الخروج على الحاكم الظالم .. وثورات الربيع العربي

الشيخ/ صالح بن محمد باكرمان

لم يكن أثر الثورات الشبابية العربية وربيعها المزهر قاصراً على تغيير الأنظمة المتسلطة في المنطقة؛ بل تعدى ذلك ليطال الأحزاب والجماعات والأفراد والأفكار، وربما العادات والتقاليد سلبا أو إيجابا.. ولقد أثار ربيع الثورات العربية جدلاً واسعاً حول الكثير من القضايا، لعل من أبرزها “مسألة الخروج على الحاكم الظالم” وحكم ذلك في الشريعة الإسلامية، وحكم الثورات الشبابية، وهل تأخذ حكم الخروج أو أنها لون آخر لا علاقة له بالخروج وأحكامه بصرف النظر عن الخلاف فيه؟

والحقيقة أن الجدل حول “مسألة الخروج على الحاكم الظالم” ليس وليد اللحظة الحاضرة؛ بل هو قديم قدم الطوائف الإسلامية، حتى أضحى الموقف من هذه المسألة من محددات بعض الطوائف، فأهل السنة، وهم الخط الأصيل في تاريخ الأمة لا ينسون أن يذكِّروا في كتب العقائد بطاعة الأئمة، وأنهم لا يرون الخروج عليهم بالسيف؛ للنصوص الواردة في النهي عن ذلك، ولما يترتب على الخروج من الفتن وذهاب الأمن وضعف الجبهة الداخلية للأمة. وفي المقابل نجد أن المعتزلة ومن أخذ عنهم يجعلون الخروج على الحاكم الظالم بالسيف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو أحد الأصول الخمسة عندهم.

ولما جاءت الصحوة الإسلامية وهي صحوة سنية في الأعم الأغلب كان هدفها الأساسي عند جميع التيارات الإسلامية التجديدية هو استئناف الحياة الإسلامية في ظل تحكيم الشريعة والخلاف بين الجماعات الإسلامية من الناحية الدعوية إنما هو في توصيف الواقع وفي طرق الوصول إلى الهدف، وكان مما يعرقل حركة التغيير والتجديد هو الأنظمة الحاكمة المتربعة على عروش الدول الإسلامية والعربية على الوجه الأخص، ولما كان الموروث العلمي الذي ورثته تلك الجماعات عن أئمة أهل السنة وعن رموز التأصيل للمنهج السني لاسيما السلفي يؤكد حرمة الخروج على الحاكم الظالم فقد أشكل الأمر على كثير من الدعاة مما سبب في ظهور تيارات ثلاثة مختلفة الاتجاهات في هذه المسألة:

التيار الأول:

تمسك بحرفية النصوص الواردة في الحث على طاعة ولاة الأمر، وفي المنع من الخروج على الحاكم الظالم حتى تضخم عندهم هذا الأصل فصار من أعظم الأصول التي يدندنون حولها، ويحكمون على الدعاة بأنهم من أهل السنة أو ليسوا منهم وفقا للموقف منها، فزادوا من طغيان الحكام وتجبرهم، وشغلوا إخوانهم عن تحرير المسألة، ورفعوا فوق رؤوس مخالفيهم سوط التبديع والتضليل.

والتيار الثاني:

غلب عليه الغلو وتاه في دروب التكفير والتفجير، ذلك أنهم رأوا أن لا سبيل للتغيير والتصحيح إلا بإزالة أولئك الطغاة، وإذا كان الخروج على الحاكم الظالم لا يجوز في المذهب السني إلا في حالة كفر الحاكم فليكفّر الحاكم ليحل الخروج عليه، وليس هذا هو السبب الوحيد الذي دعاهم لتكفير الحاكم بدون شك، ولكن لو أن ثمة مخرجا آخر من هذا المأزق لترك أمر التكفير أو تأجل على الأقل؛ لما يترتب عليه من آثار سلبية على دعوة المتبنين له في المجتمع الإسلامي.

والتيار الثالث:

توسط في الأمر حيث قبل مبدأ تحريم الخروج على الحاكم الظالم، ولكنه رفض القول بأن أمر الحاكم بالمعروف ونهيه عن المنكر من الخروج مطلقا، تمسكا منهم بالنصوص العامة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما ورد بالتواتر عن أئمة اهل السنة من الإنكار على الحكام علانية، وعملا بالأحاديث التي تنص على أن ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله. ومع هذا التحرر والتوسط في القول فقد بقيت عندهم بعض الإشكالات حول شرعية هذه الأنظمة والتوصيف الدقيق لواقعها، وهل هي فعلا أنظمة تستحق ما يستحقه أمراء الجور الذين كانوا مع جورهم وفسقهم يحبون الدين ويحكمون الشريعة ويدافعون عن بيضة الإسلام؟ وهؤلاء إلى النفاق أقرب منهم إلى حقيقة الإسلام، فكان هذا التيار يقدم رجلا ويؤخر أخرى في التعامل مع هؤلاء الحكام، فإذا راجعوا الأصول وقرءوا النصوص تخوفوا من الوقوع في الفتن، وإدخال الأمة في أتون المحن، وإذا رأوا حال هؤلاء الحكام وما هم عليه من تضييع للدين، وإعانة للمنافقين، ومسارعة في إرضاء الكافرين، واستطالة على عباد الله الصالحين، قوي ما في نفوسهم من ضرورة تغيير هؤلاء الحكام.

وبينما هم كذلك إذ جاءت هذه الثورات الشبابية السلمية التي هي في الحقيقة نسمة ربانية، وإن صاحبها ما يكدر صفوها، ويحرف بعض مسارها، وبمرور هذا التيار الهادر تحركت بعض المياه الراكدة، وأصابها من صفاء هذه الثورات ومن كدرها، فكان لابد على رعاة تلك الحياض أن يقفوا طويلا أمام حياضهم ليزيلوا ما أصابها من كدر، ويتفضلوا على الناس من صفوها ورحيقها.

وهذه مساهمة ببيان بعض الأصول في مسألة الخروج على الحاكم الظالم، وفي حكم الثورات الشبابية السلمية كي لا يجفو مانع ولا يغلو مجيز:

الأصل الأول:

أن المستقر في طريقة أهل السنة ومنهجهم هو تحريم الخروج على الحاكم الظالم، وأنه لا يحل الخروج على الحاكم إلا في حالة ظهور الكفر البواح والاستعلان به مع عدم التأويل في الكفر، وقد دل على هذا الأصل النصوص المستفيضة في السنة النبوية، ومن تلك النصوص ما يأتي:

1- عن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ قال: «دَعَانَا النبي صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ فقال: فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا على السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إلا أَنْ تروا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ من اللَّهِ فيه بُرْهَانٌ» [رواه البخاري ومسلم].

فهذا حديث صريح في تحريم الخروج على الحاكم، ولا يستثنى من ذلك إلا حالة ظهور الكفر البواح.

وأما تفسير الكفر هنا بالمعصية فهو مخالف لنص الحديث، فإن في المستثنى منه «وأثرة علينا» أي: استئثار بالسلطان والمال، ولا شك أن ذلك معصية بواحاً واضحة عندنا على تحريمها من الله برهان؛ بل إن أكثر من ينكر على السلاطين ويخرج عليهم إنما يكون بسبب الاستبداد في الحكم والاستئثار بالمال، وهذا عين ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر معه في هذا الحديث وغيره، ثم الاستثناء بعد ذلك «إلا أَنْ ترو كُفْرًا بَوَاحًا»، ولا يجوز أن يكون المستثنى هو نفس المستثنى منه.

وقد اشتهر عن الإمام النووي رحمه الله تعالى أنه فسر الكفر بالمعصية, ثم إنه لما فسره بالمعصية فسر المنازعة بمجرد الإنكار على الحكام العصاة دون الخروج بالسيف؛ بل نقل في نفس الموضع الإجماع على تحريم الخروج على الحاكم، فلا يليق بالمنصف أن يبتر الكلام، وأن يقول الناس ما لم يقولوا.

2- وعن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن رَأَى من أَمِيرِهِ شيئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عليه؛ فإنه من فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» [رواه البخاري ومسلم].

والمراد من الشيء الذي يكرهه المعصية والمخالفة الشرعية من ظلم أو فسق، فأمره بالصبر مع رؤيته لما يكره، وفي ذلك إبطال لقول من زعم أن أحاديث الصبر والنهي عن الخروج إنما هي في حق السلطان العادل التقي؛ فألفاظ النصوص إذا سلمت من لي الأعناق لا يمكن تنزيلها إلا على الحاكم الظالم أو الفاسق.

3- وعن أَنَسِ بن مَالِكٍ عن أُسَيْدِ بن حُضَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رَسُولَ اللَّهِ! اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا ولم تَسْتَعْمِلْنِي، قال: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حتى تَلْقَوْنِي» [رواه البخاري ومسلم].

وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقول للرجل إذا كنتُ اليوم منعتُك من الولاية لمصلحة شرعية تعود على الناس أو عليك، فإنه سيأتي يوم يستأثر فيه الولاة بالولايات والأموال دون نظر شرعي، وذلك ظلم وفسق، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر عند وجود تلك الأثرة والاستئثار، فدل ذلك دلالة ظاهرة على عدم جواز الخروج على الحاكم الظالم.

4- وعن أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «إنه يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ من رضي وَتَابَعَ، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، ألا نُقَاتِلُهُمْ؟ قال: لَا، ما صَلَّوْا» أَيْ: من كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ [رواه مسلم].

فهؤلاء الأمراء الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم يعرف الناس منهم أفعالاً هي من الإسلام، وينكرون عليهم أفعالا ليست من الإسلام في شيء، فهم مع ما عندهم من معروف يفعلون مخالفات شرعية من قبيل الظلم والجور أو من قبيل الفسق والمعاصي، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس في الموقف من هؤلاء الأمراء على ثلاثة أقسام:

القسم الأول:

من كره ما يُنكر على الأمير مما خالف فيه الشرع، والكراهة محلها القلب، فهذا الذي قد كره بقلبه كراهة تمنعه من متابعة أمراء الجور على جورهم وباطلهم قد برئ من الذم الذي يستحق به عقوبة الله عز وجل، وذلك أضعف الإيمان.

والقسم الثاني:

من أنكر على أمراء الجور باطلهم ومخالفاتهم للشرع، ولا يصح أن يكون هذا الإنكار بمجرد القلب كما فسره بعض الرواة؛ لأنه لن يكون لذكره معنى مع ذكر الكراهة قبله، فيكون المراد به الإنكار باللسان واليد بما دون القتال بالضوابط الشرعية للإنكار، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن «من أنكر فقد سلم» أي: سلم من النقص الذي وقع لغيره وسلم من ضعف الإيمان.

والقسم الثالث:

من رضي بما وقع فيه أمراء الجور من مخالفات للشرع وتابعهم عليها، فهذا الذي لا يسلم ولا يبرأ، ولما كان الصحابة رضي الله عنهم قد تربوا على إنكار المنكر، ونصر المظلوم، وكانوا يأبون الضيم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم قتال هؤلاء فقالوا: «يا رَسُولَ اللَّهِ! ألا نُقَاتِلُهُم؟» ولا يمكن بحال من الأحوال أن يستأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال حاكم عدل، فدل ذلك بما لا مجال للشك فيه أن الحديث إنما هو عن الحكام الظلمة وأمراء الجور، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً في المسألة حيث قال: «لَا، ما صَلَّوْا» أي: ما داموا مسلمين.

فهذا غيض من فيض من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصريحة في المسالة، ولا قول لأحد مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.

الأصل الثاني:

أن تحريم الخروج على الحاكم الظالم لا يعني أنه لا يؤمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ فإن النصوص العامة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخاصة في الإنكار على الحكام المخالفين لشيء من الشريعة، والتطبيقات العملية لأئمة المسلمين تقضي جميعها بوجوب إنكار المنكر ولو كان من الحاكم، بشرط أن لا يكون الإنكار بالسيف جمعا بين الأدلة، مع مراعاة ضوابط الأمر والنهي بكل حال، ومن الأدلة الخاصة على جواز أمر الحاكم بالمعروف ونهيه عن المنكر ما يأتي:

1- قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة آنف الذكر: «وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ», وقد سبق بيان معنى الحديث.

2- وعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: «أَي الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» [رواه أحمد والنَسائي ورواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة].

ورواه أحمد وأبو داود والترمذي ابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» أَوْ «أَمِيرٍ جَائِرٍ».

3- وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» [رواه الترمذي والحاكم، وقال صحيح الإسناد].

ولا دليل على تخصيص هذا الإنكار بمجلس السلطان، وأما ما جاء عن عياض بن غنم أنه قال لهشام بن حكيم: «ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يأخذ يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه؟» [رواه الطبراني والحاكم والبيهقي].

فهذا الحديث ونحوه هو الأصل حين تكون نصيحة تكمل أمر ذي السلطان، أو حين يكون الخطأ في خاصة نفسه أو خطأ محتملاً لا خوف معه على دين المسلمين، وأما إذا خيف على الدين أو كان منكراً ظاهراً أو بدعة فاشية فلا والله أن يسكت على مثل هذا.

ولم يزل السلف ينكرون جهرة، وهذا شيء لا يمكن إحصاؤه، ولعل أوضح ذلك وأبينه ما أجمع أهل السنة على عده من مفاخر ومناقب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وذلك حين وقف كالطود الشامخ منكراً على خلفاء بني العباس بدعتهم بالقول بخلق القرآن.

الأصل الثالث:

أن من خرج بالسيف من أهل السنة والجماعة فهو مجتهد مخطئ وليس خارجاً عن السنة، بذلك بمعنى أنه لا يصير خارجاً عن أهل السنة، لأن مخالفته للحديث والسنة باجتهاد وتأويل واعتقاد أن هذا كان مذهباً للسلف قديماً، وقد خرج ألوف من أهل العلم والصلاح ولم يحكم عليهم أهل السنة بالبدعة والضلال؛ فقد كان الحسين رضي الله عنه خارجاً مجتهداً في أول أمره، وخرج بعده عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، ثم خرج بعدهما سليمان بن صرد رضي الله عنه في ثورة التوابين يطالب بدم الحسين رضي الله عنه، فهؤلاء ثلاثة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم خرجوا ومعهم ألوف من الصحابة والتابعين، فهل حكم عليهم أحد بالخروج من السنة بذلك؟

وقل كذلك فيمن خرج بعدهم من الصحابة والتابعين في يوم الحرة، وفي حركة ابن الأشعث ضد الحجاج بن يوسف وغير ذلك، فمع أن الراجح من النصوص هو تحريم الخروج على الحكام الظلمة، إلا أنه ينبغي لأهل السنة أن يتقوا الله فيمن اجتهد من إخوانهم فرأى الخروج؛ لعدم معرفته بالنصوص أو لتأوله فيها أو لغير ذلك، إلا أن يكون راداً للنصوص غير قابل له كما هو حال الطوائف المفترقة عن السنة فذلك هو المبتدع.

الأصل الرابع:

أن ثمة فرقاً في الحكم على الحال قبل خروج الناس وعلى حالهم بعد خروجهم، فالواجب قبل الخروج على الحاكم الظالم هو التحذير من مغبة الخروج، وبيان الآثار المترتبة على ذلك الخروج؛ من أجل المحافظة على وحدة الصف وقوة الجبهة الداخلية للمسلمين، وأما بعد الخروج وبعد حدوث الافتراق، وبعد تمكن الفتنة، واليأس من الحسم لإحدى الطائفتين إلا بإهراق الدماء فإن الشرع والعقل يحكمان بأن الواجب حينها هو السعي في الصلح بين المسلمين والحكم بالعدل بينهم، لا تحريض بعضهم على بعض، ولا إفتاء الظالم بأحقيته بالحكم وإعطائه الصبغة الشرعية ليفتـك بالرعية.

والأصل في هذا قول الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، ثم ما حدث أثناء الفتنة بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل الشام ثم بين الحسن بن علي رضي الله عنهما وأهل الشام وعلى رأسهم معاوية رضي الله عنه، فقد كانت الوفود والمصلحون بين الطائفتين، وتوصلت إلى الصلح بين المسلمين وجمع الكلمة في الأولى والآخرة؛ بل إن الحسن رضي الله عنه تنازل عن الخلافة من أجل جمع الكلمة ووحدة الصف، ولم يكن منه طريق ولا عليه غبار؛ ولكنه آثر مصلحة الأمة وجمع كلمتها على التمسك بحقه في الخلافة؛ بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أثنى على الحسن رضي الله عنه بقوله: «ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين» [رواه البخاري ومسلم].

وهذا دليل قوي على أن حكم ما بعد قيام الفتنة غير ما قبلها، وإلا فإن الأصل هو تمسك الخليفة بخلافته حتى بعد قيام الفتنة، لكن النظر بعدها للمصلحة ودرء المفسدة؛ لهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على صنيع الحسن رضي الله عنه.

فواجب القادرين بالكلمة أو الفعل هو السعي لجمع كلمة المسلمين، وإزالة الفتنة، وإذا كانت الفتنة لا تزول إلا برحيل الحاكم فليرحل الحاكم أو فليستجب لمطالب الأمة المشروعة، ولا أعتقد أن شخصا يجوِّز التفكير في المقارنة بين الحسن بن علي رضي الله عنه وحكامنا المعاصرين.

وهذا الأصل ينتزع أيضا من مفهوم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» [رواه مسلم].

فقيد الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم بقوله: «وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ» أما وقد افترق الناس، ولم يثبت الأمر لإحدى الطائفتين فالأمر يختلف، وبهذا الأصل نفهم بعض مواقف الأئمة في كثير من الأحداث عبر التاريخ.

الأصل الخامس:

أن الخروج على الحاكم الظالم يكون محرماً عندما يكون قائماً بالواجبات المنوطة به من الدعوة إلى إقام الصلاة والمحافظة على الدين والدفاع عن الإسلام وحياضه، وإن كان مستأثراً بالحكم والمال أو فاسقاً في نفسه حفاظاً على الخير الذي معه، لذلك يقول أئمة السلف في التعليل للصبر على أئمة الجور تؤمن بهم السبل، وتقام بهم الحدود، ويستمر بهم الجهاد.

وأما حينما لا يقوم الحاكم بالواجبات المنوطة به والتي عقد له بالإمارة من أجلها فإن عقده ينتقض بذلك، ولا بد للناس من حفظ ضرورات الدين، فإذا عجز عن حفظ الدين، وتكاسل عن الدفاع عن حياض المسلمين، وعطل تحكيم الشريعة فعقده منتقض في الحقيقة، فإن قدر المسلمون على خلعة دون فتنة فهو المطلوب، وقد عزم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على خلع سلطان مصر الشام في زمانه عن حكم الشام لما تقاعس عن الدفاع عن أهله، وفي هذا الزمان خلع الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله ومعه الأمير فيصل وسائر آل سعود خلعوا الملك سعود من الحكم، وأقاموا مكانه الملك فيصل رحمه الله؛ لعدم قيام الملك سعود ببعض واجبات الدولة المنوطة به، ولم يتكلم أحد عن الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في هذا ببنت شفة؛ بل عد ذلك في مناقبه، وكان في التمكين لفيصل رحمه الله الخير للأمة بأسرها.

وأما إذا الحاكم محاربا للدين مضيعاً لمصالحه، مع عدم القدرة على خلعة إلا بدماء، فلابد لأهل الحل والعقد من نظر في ذلك ومقارنة بين مفسدة إبقائه والخروج عليه وخلعه ولا بأس بذلك، فإن الشرع ما نهى عن الخروج على الحاكم إلا مراعاة للمصالح ودرءا للفتنة، وهذا ليس أصلا مستقرا ولكنه استثناء من الأصل الأول توجبه الضرورة وتدل عليه قواعد الشريعة، ولعل من خرج من أئمة السلف إنما خرج اعتمادا منه على هذا الأصل؛ لأنه يبعد جدا ألا يكونوا على دراية بالنصوص الواردة في ذلك، أو أن يكونوا غير معتدين بها.

وبقي في الأخير أن نبين حكم الثورات الشبابية السلمية المعاصرة، وهل هي من قبيل الخروج الذي فصلنا الحديث عنه فيما سبق أو أنها نوع آخر لا علاقة له بالخروج؟ والحق أن هذه الثورات ليست من الخروج في شيء كما هو قول جمهور العلماء المعاصرين منذ بداية اندلاعها وذلك للأمور الآتية:

أولاً: أن هذه الثورات كانت سلمية غير داعية إلى العنف، ولم يحمل أصحابها السلاح ابتداء، وإنما اضطر بعضهم لحمل السلاح دفاعا عن أنفسهم وأعراضهم، كما فعل الحسين رضي الله عنه.

ثانياً: أن أكثر الحكام الذين ثارت عليهم الشعوب هم للكفر أقرب منهم للإيمان.

ثالثاً: أن هؤلاء الحكام لم يتقاعسوا عن القيام بواجباتهم المنوطة بهم حسب؛ بل حاربوا الإسلام، ووالوا الأعداء، وفتحوا لهم الأجواء، وصار شرهم مستطيرا، وفتنتهم غالبة.

رابعاً: أن هذه الثورات السلمية لم تكن على هيئة خروج شخص له أتباع أو طائفة؛ بل ثورة أمة، فكيف يحكم على جمهور الأمة بأنه خارج على الحاكم مع أنهم ثاروا وانتفضوا بدون سلاح، وأما الثورات التي اتسمت بالطائفية فكان موقف العلماء منها هو المنع باتفاق.

لذلك فإن الذي ترجح للعلماء هو أن هذه الثورات أقرب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها للخروج، ولا يخرجها عن هذا الأصل بعض الخروقات والمخالفات الشرعية؛ فإن المخالفات الشرعية قد تقع في جهاد العدو الكافر ولا تمنع شرعيته.

http://olamaa-yemen.net/main/articles.aspx?article_no=12906