهة جنوبية للقتال بالنسبة للجزائر كانت في غنى عنها بحكم تكريسها لجهدها الأمني والعسكري في شمال البلاد الذي كان يعاني من الألفية المنقضية.

وقد تبنت الجزائر رؤية تقوم على سياسة وقائية وذلك بتوفير البديل الاقتصادي والاجتماعي للطوارق الموجودين على أراضيها عبر جمعهم في قرى ومدن جنوبها وترقية معيشتهم ومحاولة إدماجهم في الحياة السياسية. غير أن هذه السياسة الجزائرية لم تكف لدرء تهديد الحركات الأزوادية والحد من نشاطهم المسلح، لأن مالي والنيجر لم تقدما، وبشكل مواز لما قامت به الجزائر، أي بديل لتعويض التغيرات التي طرأت على النمط المعيشي للطوارق بشكل يخدم استقرار المنطقة، بل أعطت سياستهما تجاه الساكنة الشمالية وضعف العدالة التوزيعية اقتصاديا وسياسيا فيهما الحجة للطوارق للثورة ضد حكومتيهما؛ سيما وأن الطوارق لم يجدوا بديلا عنها أمام استمرار تدهور أحوالهم الاقتصادية وتجاهل مطالبهم من طرف حكومتي باماكو ونيامي.

وقد خاضعت الجزائر من منطق ومبدأ حسن الجوار الوساطة الدبلوماسية لحل مشكلة الأزواد منذ 1991 بين الحركة الشعبية لتحرير الأزواد، والجبهة العربية الإسلامية للأزواد لغرض وقف العمليات المسلحة. كما قادت الجزائر دبلوماسية نشطة بين الطوارق وحكومتي مالي والنيجر محتضنة العديد من اللقاءات وعمليات الوساطة مثل (لقاء الجزائر العاصمة الأول من 29 إلى 30 ديسمبر/ كانون الأول 1991، لقاء الجزائر الثاني من 22 إلى 30 يناير/ كانون الثاني 1994، لقاء الجزائر الثالث من 15 إلى 25 مارس/ آذار 1992، لقاء تمنراست من 16 إلى 20 أبريل/ نيسان 1994، لقاء الجزائر 10 إلى 15 ماي 1994، لقاء تمنراست من 27 إلى 30 يناير/ كانون الثاني 1994) وتوج اللقاء الأخير بالإعلان الرسمي عن انتهاء النزاع في شمال مالي 26 مارس/ آذار 1996، نظمت الحكومة المالية على إثره بمنطقة تمبكتو حفل “شعلة السلام” اجتمع فيه جميع الفرقاء وأُتلفت خلاله كل الأسلحة التي جمعت في هذا النزاع.

إلا أن عدم احترام الطرفين المالي والطوارقي للاتفاقيات المبرمة بينهما كان يؤدي في كل مرة إلى الاضطراب مجددا ولتتدخل الجزائر على خط الوساطة بسرعة؛ لوعيها بخطورة النزاع الطوارقي على أمنها القومي. وعلى إثر اشتداد الصراع سنة 2006 قادت الجزائر وساطة أشرف عليها الرئيس الجزائري بوتفليقة شخصيا كدليل على اهتمام الجزائر الكبير بالدائرة الإفريقية لأمنها القومي وبتهديد الذي يشكله إقليم أزواد بصفة خاصة. وقد أفضت هذه الوساطة إلى التوقيع على اتفاق سلام بالجزائر في يوليو/ تموز 2006 تحت اسم “تحالف 23 مايو من أجل التغيير” الذي كان أثر المقاربة الجزائرية لإحلال الأمن في المنطقة واضحاً فيه. ولتجسيد الاتفاق أنشئ مجلس جهوي مؤقت للتنسيق والمتابعة يتم اختيار أعضائه بطريقة متفق عليها، يتولى شؤون التنمية ويشرف على الميزانية المحلية وجميع مظاهر الأمن في المنطقة. وعلى الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، نص الاتفاق على تنظيم منتدى كيدال حول التنمية خلال ثلاثة أشهر بعد توقيع الاتفاق يفضي إلى إنشاء صندوق خاص للاستثمار، مع تسريع مسار تحويل صلاحيات التسيير إلى الجماعات المحلية، ومنح قروض لإقامة مشاريع تنموية، وتحديد التبادل التجاري وتنسيقه بين مناطق دول الجوار، ووضع نظام صحي يلائم طبيعة الأهالي الرحل والقضاء على عزلة المنطقة عبر تطوير شبكة الطرقات الرئيسية بين كيدال وداخل البلاد وداخل البلاد وبينها وبين المناطق الجزائرية المتاخمة.

بيد أن تطبيق البنود السابقة شهد خلافات أخرى بين الطرفين تطلبت الدخول في مفاوضات جديدة برعاية الوسيط الجزائري انتهت بالتوقيع في 20 فبراير/ شباط 2007 بالجزائر على بروتوكول إضافي يضم ثلاث وثائق: الأولى تخص الإجراءات التطبيقية العالقة في اتفاق يوليو/ تموز، الثانية عبارة عن جدول زمني حدد آجال تسليم 3000 من عناصر التحالف لسلاحهم; أمّا الوثيقة الثالثة فتضبط شروط منتدى المانحين لتنمية منطقة شمال مالي (كيدال، تمبكتو وغاو) وطريقة تنظيم هذا المنتدى الذي عقد في 23 و24 مارس/ آذار 2008. ولم يؤد هذا الاتفاق إلى نتيجة فشتدد الاقتتال مجددا بين الطرفين في نفس شهر مارس/ آذار 2008 فقامت الجزائر مرة أخرى بجمع الفرقاء في اجتماعات تفاوضية بالجزائر العاصمة دامت أربعة أيام (من 24 إلى 27 يوليو/ تموز 2008) وتُوجت بتوقيع اتفاق لوقف القتال بين الطرفين وتثبيته، إلى جانب التشديد على ضرورة السعي لإطلاق المساجين الموجودين عند كل طرف وإيجاد حلول لمسألة العائلات المشردة التي وصلت إلى الحدود. وحرصا على تنفيذ هذه البنود، تم إنشاء لجنة مختصة للمراقبة تتكون من نحو مائتي عضو من الطرفين بالتساوي.

إن الجزائر بقدر امتلاكها وتحريكها لماكنة الدبلوماسية المعززة لعلاقات حسن الجوار واطفاء النزاعات بالدول المجاورة إلا أن هشاشة البناء السياسي وشساعة مناطق الصراع صعَّب من مهمة الجزائر في تطويق واحتواء الاقتتالات المستمرة.

3- الجزائر الفضاء المغاربي وإفريقيا “المنظور الأمني”
تشترك دول المغرب العربي وإفريقيا في كونها ساحة للتنافس الاستراتيجي العالمي خصوصا الأمريكي والأوربي، وفي ظل غياب إستراتيجية أمنية موحدة صار كثير من الباحثين يرون أن الدول المغاربية تتحدث لغة إستراتيجية لا تفهمها الدول الإفريقية أو تتخوف من مقاصدهاـ فالدول المغاربية وخصوصا الجزائر ترفض إيواء القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) بل وتسعى لإقناع دول إفريقية بعدم إيوائها، وهو أمر تنظر إليه الدول الإفريقية بعين الريبة لأنها لا تملك لا المال ولا الثروات ولا الموقع، وربما ولا حتى الاستقرار السياسي السائد الذي يجعلها ترفض مساعدات أمريكية ستجنيها لو هي استضافت الأفريكوم. أضف إلى ذلك الرياء السياسي السائد مغاربيا فكل دولة تعتبر نفسها شريكا إستراتيجيا للولايات المتحدة. ويبدو أن الدول المغاربية الأكثر نشاطا على الساحة الإفريقية(ليبيا –الجزائر – المغرب) لا تعني ضرورة دفع تكلفة (الريادة) فالنفوذ يقاس أيضا بما يدفع نقدا (تعاون، مساعدات)؛ وهنا مكمن الخلل في (الإستراتيجيات) المغاربية فهي تسعى لإخراج إفريقيا من دائرة النفوذ الأجنبي لكنها لا تريد تحمل تبعات ذلك سياسيا وماليا؛ كما أنها تقيم علاقات وطيدة مع نفس القوى الأجنبية! إن الحديث عن التضامن الإفريقي وعن المصير المشترك لا يسمن ولا يغني من جوع، إذ أن ما يهم -على الأقل واقعيا -هي المصالح والمنافع المتبادلة(6).

إن الدبلوماسية الجزائرية وفق المنظور الأمني تربط أي تحرك بالمعايير القانونية الدبلوماسية التالية:

تُفضل الجزائر دبلوماسية الفعل (Action Diplomacy) على دبلوماسية التصريحات، وهي تتحرك دائما وفق هذا الإطار العام في حالات الاستقرار أو حالة التأزم في العلاقات مع الجوار.
ترى الجزائر أنّ في تعاطيها السياسي مع الفضاء الإفريقي كلفة (Cost) اقتصادية وسياسية يجب دفع فاتورتها، ضمانا لاستقرارها، وقد أفلحت الجزائر في إدارة هذه العلاقات وتجنب أنواع التمزق ودعوات الانفصال، وحافظت على كيانها الموحد، بل إنها أجبرت القوى الكبرى على قبول منطقها في التصدي لما يعرف بظاهرة الإرهاب والجريمة المنظمة(7).
ترى الجزائر في جميع المشاكل المطروحة في إفريقيا أنّ التحرك الجماعي “ضمن المجموعة الإفريقية” هو الحل الأكثر كفاءة والأقوى فاعلية.
4- المقاربة الدولية للأمن في المنظمة (8)
من المعروف أن للولايات المتحدة الأمريكية نمطين من المصالح السياسية في المنطقة المغاربية، هما:

المصالح المرتبطة بمكافحة الإرهاب، وذلك إشارة إلى الاهتمام الأمريكي بمعاداة الأيديولوجيات الراديكالية الداعية إلى استخدام العنف ضد الوجود الأمريكي من منشآت وأفراد، وإلى الدول التي تؤيد هذه الأيديولوجيات، فعلا وقولا وفي هذا الإطار، برز في السابق كل من ليبيا والجزائر كدولتين سعت الولايات المتحدة إلى احتوائهما، وقد نجحت في ذلك.
المصالح المرتبطة بالنفود الأمريكي، سواء كان ذلك، في الوطن العربي أو في غرب المتوسط وجنوب أوربا. وهذه المصالح تشير إلى الوجود العسكري والتنسيق الاستراتيجي، بل والتبعية الاستراتيجية لبلدان المنطقة، للولايات المتحدة الأمريكية. وهنا تبرز تونس والمغرب كنقطتي ارتكاز لهذه المصالح، إذ أنه خلال الإدارة الثانية لريغان نجحت الولايات المتحدة نجاحا باهرا في دمج تونس والمغرب في إطار هذه المصالح.
إن الاهتمام الغربي بمنطقة صحراء الساحل الإفريقي، على الصعيد الأمني تنامى أساسا في إطار ما يسمى بالحرب على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية منذ تعرضها لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001. ففي هذا الإطار قررت الإدارة الأمريكية برئاسة بوش الابن في نهاية سنة 2006 إنشاء (القيادة العسكرية الخاصة بإفريقيا الأفريكوم)) (AFRICOM) الذي أعلنت عن تكوينه رسميا في فبراير/ شباط 2007 وبدأ العمل الفعلي في فاتح أكتوبر/ تشرين الأول 2008 انطلاقا من مدينة شتوتغارت الألمانية مقر القيادة العسكرية الخاصة بأوروبا وهو مقر مؤقت في انتظار أن تتم استضافته من قبل إحدى الدول الإفريقية.

ويعتبر إنشاء (الأفريكوم) خطوة حاسمة ودالة على رغبة أمريكية صارمة في التواجد العسكري الفعلي فوق الأراضي الإفريقية وهو ما ترفضه رفضا صارما أغلب الدول المعنية. فقبل ذلك ساعدت الولايات المتحدة في إطار حربها على ما تطلق عليه الإرهاب، على تدريب فرق من جيوش دول الساحل على مكافحة الإرهاب، وذلك أولا في إطار ما يعرف بـ”مبادرة دول الساحل لمكافحة الإرهاب” (PAN SAHEL INITIATIVE) التي أطلقتها في بداية 2003 ثم بعد ذلك وانطلاقا من سنة 2005 في إطار ما يعرف ب مبادرة مكافحة الإرهاب ما بين الدول المطلة على الصحراء Trans-Saharan Counter – Terrorism Initiative TSCTI، وهي المبادرة التي تم فيها إلحاق دول المغرب العربي بالمبادرة السابقة التي كانت تظم فقط دول الحافة الجنوبية للصحراء.

من هنا تأتي أهمية التنسيق الأمني المحلي، أي بين الدول المعنية فقط دون غيرها وهو ما تحاول الجزائر القيام به مثلا حين أنشأت مركز قيادة إقليمي في تمنراست (في الجنوب الجزائري) بهدف تنسيق تحركات جيشها مع تلك التي تقوم بها جيوش كل من موريتانيا ومالي والنيجر، كما شهدت هذه المنطقة من الصحراء الجزائرية اجتماعات في نهاية سبتمبر/ أيلول من سنة 2011 لمجلس رؤساء أركان الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر بهدف (وضع إستراتيجية موحدة لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة) بحسب نص بيان وزارة الدفاع الجزائرية(9).

6- تحالف الإرهاب والجريمة المنظمة: التهديدات الصلبة (10)
أخذت تهديدات الدائرة الإفريقية للأمن القومي الجزائري التي مصدرها ما بات يعرف بالإرهاب في الصحراء والساحل منحى أخطر بعدما أقامت التنظيمات المسلحة علاقات تعاون وتبادل مع عصابات الجريمة المنظمة والمافيا، وبعدما صارت لا تتوانى عن ممارسة أي نشاط إجرامي (الاتجار بالمخدرات، البشر والسلاح) من أجل التموين وتمويل نشاطها بسبب مصادر التمويل والمؤونة التي كانت تعتمد عليها في التسعينات من القرن الماضي. ففي هذا الصدد، كشفت التحريات الجزائرية حول الاعتداء المسلح في نهاية يونيو/ حزيران 2010 بتين زاوتين بتمنراست، والذي أسفر عن اغتيال 12 عنصرا من حرس الحدود الجزائري، عن تورط تنظيم القاعدة فيه، وأن هذا الاعتداء كان تسهيل عملية تهريب سبعة قناطير من الكيف المعالج إلى داخل التراب الجزائري. وتضاف هذه العملية إلى اعتداءات أخرى ضد فرق الجمارك الجزائرية سبقتها أهمها مقتل 13 جمركي بالمنيعة على أيدي الجماعة السلفية في 2006، بالإضافة إلى الاعتداءات المسلحة ضد حرس الحدود في ولاية بشار المعروفة كممر للتهريب.

تشكل الجريمة المنظمة، وبالأخص المتعلقة بالاتجار بالمخدرات، تهديدا جديدا للأمن الجزائري يمس بتأثيراته السلبية جميع الوحدات المرجعية للأمن الجزائري (الدولة، المجتمع والمجتمع الأفراد) والذي يتطلب أيضا استراتيجيات أمنية شاملة، أي قائمة على إجراءات عسكرية وأخرى غير عسكرية (قضائية، اقتصادية، اجتماعية) للتصدي له. وقد ساهمت عوامل القرب الجغرافي من مناطق إنتاج وعبور المخدرات في إفريقيا جنوب الصحراء (خليج غينيا بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى السنغال، ساحل العاج، غانا، التوغو، البنين، نيجيريا والكاميرون). وكذا ضعف الأنظمة الجنائية في إفريقيا جنوب الصحراء وفسادها، وطبيعة بنية الحروب والنزاعات فيها وكذا انكشاف الجزائر من الجنوب بسبب ضعف التغطية الأمنية لحدودها الجنوبية في تفاقم التأثير السلبي للمخدرات على أمن المجتمع والأفراد الجزائريين. وتشير أرقام كميات القنب الهندي، الكوكايين، الهروين المضبوطة في الجزائر كل سنة والمقدرة بالأطنان، بالإضافة إلى مئات الآلاف من الأقراص المهلوسة، إلى خطورة التهديد الآتي من المخدرات وشبكات تهريبها والاتجار بها على الأمن الجزائري.

7- أزمة مالي:” التخوف من كيان دولة فاشلة: مجاورة
تشير الدراسات الاسترتيجية الأولية إلى أن الجزائر ستجد نفسها أمام دولة فاشلة تجسدها “الحالة المالية” وذلك بعد انقلاب أبريل/ نيسان 2012 والذي أدى لاحقا إلى إعلان “كيان أزوادي” أشبه بالحالة الأزموية الفاشلة “والتي تجمع في خصائصها الفشل الدولتي الصومالي والأفغاني”، وما ستجره لاحقا من أزمات ترتبط مفصليا بنشر وتوسع رقعة التهديدات الأمنية الصلبة والناعمة من انتشار تجارة السلاح، والجريمة المنظمة، والهجرة غير الشرعية، وهي تهديدات تضعها الجزائر وتتعامل معها بحذر ودقة لما لها من آثار ستكون تداعياتها واضحة على صعيد الوحدة الترابية للجزائر نتيجة للروابط الأثنية والتاريخية بين المكون الأمازيغي الطارقي الموجود في مالي والدول المغاربية.

وترتكز الحركات الأزوادية على أربعة مكونات رئيسية تشكل القوة الضاربة عسكريا وهي:(11)

أولا: المجندون الماليون والنيجيريون من أصول طارقية ممن كانوا يخدمون تحت إمرة الزعيم الليبي، وكانوا يعملون في وحدة خاصة تسمى الوحدة 32 يقودها نجل الزعيم الليبي الراحل خميس القذافي.

وكانت آخر مجموعة من هؤلاء المجندين الماليين قد عادت في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول 2011 واضطرت السلطات الاقليمية في كيدال إلى استقبالهم لدمجهم في الجيش النظامي المالي.

ثانيا: المجندون السابقون في تحالف 23 مايو/أيار 2006 الذي كان يرأسه إبراهيم أغ باهانغا قبل موته الغامض في أغسطس/ آب 2011 في حادث سيارة عائدا من ليبيا -حسب الرواية الرسمية المالية والجزائرية- سواء الذين انضموا للجيش النظامي المالي تطبيقا لاتفاقات السلام وملحقاتها والذين هربوا منه عند اندلاع الأزمة الأخيرة أو من لم يدخلوا الجيش النظامي أصلا وتمسكوا بسلاحهم بعد اتفاقية الجزائر2006. وينحدر غالبية زعماء ومجندي هذه الحركات من قبيلة “أيفوغاس” وهي قبيلة طارقية قليلة العدد ولكن نفوذها السياسي في الشمال المالي واسع جدا.

ثالثا: حركة أنصار الدين الأزوادية التي يعتبر زعيمها الآن: إياد أغ غالي أقدم وأبرز زعيم للمتمردين الطوارق بعد رحيل أغ باهانغا ومقتل القائد بركة شيخ، العضو في التحالف الديمقراطي لـ23 مايو / أيار من أجل التغيير الذي يمثل تمرد الطوارق السابق، والذي عثر على جثته في 11 أبريل/نيسان 2008 قرب مدينة كيدال، وكاد مقتله يعجل بأتون الحرب التي اندلعت الآن. زعيم هذه الحركة هو رفيق سلاح للقادة التاريخيين للمتمردين الطوارق، وقد عينته الحكومة المالية قنصلا عاما لمالي في جدة في خطوة قيل إنها سعي من الرئيس المالي توماني تورى لإبعاد أغ غالي عن مركز قوته في كيدال قبل إن تطرده المملكة العربية السعودية لاتهامه بالقيام بمهام صنفتها المملكة ” بالتخريبية”.

وتسعى حركة أنصار الدين التي توصف بأنها حركة “تبليغية” حسب بعض المصادر في أزواد إلى “ضرورة إظهار الحالة الدينية الإسلامية للشعب الأزوادي” وذلك بتطبيق الشريعة وإقامة حكم إسلامي في أزواد. وقد توحدت مع الحركات الطوارقية الأخرى التي ليس لها توجه ديني نتيجة لالتقاء مصالح الطرفين إضافة لكون عدوهما واحد وهو الحكومة المالية.

رابعا: الدور الخفي الذي يلعبه تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في توفير الدعم اللوجستي لبعض القيادات التي تنشط الآن في هذا الصراع، رغم حرص كل القيادات والمتحدثين باسم المتمردين الطوارق سواء في الداخل أو في دول الشتات في أوربا على نفي أي صلة لهم بتنظيم القاعدة. ويحرص كل طرف على اتهام الطرف الآخر بالتعاون السري مع التنظيم الإرهابي لتسجيل نقاط عند الأطراف الاقليمية أو الدولية التي يشكل التحرك الحر للتنظيم في دول الساحل والصحراء تهديدات لمصالحها. إلا تقارير انفردت مصادر صحفية مالية بنشرها مؤخرا تؤكد مشاركة بعض قادة التنظيم المسلح في عمليات قتل بشعة استهدفت أفرادا من الجيش المالي.

خامسا: وهو طرف أخير، ليس بالمسلح ولم يشارك ميدانيا في النزاع القائم، ويتمثل في بعض الأعيان والموظفين السامين في الإدارة الإقليمية للشمال المالي كالحكام وعمد البلديات أو الدبلوماسيين السابقين، وينحدرون في مجملهم من قبائل العرب والطوارق الذين يشكلون الغالبية العظمى لسكان الشمال الذي يمثل حوالي 70 % من مساحة البلاد المقدرة بـ 2372411 كلم مربع. من أبرز هؤلاء الرموز الوزير السابق في حكومة موسى اتراوري حمة آغ محمد، وكذلك أحمد ولد سيد محمد وهو دبلوماسي موريتاني سابق، إضافة لشخصيات عسكرية ومدنية أخرى هربت من مناطق الصراع خوفا من التصفية من طرف القوات المالية أو المواطنين الماليين الزنوج الذين شاهدوا ما فعل متمردو الطوارق بأبناء جلدتهم من الزنوج.

وبعد الإعلان الرسمي من طرف واحد على تأسيس “الكيان الأزوادي” الذي لم تعترف به أي دولة، فالشكوك تزداد بإمكانية إضعاف وتهديد ما تبقى من الكيان المالي ونقل ذلك لدول ذات صفات بنيوية واقتصادية متشابهة ومجاورة، وبهذا الصدد وتماشيا مع هذا الاتجاه المتخوف من هذا الكيان الذي سيكون وفقا لهذا الرؤية مأوى حقيقيا للقاعدة، وذلك راجع لكون هذا الكيان الهجين الوليد منح 20 حقيبة وزارية للقاعدة في الحكومة الأزوادية المعلنة(12).

8- الرؤية الاستشرافية للمقاربة الأمنية الجزائرية
بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 نجح الرئيس الحالي بوتفليقة في إعادة الجزائر إلى مركزها كحليف للولايات المتحدة وأوروبا في الحرب على ما بات يعرف بالإرهاب، وفي المقابل وافقت إدارة الرئيس بوش على بيع تجهيزات تكنولوجية عسكرية للجزائر، بما فيها نظارات الرؤية الليلية، لمحاربة الجماعات المسلحة، ما دل على أن الجزائر لم تعد تعتبر “مشكلة فرنسية” على الصعيد الدولي.

وكانت حادثة اختطاف سياح أوربيين في أوائل 2003 الحدث المفصلي الذي دفع واشنطن إلى الاعتبار أنه بإمكان الجزائر أن تصبح حليفا إقليميا إستراتيجيا جديدا. وفي العام 2004، أتت القوى الخاصة الأمريكية إلى جنوب الجزائر لتدريب وتجهيز ومساعدة القوى الوطنية على محاربة الجماعة السلفية للدعوة والقتال. ومن ثم، شارك الجيش الجزائري في عدد من المناورات العسكرية التي نظمها الجيش الأمريكي وحلف شمال الأطلسي. كذلك أشركت الجزائر في مبادرة الساحل الإفريقي لمحاربة الإرهاب التي تطورت وأصبحت المبادرة العابرة للصحراء لمواجهة الإرهاب (TSCTI). ويشار إلى أن سبعا من الدول التسع المشاركة في مبادرة الساحل تتمتع باحتياطات نفطية هائلة.

وساعد التعاون بين الولايات المتحدة والجزائر في مجال الأمن بصورة كبيرة في وضع حد للعزلة التي كانت تعيش فيها الجزائر في التسعينات من القرن الماضي، كذلك ساهمت بشكل لافت في تغيير الصورة التي كانت تميز العلاقة بين الجزائر وفرنسا سابقا. وبرزت الجزائر ساحة للحرب على الإرهاب تتلاقى فيها بوضوح مصالح الولايات المتحدة وفرنسا، حتى عندما كانت باريس وواشنطن تتقاذفان الانتقادات حول الحرب على العراق. والمفاجئ أن الجزائر أصبحت في عهد بوتفليقة وفي البيئة الجيوستراتيجية الجديدة عنصرا من عناصر “محور الخير” مقابل “محور الشر”. وإسنادا إلى مصادر دبلوماسية، رعت الجزائر وجودا أمريكيا في منطقة تمنراست في جنوب البلاد لحماية التجهيزات النفطية، على الرغم من نفي هذا الوجود مرارا من قبل قادة سياسيين من البلدين. إلا أن الجزائر نفت أيضا رعاية القيادة العسكرية الإفريقية التي خططت لها وزارة الدفاع الأمريكية والمعروفة بـ« أفريكوم» (13) (AFRICOM).

غير أن الأزمة الجديدة التي تعيشها دولة مالي تبدو عصية على الحل تحتم إعادة قراءة الواقع الجيوسياسي الإفريقي بتصميم رؤية إستراتيجية أمنية وطنية استباقية تراعي المتغيرات والمعطيات الجديدة التالية:

أثبتت التجارب في أفغانستان والعراق والصومال، أن التدخل الأجنبي يتحالف عضويا ووظيفيا مع جماعات الجريمة المنظمة، وبالتالي فإن خصوصية الجزائر تكمن في اطلاعها بمهام مكافحة الإرهاب في الداخل، ويقينها أن التدخل الأجنبي إنما يغذي الأزمات ولا يجد لها حلا. وانطلاقا من ذلك فقد حاولت الجزائر وضع خارطة طريق بقمة مارس/ آذار 2011 في الجزائر حين جمعت سبع دول إفريقية معينة بالمنطقة وحددت مبادئها الداعية إلى ضرورة تكثيف جهود التنسيق فيما بينها، دون الرضوخ لتدخلات أو ضغوطات خارجية كما حدث في قضية التدخل الفرنسي في دفع الفدية، بالإضافة إلى إيجاد آليات للتنسيق على المستوى الاستخباراتي والأمني، إلى جانب بعث المشاريع التنموية، مثل مبادرة ” النيباد”، فحين كانت الجزائر تدافع عن ” النيباد” طيلة 10 سنوات فهي بذلك تهدف إلى بناء مقاربة تنموية للقضاء على الإرهاب والجريمة المنظمة. وتشارك الجزائر بنشاط في الجهود الدولية والإقليمية كافة الرامية إلى مكافحة هذه الظاهرة، بما فيها تلك المتعلقة بإستراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب (2006) ومكافحة غسيل الأموال. إن هذه الجهود الثنائية ومتعددة الأطراف ساعدت في تعزيز رغبة جميع الدول لاجتثاث هذا الخطر العابر للقوميات. وفي الواقع، فإن هذا التعاون الدولي أفاد كلا الطرفين فقد وفر للجزائر ما يلزم من الخبرة الفنية لتحسين أساليب مكافحة التمرد.

كما أن الواقع أضفي الصفة الشرعية على حرب الجزائر في مكافحة ما بات يعرف بالإرهاب التي أضعفت كلا من الدولة والمجتمع. أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فقد ساعدتها هذه الجهود في الحصول على المعلومات الاستخبارية اللازمة لمكافحة هذه الظاهرة في جميع أنحاء العالم، إذ يشترك الإرهاب الدولي في القناعات والتكتيكات والأهداف. ولذا، فإن تفكيك تنظيم القاعدة، بوصفه شبكة غامضة ومبهمة، لا يمكن أن يتم إلا من خلال إضعاف مختلف مجموعاته والتشكيك في مرتكزاته العقائدية. وفي الواقع، فإن هزيمة التنظيمات المسلحة في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل وصولا إلى أوروبا لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق دعم الجهود المحلية والإقليمية.

إن التحرك الجزائري يبدو محكوما باحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية، وقد حرصت الجزائر منذ سنوات على أن تكون وساطتها الدبلوماسية محكومة بمبدأ احترام الوحدة الترابية لجوار، ولا يزال هذا المبدأ مقدسا في نظر الجزائر، بل إن أحد أسباب توتر العلاقة مع نظام العقيد الراحل القذافي خلال منتصف العقد الماضي كان تدخله من أجل تشجيع التمرد على النظام القائم في مالي. وقد توجست الجزائر من دعوة القذافي سكان الصحراء إلى إنشاء دولة خاصة بهم، واعتبرت هذه الدعوة تحريضا على التمرد والفوضى حيث يتوزع الطوارق على عدة دول في المنطقة غير أنهم لم يسعوا في السابق إلى بناء دولتهم المستقلة، كما أن أوضاعهم متباينة من دولة إلى أخرى.
في الختام يعتقد كثير من الباحثين في شأن الأمن الجزائري أن الديبلوماسية الأمنية الجزائرية في حاجة إلى إعادة قراءة سياسية وأمنية، وهذه القراءة يجب أن تشمل المنظومات التالية:

إعادة قراءة مدى نجاعة الدبلوماسية الأمنية الجزائرية وقدرتها على أن تستجيب لوزن الدولة الجزائرية وقدرتها الجيوسياسية، ودبلوماسيتها النشطة تاريخيا خصوصاً في مرحلة الإشعاع الدبلوماسي (مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي).
إعادة النظر في ضمان إجراءات دستورية تعطي الجيش الجزائري حق التدخل وتتبع فلول الجماعات الإرهابية والتهديدات الصلبة المتأتية من خارج حدود الدولة، بما يضمن عدم تكرار مثل هذه الخروقات (14).
إعادة قراءة واقع الأمن الجزائري بشكل استشرافي يقوي الجيش الجزائري ويضمن احترافية أكبر في ظل الإنعاش الاقتصادي الذي تعيشه الجزائر، بما يكفل تقوية المنظومة الدفاعية الوطنية وفق آلية تضمن سلامة الحدود الجزائرية من التهديدات الصلبة والناعمة.
_________________________________
د. بوحنيه قوي – باحث متخصص في التحولات السياسية وقضايا التحول الديمقراطي وعميد كلية الحقوق والعلوم السياسية جامعة ورقلة بالجزائر.

الإحالات
1- تقر الجزائر البعد الإفريقي في ديباجة الدستور الجزائري وبهذا الإطار نقرأ في دستور 1989 بأن «الجزائر أرض الإسلام وجزء لا يتجزأ من المغرب العربي الكبير، وأرض عربية وبلاد متوسطية وإفريقية» ص:04 من الدستور.

2- “دول الساحل” تسمية أطلقها الفاتحون المسلمون لإفريقيا، على المنطقة الجغرافية الواقعة على خط التماس بين الحافة الجنوبية للصحراء الكبرى والحافة الشمالية للغابات الإفريقية، وهو خط يمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى البحر الأحمر شرقا على مساحة تناهز 3 ملايين كلم2، ويلامس هذا الخط الدول التالية: السنغال، مالي، بوركينافاسو، موريتانيا، النيجر، نيجيريا، تشاد، السودان، واريتريا، لكن هذه المنطقة أخذت معنى جيوسياسيا جديدا يأخذ بالاعتبار كل الدول التي تشكل الحزام الحدودي للصحراء الكبرى، بالإضافة إلى دول المغرب العربي.

3- للاستزادة أكثر حول موضوع العقيدة الأمنية يطالع:
– Francis, sempa. « US National security doctrines Historically reiewed», American Diplomacy,2003 www.americandiplomacy.org
– Alain rey , «Définition de Doctrine», le grand Robert de la langue Française 2010 النسخة الالكترونية) (

4- أمحند برقوق، المعضلات الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي، والاستراتيجية الجزائرية، محاضرة غير منشورة 2012.

5- للتفصيل في هذا الموضوع تطالع الدراسة التخصصية للباحث: حسام حمزة، ” الدوائر الجيوسياسية للأمن القومي الجزائري”، مذكرة ماجستير العلاقات الدولية، جامعة باتنة، الجزائر، 2010/2011 خصوصا الصفحات التالية: (73-75) و(89-91) وما بعدها.
وقد استفاد الباحث من أجزاء من هذه الدراسة بصفته عضوا مناقشا في هذه المذكرة.

6- عبد النور بن عنتر، العلاقات المغاربية-الإفريقية، بعض الجوانب الإشكالية، مجموعة الخبراء المغاربيين، عدد4، فبراير2011، مركز الدراسات المتوسطية تونس، ص:03

7- تعتمد الجزائر في تعاملها مع القوى الكبرى على توجه استراتيجي يعتمد على منظورين الأول: هو الدفاع عن ريادتها المغاربية والإقليمية خصوصا في مجال مكافحة الإرهاب والثاني: هو رفض التدخل الأجنبي تحت أي مبرر لكن دون استبعاد التعاون مع القوى الكبرى، إذ أضحى ذلك ضروريا كما صرح بذلك وزير الخارجية مراد مدلسي، على هامش أعمال الدورة العادية الخامسة عشر لندوة رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي في كمبالا «أوغندا»

8- جهاد عودة، السياسة الأمريكية تجاه منطقة المغرب العربي، السياسة الدولية، العدد 97، 1989، ص139.

9- أحمد إدريس، منطقة الساحل الإفريقي ومنطقة المغرب العربي، مجموعة الخبراء المغاربين، المرجع السابق، ص:11

10- حسام حمزة، مرجع سابق.

11- الحاج ولد إبراهيم، أزمة مالي” انفجار الداخل وتداعيات الإقليم، مركز الجزيرة للدراسات، فبراير 2012، ص:3-4

12- رشيد تلمساني، الجزائر في عهد بوتفليقة: الفتنة الأهلية والمصالحة الوطنية أوراق كارنيغي، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، بيروت، يناير 2008، ص:18-17.

13- كشفت مصادر جريدة “النهار الجزائرية ” من حركة تحرير الأزواد، عن رفض العديد من القيادات والشباب الأزواديين الناشطين، عما الت إليه الأمور في إقليم الأزواد، خاصة في ظل تمكن حركة أنصار الدين من الحصول على 20 حقيبة وزارية مناصفة مع حركة تحرير الأزواد في الحكومة التي تضم 40 حقيبة وزارية فيما استثنى حسب مصادر النهار من مدينة غاو بالاجتماعات المغلقة التي شملت كل من قيادات حركة تحرير الأزواد وقيادات حركة أنصار الدين، ثلاث حقائب وزارية هي وزارة الشباب والرياضة ووزارة السياحة ووزارة العدل والتي ألغيت تحت ضغط حركة أنصار الدين التي تتحالف مع الكتائب الإرهابية فيما تم الاتفاق على تشكل مجلس شورى من 12 عضو يشمل علماء وفقهاء أزواد مع استمداد التشريع من الشريعة الإسلامية، في حين تم الضغط على حركة أنصار الدين حسب المصادر من أجل رفع يدها على الجماعات الإرهابية وإلغاء كل مظاهر التشدد بما فيها الأعلام السوداء التي ترفعها الحركات الإرهابية، كما تم الاتفاق على استعمال اللغة الفرنسية في المعاملات الرسمية داخليا وخارجيا وقد لقيت نتائج الاجتماعات رفضا كبيرا من طرف شباب حركة تحرير أزواد الذين عبروا عن خيبة أملهم من هذه الحكومة، حيث أفاد قيادي من حركة تحرير الأزواد أنه لم يبق إلا تحصل أبو زيد ومختار بلمختار حقيبتين وزاريتين في ظل بسط حركة أنصار الدين على الحكومة المعلنة، في حين لم تبد ذات الحركة أي جهود عملية في فك الارتباط بينها وبين الحركات الإرهابية حيث مازال التنسيق بين حركة أنصار الدين والقاعدة وحركة التوحيد والجهاد باديا للعيان ويسعون إلى تكوين إمارة إسلامية في إقليم أزواد تدريجيا عن طريق خداع حركة تحرير الأزواد التي تنازلت عن مبدأ علمانيتها بارتمائها بين أحضان المتشددين الإسلاميين، يطالع جريدة النهار، الصادر بالأحد 20 مايو 2012.

14- تشير المادة 25 من الدستور الجزائري المعدل والمتمم بالدور المحدد والمنوط بالجيش الجزائري في ما يلي: تنتظم الطاقة الدفاعية للأمة، ودعمها، وتطويرها، حول الجيش الوطني الشعبي.
تتمثل المهمة الدائمة للجيش الوطني الشعبي في المحافظة على الاستقلال الوطني، والدفاع عن السيادة الوطنية.
كما يضطلع بالدفاع عن وحدة البلاد، وسلامتها الترابية، وحماية مجالها البري والجوي، ومختلف مناطق أملاكها البحرية.

http://studies.aljazeera.net/reports/2012/06/20126310429208904.htm