اللاَّعنف بين التأصيل القرآني والترشيد النبوي

بقلم : سحر أبو حرب

أولاً: تأصيل اللاعنف قرآنيًّا

المحور الأول: اللاَّعنف في القرآن الكريم

في محاورة جادة جرت بيني وبين أحد المفكرين الإسلاميين حول مفهوم العنف ومبدأ اللاعنف الذي أؤمن به، جلب معه ورقةً جمع فيها الآيات التي تحث المسلمين على الجهاد والقتال وإعداد ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل (الأنفال 60)، شاهرًا في وجهي هذه الآيات الكريمات، متحديًا بأن فحوى هذه الآيات الذي يسمِّيه هو “جهادًا” و”بطولة” أسمِّيه أنا “عنفًا” – هكذا ببساطة! رمى الرجل أمامي بهذه الورقة وتابع قائلاً: “لا أريد جوابًا سريعًا… خذي من الوقت ما يكفيك، وأعيدي إليَّ جوابًا وتفسيرًا.”

قرأت تلك الورقة الكريمة عشرات المرات – وقد أحسن الرجل انتقاءها من كتاب الله وكتابتها وجعل عنوانها بين أقواس كبيرة كهذا: ((العنف في كتاب الله عند سحر أبو حرب))! فكان هذا تحديًا كبيرًا لي. لا أخفيكم أني مكثت أشهرًا وأنا أتأمل الآيات الكريمات التي وضعني ضمنها وولَّى هانئًا، وشعرت إذ ذاك بالفخ الذي شاء أن يوقعني فيه، فوقعت فيه بسهولة قراءتي للآيات الكريمات. لقد طوَّقني بإطار الآيات، وذهب مطمئنًّا إلى أني لن أخرج منها إلا إليها. فكان لا بدَّ لي من أن أعود إلى كتاب الله وإلى الآيات المذكورات في الورقة الكريمة، فأدرس مواقعها في النص وسياقها ونسقها، ثم أحدد بعد ذلك فهمي لها.

فتحت كتاب الله، أذكِّر نفسي به وأستأنس بآياته متأمِّلة. بدأت بالصفحة الأولى الصغيرة التي فيها خمس آيات من سورة البقرة. ثم بدأت المفاجأة عندما قرأت في الصفحة التالية، بعد الآية الخامسة مباشرة، ما يلي:

إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتَهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) خَتَمَ الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيم (7) ومن الناس مَن يقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسَهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضًا ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم: لا تُفسِدوا في الأرض قالوا: إنَّما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هُمُ المُفسِدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم: آمِنوا كما آمَن الناسُ قالوا: أنؤمن كما آمَن السفهاء ألا إنهم هُمُ السفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لَقوا الذين آمنوا قالوا: آمنَّا وإذا خَلَوا إلى شياطينهم قالوا: إنَّا معكم إنَّما نحن مستهزؤون (14) الله يستهزئ بهم ويَمُدُّهم في طغيانهم يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضَّلالة بالهُدى فما ربحتْ تجارتُهم وما كانوا مهتدين (16)

إذن لقد وجدتُ “كفارًا” و”منافقين” و”مفسدين” و”سفهاء” و”ضالين” و”غير مهتدين” – ذلك كله في الصفحة الأولى فقط! – يعرض – سبحانه – علينا أحوالَهم وصفاتِهم، ليُخرِجَنا من هذا الوصف وهذه الصفات إلى قوله – جلَّ وعلا:

يا أيُّها الناس اعبُدُوا ربَّكم الذي خَلَقَكم والذين من قبلكم لعلكم تتَّقون (22)

بعد أن ضرب لنا مثلاً بالذي

[…] استوقد نارًا فلمَّا أضاءتْ ما حولَه ذَهَبَ الله بنورهم وتَرَكَهم في ظُلُمات لا يبصرون (17)

إذن، يا صاحبي، أين العنف في آيات الله التي أقرأ؟! بدأت الفكرةُ تتضح في ذهني: إن آيات الله في تشريع القتال كلَّها استثناء. فما أحضر لي الأخ الكريم من آيات كله يدعو الكفار والمنافقين والمشركين والفاسقين والضالين – يدعوهم، بكلِّ تهذيب، إلى الله، دون عنف ودون أيِّ أذى يُلحقُه بهم أحد. ولا يطلب – سبحانه – بعد عرضه لأخبارهم أية ممارسة للعنف ضدهم، بل على العكس تمامًا: إنما هو عفو وصفح وتجاوُز ورحمة بهم.

إن آيات اللاعنف موجودة في كلِّ صفحة من صفحات كتاب الله، وما علينا سوى الإشارة إليها. ولكن كيف ومتى؟ وهل من مساحة ودٍّ أقدِّمها للعالم، فأبين للناس هذه الدعوة الطيبة من الله – سبحانه – لعباده أجمعين؟

ذروني أضرب لكم مثلاً – وقد جعلتُ دراستي كلَّها أمثالاً، و”من غير الأمثال لا أعظكم”، كما يقول عيسى – عليه السلام[2]. يقول الله تعالى:

وإن كنتم في رَيْبٍ مما نزَّلنا على عبدنا فأتُوا بسورة من مثله وادْعُوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتم صادقين (البقرة 23) فإنْ لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتَّقوا النارَ التي وَقُودها الناسُ والحجارةُ أُعِدَّتْ للكافرين (24)

هل هناك من تحدٍّ ودعوة إلى حوار منطقيٍّ مع مَن يرتابون مما أُنزِلَ على محمد (ص) بأن يأتوا بسورة من مثله أكثر مما وَرَدَ في الآية؟ إنها دعوة للحوار والنقاش والتبيان: فمَن عنده علم فليأتِ به – وليأتِ مع شهدائه أيضًا –؛ فالدعوة مفتوحة. ولكن، يا قارئ القرآن، يا باحثًا بين طياته وسوره وآياته، ماذا عليك أن تفعل حين تسمع تحديًا مثل هذا؟ أيُطلَبُ منك أن تُحضِرَ سيفًا أو بندقية وتهرول مجاهدًا في سبيل أن يأتوا – ولن يأتوا – بـ”سورة من مثله”؟! لا، أبدًا! فالله – عزَّ وجل – قد تكفَّل بالنتائج وأعدَّ لهم ما يستحقون. فليست محاسبتهم، ولا ملاحقتهم، ولا تكفيرهم، ولا حتى استصغارهم، من شأنك أنت أصلاً!

بدأت الفكرة تزداد وضوحًا في ذهني، فقسَّمت البحث إلى عدة مستويات: بدأتُ بدراسة أحوال القرى الكافرة والملحدة والمتألِّبة على الله وبتقصِّي أحوال أهلها المستكبرين والمستبدين والطغاة، فصنَّفتُهم وجعلتُ لهم درجاتٍ بحسب شدة الذنب ومقدار العذاب. ثم قمت بدراسة أحوال الأقوام والأمم ومصائرهم ومشكلاتهم وكيف تطاولوا على أنبيائهم ومصلحيهم ومنذريهم، وما يجب علينا نحن، بالنظر إليهم، أن نفعل إنْ رأينا أمثالهم في التاريخ الذي يعود وينتج منهم الكثير: أنقوم بحملات تجنيد ضدهم؟ أم ماذا كان النهج القرآني في التعامل معهم؟ ثم جمعت المنافقين ونظرت في منهج القرآن، بعد كلِّ ما فعلوه، في التصرف معهم. ثم درست أحوال الكفار ثم المشركين ثم الضالين ثم مَن هم في حذوهم. وأكرِّر هنا أنني لم أجد عنفًا مارسَه أيُّ نبي أو المؤمنون به ضد أقوامهم ولا ضد المستبدين بهم قط. وسأثبت ذلك في كلِّ بحث بالأمثال، إن شاء الله.

وهكذا باتت الآياتُ القرآنية التي طوَّقني بها الصديقُ الطيب حديقةً صغيرةً في غابة مزهرة مورقة مخضرَّة تملأ الكون وتضفي رونقها عليه. اللاعنف موجود في كلِّ صفحة من صفحات كتاب الله. هذا ما تبيَّن لي، وهذا ما قررتُ أن أُظهِرَه للناس كافة وأقدِّمه للعالم في وقت نحن في أمسِّ الحاجة إليه. فمثلاً في وصفه – سبحانه – للفاسقين، يقول:

الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمَرَ الله به أن يوصَل ويُفسِدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27)

إنهم “ناقضون للعهد” و”قاطعون أمر الله” و”مُفسِدون”: ثلاثة جرائم معًا مصيرها الخسار. والحكم بعد هذا؟ الحكم يأتي في الآية التالية مباشرة: عتاب رقيق منه – سبحانه. يقول:

كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يُميتُكم ثم يحييكم ثم إليه تُرجَعون (28)

لا يكتفي الحق – سبحانه – بهذا العرض لأحوالهم على مدى الدهر، بل يذكِّر هؤلاء الفاسقين بأنه قد خلق لهم ما في الأرض على الرغم من فسقهم، وأنه جعل السماء سبع سموات، وعلَّمهم ماذا يعني أن يجعل لنا هذه الطبيعة الطيبة، بأرضها وسماواتها. إنه لا يدفعنا إلى قتلهم، على الرغم من نقضهم العهد وقطعهم أمر الله وفسادهم في الأرض، بل يذكِّرهم بخلقه وبجمال هذا الخلق وبمنَّته عليهم وعطائه لهم. أفلا نقرأ اللاعنف في النص القرآني، بحيث يكون القرآن خير دليل للتعامل مع الآخرين؟ مثال آخر حيَّرني، فوقفت عنده طويلاً:

ومَن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يُقبَل منه […] (آل عمران 85)

لو سمعنا مجزوء هذه الآية الكريمة لارتسم في أذهاننا أن مَن يبتغي غير الإسلام دينًا ما هو إلا كافر أو ملحد، ولعله فاسق دنيء! لكنه – سبحانه – يخبرنا مباشرة بعده أن الأمر لك أيها الإنسان: ما لم تبتغِ الإسلام دينًا فإن الرب هو الذي يهتم بنتائج أعمالك:

[…] وهو في الآخرة من الخاسرين (85)

يُحزِنُه – تعالى – أننا لن نربح وأننا لن نستفيد من الإسلام في حال إعراضنا عنه. ثم يعرض – سبحانه – لمجموعة أخرى من الناس:

كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حقٌّ وجاءهُمُ البيِّناتُ والله لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أنَّ عليهم لعنةَ الله والملائكة والناس أجمعين (87) خالدين فيها لا يُخفَّف عنهم العذابُ ولا هم يُنظَرون (88)

إذن، لا حرب، لا قتل، ولا تهجير! والمفاجأة أن الباب مفتوح، على الرغم من هذا كلِّه، للتوبة والمغفرة:

إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنَّ الله غفورٌ رحيم (89)

وحدهم الذين

[…] كفروا بعد إيمانهم ثمَّ ازدادوا كفرًا لن تُقبَل توبتُهم وأولئك هم الضالون (90)

زبدة القول إنه وحده – تعالى – الذي يقبل التوبة أو لا يقبلها: ليس لنا نحن أن نقبل توبةً منهم أو نرفضها، وليس لنا أن نُدخِلَهم جنةً أو نارًا، ولا أن نحكم عليهم بكفر أو بضلال – إلاَّ مَن قال – سبحانه – عنهم إنهم “الضالون” (و”الضال” مسكين أضاع الطريق!):

إنَّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يُقبَل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا ولو افتدى به أولئك لهم عذابٌ أليمٌ وما لهم من ناصرين (91)

فنتائج أعمالهم تُرَدُّ إليهم ويخسرون رحمةً وعطفًا وحمايةً كان من الممكن أن يتمتعوا بها، لكنهم أبوا؛ فكان لا بدَّ من الوقوع في النتائج البغيضة التي لا يد لنا فيها: الزمان نفسه سوف يلعنهم طوال الدهر. فلا مناص من حصاد نتائج أيِّ عمل نقوم به؛ ولكنه – سبحانه – يستثني دومًا مَن أراد التوبة، لعل أسبابًا قاهرة دفعتْهم إلى الفعل المشين، فيترك لهم – سبحانه – دومًا بابَ المغفرة والرحمة مفتوحًا، يدخلونه متى يشاءون. فهو مَن يرأف بهم برحمته التي تهطل على كلِّ مَن يطلبها.

وقد وقعتُ على مثال آخر على مبدأ اللاعنف المتأصل قرآنيًّا ضمن النهج الإلهي. فانظر معي في هذا الفعل المشين:

ومَن أظلمُ ممَّن مَنَعَ مساجدَ الله أن يُذكَر فيها اسمُه وسعى فيها خرابًا (البقرة 114)

انظر معي بماذا قام من عمل:

1. هو ليس بظالم، بل هو “أظلم”

2. فقد “منع مساجد الله أن يُذكُر فيها اسمُه”

3. “وسعى فيها خرابًا”

ويتابع – سبحانه:

أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم (114)

إنها أفعال نراها اليوم مدعاةً لشهر السيف وإعلان الحرب! لكنه – سبحانه – يختلف عنَّا تمامًا في النظر إلى هذه الأمور التي تُغضِبُنا وتُخرِجُنا عن طورنا، بينما هي عند الله مدعاة حلم وأناة. مثال آخر صغير:

وقال الذين لا يعلمون: لولا يكلِّمنا الله أو تأتينا آيةٌ […] (البقرة 118)

هي جرأة على الله واستخفاف! لكنه – سبحانه – سرعان ما يذكِّرنا بتاريخ الأمر من قبل أيضًا:

[…] كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم […] (118)

ويعلِّق – سبحانه – بكريم كلماته:

[…] تشابهتْ قلوبُهم قد بينَّا الآياتِ لقوم يوقنون (118)

من هنا لا يجوز لنا أن ننكر أن فهمًا مغلوطًا لكثير من الآيات الكريمة، وحتى الأحاديث النبوية، يتسبَّب في استعمال العنف ضد الآخر. وهذا أمر شائع، ليس بين عامة الناس وحسب، بل ولدى الكثيرين ممَّن يدرسون الدين ويكتبون ويخطبون، وهم الذين يروِّجون لمفاهيم تُلحِقُ الأذى بالآخرين طبعًا – الأذى المادي والمعنوي أو حتى النفسي، كاستعمال ألفاظ تكفِّر الآخرين أو تضطهدهم أو تستعلي عنهم بنَسْبِ الإيمان لنا وحدنا – نحن المسلمين – والكفر للآخرين. فالإسلام كدين، بنصوصه القرآنية، بريء من وهم كثير من المقولات والأحكام التي تسببت – ولا تزال تتسبب – في ممارسة العنف ضد الآخر على مختلف مستوياته.

* * *

المحور الثاني: مسألة “أهل الكتاب”

سنتكلم الآن على مصطلح “أهل الكتاب” – هذا المصطلح الذي يؤرقنا –، أهل الكتاب أو اليهود أو بني إسرائيل: هذا العدو التقليدي الذي نبحث عن قانون للتعامل معه، قانون إلهيٍّ يدعمنا ونصدِّقه، فلا يخذلنا أبدًا.

يعرض القرآن الكريم لأحوال أهل الكتاب: إنهم قوم كأيِّ قوم آخرين، لهم ما لهم من أخطاء، وعليهم ما عليهم من عواقب لا تخطئ صاحبَها. ومن عرض أحوال أهل الكتاب ومنهج حياتهم وبعض أخطائهم وشيء من زلاتهم، نلاحظ في وضوح أن الأمر ينتهي حيث الله – سبحانه – يكمل آياته بأمر عجب. إذ إنه إما هو معاتب لهم، وإما متوعد بخسار، وإما يعرض الأمر بحيث يؤسَف عليهم لأنهم لا يدركون ما يريد الله لمصلحتهم أو لحياة أفضل يحيونها. والأعجب أنه – سبحانه – لا يفرض من بعدُ أيَّ أمر إلهيٍّ فيه عنف ضدهم أو تحيز، فلا يطالب أحدًا بلومهم أو سؤالهم أو حتى معاتبتهم، بل يرى القارئ للكتاب الكريم أنه – سبحانه – يماشي أخطاءهم حتى النهاية، متسامحًا ومنتظرًا توبةً أو استغفارًا، إلى أن يقرِّر هو – سبحانه – بأن أعمالهم قد استنفدت كلَّ احتمال لإصلاح، فيُعمِل قانون:

[…] كذَّبوا بآيات ربِّهم فأهلكناهم بذنوبهم […] (الأنفال 54)
كذَّبوا بآياتنا كلِّها فأخذناهم أخذَ عزيز مقتدر (القمر 42)

نلاحظ أن بعض الأمور تتم، وفيها من الأخطاء التي يرتكبونها – وأقصد عرض الآيات لمعاندات يقوم بها بعض الأقوام – فيها ما يجعلنا كمسلمين، في أيِّ مكان من العالم، نشعر بضرورة القيام دون القعود واستنكار مَن يقوم بذلك؛ فإذا به – سبحانه – ينظر في الأمر بروية وصبر وانتظار العارف الخبير، لعلهم يرجعون عن غيِّهم.

فلنماشِ الآن أهل الكتاب في القرآن الكريم، ولننظر في حكم الله أو منهجه في عرض آياته. يبدأ ذكر أهل الكتاب في القرآن الكريم بفعل قلبيٍّ يودون به أمرًا:

ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنزَّل عليكم من خير من ربِّكم […] (البقرة 105)

كذلك:

ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كفَّارًا […] (البقرة 109)

كثيرًا ما نسمع بهذه الرغبة الدفينة لدى أهل الكتاب: أنهم يتمنون أن يردونا من بعد إيماننا كفَّارًا، وبأنهم في ضيق من أن يُنزَّل علينا من خير. إذ ذاك تمتلئ قلوبُنا بغضًا وحميَّة ورغبةً في الاقتصاص منهم والقضاء عليهم، بل وعداوتهم سرًّا وعلنًا. لكنه – سبحانه – يقول في الآية الأولى التي أوردناها:

[…] والله يختص برحمته مَن يشاء والله ذو الفضل العظيم (105)

متجاوزًا رغبتهم وودَّهم وكفرهم، ذاكرًا أن الرحمة خير من ذلك كلِّه، وهي منه “ذي الفضل العظيم”، وليس من أحد سواه. إنه لا يشحن نفوسنا على أهل الكتاب، ولا يؤجج مشاعر الغضب ضدهم حتى، بل “يختص برحمته مَن يشاء” – ولعلنا نحن مَن نُختَصُّ برحمته لو اعتنقنا اللاعنفَ ضدهم والتجاوزَ الحكيم عن عدم ودِّهم لنا والتسامحَ تجاه رغبتهم تلك. دليلنا إلى ذلك قولُه – سبحانه – بعدما يعرض لنا حسدهم:

[…] لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كفَّارًا حَسَدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيَّن لهم الحق […] (109)

ثم تأتي المفاجأة:

[…] فاعفُوا واصفَحوا حتى يأتي الله بأمره إنَّ الله على كلِّ شيء قدير (109)

ثم يذكِّرنا – تعالى – مباشرة:

وأقيموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة وما تقدِّموا لأنفسكم من خير تجدُوه عند الله […] (110)

فما نقدِّم لأنفسنا من خير نجده عنده – سبحانه!

عندما ننظر في الآيات الكريمات من منظار اللاعنف، نراها واضحةً بينة، وكأن على عيوننا غشاوة وضعَها الأولون، فلم نبصر – ولا نريد أن نبصر – سعداء بعدم إبصارنا! فاللاَّعنف في التعامل القرآني مع أهل الكتاب واضح جلي، حتى إنه لا يمس مشاعرهم حتى – اللاعنف المتأصل في “فاعفوا واصفحوا”. وأسأل نفسي: أين نحن من إدراكنا لمرامي هذه الكلمات؟

المرة الثالثة التي يتعرض القرآن الكريم فيها لأهل الكتاب تأتي في صيغة مطالبة راقية وأسلوب إقناع مثير للتفكُّر في جملة من المصالح المشتركة:

قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلا الله ولا نُشرِكَ به شيئًا ولا يتخذ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون الله […] (آل عمران 64)

هذه دعوة واضحة جلية للاتفاق على مبدأ فكري: “ألا نعبد إلا الله”. وبحسب فكر جودت سعيد، هذا يعني أن لا أحد فوق القانون. و”لا نشرك به شيئًا” تعني ألا نحتكم إلى القوة، ألا نحتكم إلا إلى العقل والمنطق، فلا نُشرِكَ في احتكامنا هذه قوةً ولا إرهابًا ولا عنفًا. و”لا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا” تعني ألا يكون لأحدنا فضلٌ في عين أخيه. فالجميع سواء: لا أرباب ولا أسياد ولا عبيد؛ وإذن، مساواة في الحقوق وعدل ينشر مظلَّته على الجميع. وأعتقد أن هذه الدعوة للناس سبقت أيَّ فكر تمنَّى على العالم أن يسوده السلامُ والأمن. وقد خرجت من كتاب الله على لسان رسوله، لكننا أغفلناها ورميناها وراء ظهورنا، مطالبين أن نكون “أربابًا” وأن نكون “مشركين” بامتياز باتخاذ القوة والجبروت والسلاح إلهًا آخر لنا، مُشرِكين مع الله آلهة أخرى، راجين منهم أن ينصرونا، لكنهم أنفسهم لا ينصرون – مع الآخذ بعين الاعتبار أن هذه الدعوة يحتكم إليها العالمُ الآن، بل يحث الخطى لتطبيقها: فالاتحاد الأوروبي، الذي اجتمع على “كلمة سواء” ويتمنى ممَّن حوله أن ينضم إليه، مبدؤهم أن يربح الجميع ولا يخسر أحد. المفاجأة في بقية الآية تأتي من قوله – تعالى –، دون عنف ولا ازدراء لمن رفض ولا ضغينة:

[…] فإن تَوَلَّوا فقولوا: اشهدُوا بأنَّا مسلمون (64)

أي: فإنْ رفضوا الدخول في “كلمة سواء” فليكن؛ لكن ذلك لن يُخرِجَنا نحن من اعتناقنا تلك الكلمة السواء. فاشهدوا، واشهد أيها العالم، أننا ننفِّذ ما تعهدنا به من طرفنا نحن، وسنلتزم دعوانا هذه وما يترتب عنها.

وتتتالى بعد ذلك في الآيات اللاحقة مشاهد من أفعال أهل الكتاب، لو أن أحدًا منَّا قام بنصف ما ذُكِرَ في القرآن لأعلنَّا عليه الحرب ولقذفناه واتهمناه ولعنَّاه! لكنه – سبحانه –، بعد عرضه في صفحتين من الكتاب أمورًا تخصهم (سأذكرها فيما يلي)، يقول في رفق وطيبة:

يختصُّ برحمته مَن يشاء […] (آل عمران 74)

فلنبدأ:

يا أهل الكتاب لِمَ تحاجُّون في إبراهيم وما أُنزِلَتِ التوراةُ والإنجيلُ إلا من بعده أفلا تعقلون (آل عمران 65)
[…] فلِمَ تحاجُّون فيما ليس لكم به علم […] (66)
ودَّتْ طائفةٌ من أهل الكتاب لو يُضِلُّونكم وما يُضِلُّون إلا أنفسهم وما يشعرون (69)
يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون (70)
يا أهل الكتاب لِمَ تَلبِسون الحقَّ بالباطل وتكتمون الحقَّ وأنتم تعلمون (71)
وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب: آمِنوا بالذي أُنزِلَ على الذين آمَنوا وجهَ النهار واكفُروا آخرَه […] (72)
ولا تؤمنوا إلا لمن تَبِعَ دينكم […] (73)

بعد هذا العرض، يقول – سبحانه – متجاوزًا وغير معنِّف أحدًا منهم:

[…] قل: إن الفضل بيد الله يؤتيه مَن يشاء والله واسعٌ عليم (73)

هكذا، بكلِّ بساطة، متسامحًا، غافرًا، غير عابئ بهم! ولنا أن نحذو حذو الله في مبدأ اللاعنف المتأصل في آياته – سبحانه. ونكمل سلسلة معارضات أهل الكتاب:

[…] ومنهم مَن إنْ تأمنْه بدينار لا يؤدِّه إليك إلا مادمتَ عليه قائمًا ذلك بأنَّهم قالوا: ليس علينا في الأمِّيين سبيلٌ ويقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون (75)

يردف – سبحانه – بعد هذه الأفعال التي نراها عظيمةً في حقِّه قائلاً:

بلى مَن أوفى بعهده واتَّقى فإن الله يحب المتَّقين (76)

جرعة حب وتحبُّب لا تخطر لنا ببال إطلاقًا، وقد ضاقت صدورُنا بأفعال أهل الكتاب:

وإنَّ منهم لفريقًا يلوون ألسنتَهم بالكتاب لتحسَبُوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون: هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون (78)

عدد من المعاكسات وسلوك مؤداه الرفض والمشاكسة وعدم الاهتمام، مما يجعل النفس غاضبةً حانقة. لكن هذا ليس ما أراده الله بعد تلك الأوصاف كلِّها؛ إذ إن كلَّ ما أخبرنا به هو نصيحة تأتي بعد ذلك مباشرة:

ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحُكمَ والنبوةَ ثم يقول للناس: كونوا عبادًا لي من دون الله […] (79)

في عبارة أخرى: إنكم إنْ كنتم خيرًا منهم وآتاكم كتابًا أو حُكْمًا أو نبوة، فإياكم والتكبر وجعل الناس عبادًا لكم من دون الله، فيذكِّرنا بها أن مَن مضوا هم عباد له – تعالى – وليس لنا من أمرهم شيء؛ – إلى أن يصل بنا – سبحانه – إلى قوله:

[…] ولكن كونوا ربَّانيين بما كنتم تعلِّمون الكتابَ وبما كنتم تدرسون (79)

الاهتمام بالتعليم وتثقيف النفس والدراسة والبحث، لا باتخاذ الملائكة أو النبيين أربابًا. وينهي – سبحانه – معارضات أهل الكتاب ومفارقاتهم هذه بنصيحة أخرى (لا يحبذها أحد، مع الأسف!):

فمن تولَّى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (82)

لم يحمِّل – تعالى – قلوبَنا أيَّ عنف أو سلاح أو بغض عليهم، بل إن “من تولَّى” منهم هو الخاسر، وقد فسق عن الحق؛ وللأسف، لن يجدوا مفرًّا من “إليه يُرجَعون” (83). وتأتي ذروة الحوار مع المؤمنين قاطبة في سورة التوبة:

إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنَّة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقًّا في التوراة والإنجيل والقرآن ومَن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتُم به وذلك هو الفوزُ العظيم (التوبة 111)

شرط الإيمان (وليس الإسلام حصرًا)، لمن يريد، أن يبيع المرءُ لله نفسَه ومالَه. فالمؤمنون في الأرض كُثُر، وهم موزَّعون في أرجاء المعمورة. فلا بدَّ لهم من رابطة تجمعهم كي يتعرفوا بعضهم إلى بعض وكي يجتمعوا على أمر واحد، هدف واحد (التواصل)، هو “سبيل الله” المشترك فيما بينهم. يقاتلون مَن؟ – سؤال يطرحونه على أنفسهم أولاً، ويجتمعون على تحديد هدفهم ثانيًا، ثم ينسِّقون فيما بينهم كي لا تتعارض الأعمال في سبيل الهدف الواحد، وخاصةً أن الأرض والعالم كبيران وواسعان. يقتلون، إذن هناك “هيئة عالمية” تجمع المتضرِّرين منهم، أجسامًا ومرضى ومعوقين ومصابين، كي يعرفوا “وعد الله” عليهم، حيث الجميع معنيون بالأمر: مَن اتَّبع التوراة والإنجيل منهم ومن اتَّبع القرآن.

إنه جيش مؤلَّف من أديان تبدو مختلفة اسميًّا، لكنها تنضوي جميعًا تحت لواء الإيمان (“يقاتلون…”)، وليس تحت أيِّ لواء آخر (الموت في سبيل لواء واحد متفق عليه)؛ أو قل إنهم واحد من حيث إيمانُهم بفكرة واحدة وهدف سامٍ يتفقون على الانطلاق نحوه، بغضِّ النظر عن الكتاب الذي يؤمنون به. بل لعلها دعوة لئلا يتخاصم أهل هذه الكتب، فلا يتقاتلون، بل يجتمعون على سواهم، ليقوموا جميعًا بـ”بيع أنفسهم لله” وببذل طاقاتهم كلها من أجل غاية مشتركة. فالخطاب للجميع أن استبشروا، وذلك لأن كلاًّ من الكتب المذكورة سابقًا تجتمع على بيع النفس لله وعلى أن الله قد اشتراها راضيًا بهم جميعًا. و”الفوز العظيم” يجمع الكل: إذ لا فئة لها الفوز وأخرى خاسرة؛ فالخير يعم الجميع، وهو فوز وخير وتفوق عظيم يطوي تحت لوائه أهل الكتب الثلاثة المذكورة.

الملفت للنظر أن الآية تصر على شراء الله – عزَّ وجل – النفس، وليس الجسد، وكأن القتال قتال الأنفس، أي مجاهدة النفس لقتل شرورها وموبقاتها ورغباتها السلبية. هي حرب ضروس يشنها كلُّ مَن يحمل فكر التوراة والإنجيل والقرآن. إنه شراء وبيع، لا حقد فيه ولا انتقام، في سبيل الله والعقل، لا في سبيل الطاغوت أو السلطان أو الأرض. فكأنها حرب فكرية نفسية ثقافية، لا جسدية، أي لا تسيل فيها دماءٌ أبدًا.

* * *

[1] أقصد بـ”التأصيل” الكشف عن أصول فكرة اللاَّعنف في آيات القرآن الكريم وبـ”الترشيد” كيفية ترشيد اللاَّعنف من سيرة النبي (ص) عند التطبيق.

[2] راجع: إنجيل متى 13: 34 وإنجيل مرقس 4: 33-34. (المحرِّر)

http://maaber.org/issue_july07/non_violence4.htm