اللاعنف – طاقة إنسانيَّة للتغيير

مقدمة:

مافتئ استعمالُ العنف منتشرًا في العالم أكثر فأكثر: عنف في الأعمال والعلاقات والبنيات والقوانين والأوضاع القائمة؛ عنف فردي وعنف جماعي؛ عنف السلطة وعنف الفتن والثورات؛ إلخ. وردَّات الفعل على العنف كثيرة، يمكن إرجاعُها إلى أربع:

· السلبية

· العنف

· اللاعنف غير المنظَّم: الأخلاقي وحسب

· اللاعنف المنظَّم: الأخلاقي الفاعل

اللاعنف المنظم، المبني على النظرة إلى الإنسان كقيمة مطلقة، يَعتبر كلَّ ظاهرة سلبية أو عنفية غير مقبولة، لأن كليهما ضد قيمة الإنسان. قد يُمتدَح العنف ويُمجَّد عادةً أكثر من السلبية لأنه قادر أن ينتج فضائل، كالشجاعة والتضحية بالنفس إلخ، لكن ذلك لا يجعله أكثر قبولاً.

اللاعنف المنظم يتضمن اللاعنف الأخلاقي غير المنظم كجزء لا يتجزأ ضروري – ولكن غير كافٍ – لتأمين الاحترام الكامل لهذه القيمة. لذلك يسعى إلى تغيير كلِّ ظاهرة عنف أو ظلم. وهو يشتمل، إلى النظرية اللاعنفية والأخلاقيات اللاعنفية، على الـpraxis أو الممارسة اللاعنفية؛ وهذه الأبعاد الثلاثة متلازمة ومتداخلة.

اللاعنف ليس السلبية:

قبل الشروع في تفصيل هذه الأبعاد الثلاثة للاعنف (النظرية والأخلاقيات والممارسة)، من المهم جدًّا التأكيد مسبقًا في هذه المقدمة المختصرة على أن اللاعنف ليس السلبية، كما قد يتبادر إلى ذهن الذين يسمعون به للمرة الأولى أو الذين لم يتفهموا أبعادَه على حقيقتها. وهذه السلبية تتخذ أشكالاً متنوعة، منها:

– هرب وتهرُّب مَن يحاول أن يتجنب وطأة العنف؛

– جبن مَن يخاف أن يواجه مَن هم سبب العنف؛

– الضعف المتخَذ كشعار وكموقف تكتيكي للقوة، أي ضعف مَنْ يعتبر قوَّته في ضعفه؛

– تواطؤ ومساومة مَن يقيم تسوياتٍ مع الإنسان العنفي أو يستعمل ضده أساليب “دبلوماسية”؛

– تخاذل واستسلام الذي يقبل أن ينكسر أمام العنف؛

– انتظارية وتسويف الذي يراهن على الوقت باعتباره سينتهي إلى إزالة العنف، دون أيِّ إسهام شخصي منه؛

– تصبُّر وتجلُّد مَن يقبل بالعنف دون مواجهة أو مقاومة ومَن قد يقوم في ذلك بجهد بطولي؛

– حياد ولامبالاة مَن لا يتخذ موقفًا حيال العنف والعنفيين.

اللاعنف المنظم لا يمت بصلة إلى أيِّ شكل من أشكال السلبية هذه.

اللاعنف ليس فضيلة “دون عنف”:

اللاعنف المنظم ليس فضيلة من الفضائل التي تكتفي بأن لا تتضمن أيَّ عمل عنفي. مثلاً:

– تسامُح مَن يقبل بتعددية الآراء أو المواقف أو المسلكيات، وذلك بسبب انفتاحه؛

– سلميَّة مَن يقاوم العنف بوسائل سلمية، لكنْ غير منظمة؛

– استشهاد مَن يقبل أن يكون ضحية العنف لهدف وطني أو ديني، مهما كان ساميًا.

هذه “مشكلات” جميلة، لكنها ليست اللاعنف المنظم الذي تتكلم عليه هذه الوثيقة.

اللاعنف ليس موقفًا ساذجًا:

اللاعنف المنظم، من جهة أخرى، ليس مبنيًّا على تصور وهمي تفاؤلي ساذج للعالم والمجتمع والإنسان، تصوُّر لا يرى (أو لا يريد أن يرى) مختلف ظاهرات العنف التي تتفجر فيه؛ بل هو، بالعكس، واضح الرؤية، يسعى إلى تحليل هذه الظاهرات وتعليلها.

اعتماد لفظة “لا” النافية:

قد تزعج بعضَهم الصيغةُ النافية لِلَفظة “لاعنف”. وعلى الرغم من ذلك، فقد أُبْقِيَ عليها بدلاً من اعتماد صيغة من دون نفي، وذلك لأنها اكتسبت بفضل فكر كبار اللاعنفيين (أمثال تولستوي وغاندي ومارتن لوثر كنغ) ونضالهم معاني لا تحملها معًا أية لفظة أخرى. ومعنى “اللاعنف” غير معنى لفظة “دون عنف”، التي تعني فقط السلمية وغياب العنف.

مدخل إلى اللاعنف:

هذا النص هو حصيلة عمل جماعي وخلاصة عدة كراسات ظهرت حول اللاعنف المنظم. وقد كُتِبَ في صيغة مبسَّطة ومختصرة ليكون مدخلاً إلى اللاعنف، نظرية وأخلاقيات وممارسة. وهو مُوجَّه خاصة إلى الذين يسعون إلى الالتزام بتغيير الواقع بطريقة لاعنفية، أية كانت انتماءاتهم الدينية والعقائدية والإيديولوجية. وهو يتضمن ثلاثة أجزاء:

1. نظرية اللاعنف:

النظرية هي التصور الفكري الذي يتضمن مبادئ ومسلَّمات تُعتبَر حقائق تحتاج إلى براهين. وقد اختيرت خمس مسلَّمات أساسية في هذا المدخل لتؤلِّف نظرية اللاعنف.

1–1: الكائن الإنساني هو، في العالم، القيمة المطلقة الوحيدة:

جميع الكائنات في العالم[1]، الحية أو الجامدة، الفكرية أو المؤسَّسية، قيمتها نسبية حيال الإنسان، ويجب أن تبقى نسبية لتظل في خدمته. والنظرية الفلسفية والإيديولوجية التي تعتبر الإنسان كائنًا نسبيًّا عرضيًّا زائلاً يصعب عليها أن تأتي إلى الجهاد اللاعنفي، أو أن تبرِّره على الأقل، انطلاقًا من تصورها هذا للإنسان.

1–2: لكلِّ كائن إنساني حقٌّ أول بأن يُعتبَر قيمةً مطلقة، ومن ثمَّ ذاتًا فاعلة وغاية أخيرة:

لكلِّ كائن إنساني، مهما كان جنسه وعمره وعرقه ودينه، حالته الجسمية والنفسية، وضعه الاقتصادي والاجتماعي، ومسلكه، حقٌّ أول، تتفرع عنه باقي حقوقه[2] وتجد فيه تبريرَها العميق، في أن يُعتبَر:

– كقيمة مطلقة: فلا يُعامله أحد، أيًّا كان، – شخصًا أم جماعة أم مجتمعًا، – كنسبيٍّ؛ بل يجب أن يرجع كلُّ شيء إليه ويكون نسبيًّا حياله.

– كذات فاعلة، لا كشيء: فلا يجوز أن تقلَّص قيمةُ أيِّ كائن إنساني، فيُعتبَر كيانًا اقتصاديًّا أو سياسيًّا، تتضاءل حريتُه أو تتلاشى، أو رقمًا في سلسلة، أو نسخةً بشرية انعدمت فرادتُها الشخصية وخصوصيتها.

– كغاية أخيرة، لا كوسيلة: بسبب كون الإنسان غاية، لا يجوز أن يستعمله كائنٌ إنساني آخر أو جماعة أو مجتمع (ولاسيما السلطة فيه) لغاية غريبة عن ذاته. كذلك فلكلِّ مجموعة من الناس أو جماعة أو مجتمع هوية خاصة؛ ومن ثمَّ فيجب أن يُعتبَر أيضًا كذات فاعلة، لا كشيء، كغاية أخيرة، لا كوسيلة، وأن يُعامَل معاملة الكائن الإنساني سواء بسواء. وفي حال حصول التناقض بين الكائن الفرد والجماعة، يجب أن يوجد الحلُّ الصحيح الذي لا يُضحَّى فيه بالمجموعة أو الجماعة أو المجتمع في سبيل إنسان فرد، ولا بالإنسان الفرد في سبيل أيٍّ منها – وإلا فتسود الفاشية أو الاستبداد أو اللاهوية.

1–3: كلُّ ما يمس سلبيًّا بكائن إنسانيٍّ أو جماعة أو مجتمع، في صفته كقيمة مطلقة أو كذات فاعلة أو كغاية، يُعتبَر عنفًا وظلمًا غير مقبول:

كل علاقة وكل عمل يقوم به شخص اعتباري، لاسيما سلطة (ظاهرات ذاتية)، وكل بنية أو شريعة أو أمر واقع (ظاهرات موضوعية) – … كل ما يمس سلبيًّا بكائن إنساني:

– كقيمة مطلقة، فيجعله نسبيًّا؛

– كذات فاعلة، فيشيِّئه؛

– كغاية أخيرة، فيستعمله…

… ذلك كله يُعتبَر عنفًا، خرقًا لأحد حقوقه، اجتياحًا لداخليَّته، ظلمًا بالمعنى الأوسع للَّفظة (“لاإنسانية” في بعض التعبيرات)، فيُعَد غير مقبول في نظرية اللاعنف.

1–4: يُعتبَر عنفًا وظلمًا كذلك كلُّ ما يمس سلبيًّا بكائن إنسانيٍّ في إحدى قِيَمِه الأساسية – هويته، فرادته، سلامته الجسمية والنفسية، حريته، استقلاليته، إبداعه، نموه، تكامُله، مساواته مع الآخرين:

هذه القيم الأساسية تنبع من القيمة المطلقة، وهي تشكل حقوقًا لا يجوز المساس بها: فكل علاقة، أو عمل، أو بنية، أو شريعة، أو أمر واقع، يمس سلبيًّا بإحدى هذه القيم يُعَد عنفًا وظلمًا غير مقبول في نظرية اللاعنف.

1–5: كل كائن إنساني، وإنْ كان سببًا (ذاتيًّا أو موضوعيًّا) للعنف أو للظلم، يظل أبدًا ذا ضمير قادر على الوعي، ومن ثمَّ على تغيير أحكامه ومسلكه:

قد يوجد العنف في البنيات والقوانين المستقلة ظاهريًّا عن إرادة الناس، أي قد يظهر موضوعيًّا لا ذاتيًّا. ولكن خلف الظاهرات “الموضوعية” هناك أشخاص يفيدون من الواقع الموضوعي. فهم إذا أرادوا يستطيعون أن يغيِّروه: إذا تغير حكمُ ضميرهم يمكن لهم أن يغيِّروا مسلكيَّتهم، ومن ثمَّ أن يزيلوا العنف أو الظلم القائم.

إذا صحَّتْ تسميةُ المسلَّمتين الأوليين “إيمانًا بالإنسان”، فالمسلَّمة الخامسة تصحُّ تسميتُها فعل “رجاء في الإنسان”: رجاء لا ييأس أبدًا، على الرغم من المظاهر كلِّها، بل من ظاهرات الفشل المتنوعة التي قد تحدث كلِّها.

2. الأخلاقية اللاعنفية:

الأخلاقية هي مجموعة من الأحكام القِيَمية على العلاقات والأعمال الإنسانية، تُعتبَر مقبولةً أو مرفوضة قياسًا إلى النظرية الإنسانية المعتمدة. فهي تنص على ما يجب عمله – على الواجبات – في منطق هذه النظرية. لذا فالأخلاقيات اللاعنفية تنبع من النظرية اللاعنفية. وهذا اللاعنف ليس إلا اللاعنف الأخلاقي الذي سمَّيناه في المقدمة “غير منظم”.

2–1: كل ما يمسُّ سلبيًّا بكائن إنسانيٍّ في إحدى قِيَمِه الأولى أو الأساسية يجب تجنُّبه أو إزالته:

كل ظاهرة، ذاتية أو موضوعية، أي كل علاقة وعمل، وكل بنية وشريعة وأمر واقع، في الحقول كافة – المدنية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية – … كلُّ ما يمس بالكائن الإنسانيِّ سلبيًّا، أي ما يكون ضد إنسان أو جماعة أو مجتمع، في إحدى القيم الأولى (كقيمة مطلقة وذات فاعلة وغاية) أو في إحدى قيمه الأساسية (هويته أو سلامته أو حريته)، يجب على الإنسان اللاعنفي أن يتجنبه: أي ألا يقوم به. وهذا هو الوجه “الوقائي” للاعنف؛ ويتضمن حتى تجنب كلِّ ظاهرة “حيادية” أخلاقيًّا قد ينتج عنها ما يمس سلبيًّا بكائن إنساني.

2–2: هناك فئة ثانية يقع فيها التباس، لا تمس مساسًا أكيدًا واضحًا بكائن إنسانيٍّ أو جماعة أو مجتمع:

وهذه من الضروري تحليلها، لاكتشافها على حقيقتها الصحيحة، ومن ثمَّ لتعهُّدها، أو بالعكس، لتجنبها أو إزالتها بسبب عنفها وظلمها. قد تبدو هذه الظاهرات مؤاتية، بينما هي تمس سلبيًّا بكائن إنسانيٍّ أو جماعة أو مجتمع:

– ذاتيًّا، قد تكون دوافعها غير مقبولة، فتصنَّف ضمن الفئة الأولى؛

– موضوعيًّا، قد لا تخدم حقًّا القيمة المطلقة والقيم الأساسية، ولذلك فمن الضروري فرزُ ما فيها من إيجابيٍّ حقًّا عما ليس إلا مظهرًا خارجيًّا، بغية العمل بمقتضى ذلك التحليل.

2–3: الغاية لا تبرِّر الوسيلة في أيِّ حال من الأحوال:

الغاية (كالهدف الوسيط أو الجزئي) – غاية عمل أو علاقة بنية أو شريعة، مهما تكن عادلة وهامة – لا تبرِّر استعمالَ وسائل ظالمة عنيفة. وبديهي أن الغاية الظالمة لا يمكن تبريرها مطلقًا، حتى لو كانت الوسائل المتخَذة كلها عادلة ولاعنفية.

3. الممارسة اللاعنفية:

الـpraxis هي ممارسة مجموعة الوسائل والأساليب القادرة أن تغيِّر واقعًا ليصبح أفضل.

3–1: اللاعنف العملي المنظَّم هو طاقة إنسانية تغييرية للواقع الإنساني العنفي الظالم من أجل استبدال واقع غير عنفي عادل به:

نُعِتَ اللاعنف هذا بـ”العملي” من أجل تمييزه عن جميع أشكال “السلبية” التي ذُكِرَتْ في المقدمة، ونُعِتَ بـ”المنظم” من أجل تمييزه عن اللاعنف “الأخلاقي” وحسب. وهو يذهب إلى أبعد من اللاعنف الأخلاقي، لأن الإنسان اللاعنفي العملي المنظم لا يكتفي بأن يسلك سلوكًا أخلاقيًّا لاعنفيًّا في حياته الشخصية والاجتماعية، بل يسعى إلى تغيير الواقع وفقًا لإمكاناته. والواقع المذكور هو الواقع الإنساني، فردًا ومجتمعًا، الذي يحتوي على أشكال الظلم والعنف المتنوعة.

3–2: الـpraxis اللاعنفية تتضمن “تقنيات” قادرة أن تكون ذات فاعلية تتصدى للقوى العنفية، وذلك دون أن تلجأ إلى العنف في أية مرحلة من مراحل نضالها.

وهذه التقنيات، إلى التوعية، تتضمن فيما تتضمن:

– المسيرة السلمية؛

– الاعتصام: بالصمت أو مع التعبير الموافق؛

– الصيام، رمزيًّا، مؤقتًا كان أو دائمًا، حتى ما قبل خطر الموت؛

– الإضراب عن العمل بعد استنفاد طرق الحوار والتفاوض كافة، ويكون:

أ‌. محدودًا أو شاملاً،

ب‌. محدَّد المدة أو مفتوحًا؛

– المقاطعة:

أ‌. الاقتصادية: مقاطعة منتجات المحتلين أو المستغلين؛

ب‌. الثقافية–الاجتماعية: مقاطعة الحفلات، الأوسمة، إلخ؛

ت‌. العصيان المدني: الامتناع خارج القانون عن الاشتراك أو العمل.

بيروت، 18/12/1998

*** *** ***

[1] لدى المؤمنين يمكن اعتبار وجه الله القيمة المطلقة الأولى الأسمى؛ والإنسان، المخلوق على صورة الله (مع أن الله ليس مثله)، يستمد منه قيمتَه المطلقة.

[2] لاسيما الحقوق الموجودة في مختلف “شرعات” الأمم المتحدة: من المستحسن أن تكون حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل بين الوثائق الملحقة.

تيَّار المجتمَع المَدني

http://maaber.org/issue_march06/non_violence3.htm