العصيان المدني – هنري د. ثورو

ما فتئتُ أقبَلُ عن حماسة مبدأ: “خيرُ الحكومة ما حَكَمَ أقل”؛ ووددت لو أني رأيته معمولاً به على نحوٍ أسرع وأكثر منهجية. فبإنفاذه يؤول أخيراً إلى المقولة التالية التي أومن بها هي الأخرى: “خير الحكومة ما لا يحكم إطلاقاً.” وعندما يكون البشر مستعدين له فذلك نوع الحكومة الذي سيحصلون عليه. ليست الحكومة، في أحسن الأحوال، غير وسيلة يُتذرَّع بها إلى حين تيسيراً للمصلحة؛ لكن معظم الحكومات عادة، وكل الحكومات أحياناً، لا ييسِّر المصلحة. والاعتراضات المقدَّمة ضد جيش قائم – وهي عديدة وذات وزن وتستحق أن تعمَّم – قد تُقدَّم أيضاً في المآل ضد حكومة قائمة. فالجيش القائم ما هو إلا ذراع للحكومة القائمة. والحكومة نفسها، التي هي الكيفية الوحيدة التي اختارها الناس لإعمال إرادتهم، معرَّضة بالمقدار نفسه للشطط في الاستعمال وللشذوذ قبل أن يستطيع الناس العمل من خلالها. دونكم مثلاً الحرب المكسيكية الحالية، بما هي فعلة بضعة أفراد يستخدمون الحكومة القائمة أداة لهم؛ إذ إن الناس، في المآل، ما كانوا ليوافقوا على هذا الإجراء.

هذه الحكومة الأمريكية، ما هي إنْ لم تكن تقليداً – وإنْ يكن حديثاً – يسعى إلى نقل نفسه غير منقوص إلى الأخلاف، لكنه يفقد كل لحظة شيئاً من كرامته؟ ليست لها حيويةُ رجل فرد حيٍّ ولا قوَّته؛ إذ إن بوسع رجل فرد أن يجعلها طوع بنانه. إنها، في نظر الجماهير نفسها، ضربٌ من السلاح الخشبي. لكن هذا لا ينتقص من ضرورتها؛ إذ إن على الجماهير أن تملك نوعاً ما من الآلة المعقدة، وتسمع ضوضاءها، من أجل أن تلبِّي فكرتها عن الحكم. وبذلك تبرهن الحكوماتُ إلى أيِّ حدٍّ بوسع البشر أن تُفرَض عليهم أمورٌ، بل حتى أن يفرضوها على أنفسهم، من أجل مصلحتهم. ويجب علينا جميعاً أن نقرَّ بأن هذا ممتاز. غير أن هذه الحكومة لم تدعم قط من تلقاء نفسها أية مبادرة إلا بمقدار ما لم تعرقل سيرها. إنها لا تهتم بصون حرية البلاد؛ لا يهمها أن تسوِّي أمور الغرب؛ لا يهمها أن تربِّي. فالطبع الذي فُطِرَ عليه الشعب الأمريكي هو الذي قام بكل ما تمَّ إنجازه؛ ولعله كان سيفعل المزيد نوعاً ما لو أن الحكومة لم تعرقل سيره في بعض الأحيان. ذلك أن الحكومة وسيلة يتذرَّع بها البشر طوعاً للنجاح في ترك واحدهم الآخر وشأنه. وكما قيل، عندما تكون الحكومةُ هذه الوسيلةَ على أتمِّ وجه فإن المحكومين يُترَكون وشأنهم على أتمِّ وجه كذلك. فلو لم تكن المقايضة والتجارة في مرونة المطاط لما أفلحتا في تخطِّي العقبات التي ما انفك المشرِّعون يضعونها في طريقهما. ولو كان لنا أن ندين هؤلاء الرجال كلياً بنتائج أفعالهم، وليس جزئياً بنواياهم، لاستحقوا أن يصنَّفوا مع أولئك الأشخاص الأشقياء الذين يضعون العوائق على الطرق السككية.

أما إذا شئتُ أن أتكلم عملياً وكمواطن، على غير ما يفعل أولئك الذين يلقبون أنفسهم بالفوضويين، فإني لا أطالب على الفور بزوال الحكومة، بل على الفور بحكومة أفضل. فليجهر كلُّ امرئ بنوع الحكومة الذي يستأهل احترامَه، فتكون هذه خطوة أولى باتجاه الحصول عليها.

إن السبب العملي، بعد كل اعتبار، إذا ما آل السلطان إلى أيدي الجماهير، في السماح للأكثرية بالحكم، وبالاستمرار فيه لفترة طويلة، ليس على الأغلب لأنها على صواب، ولا لأن هذا يبدو الأنصف في نظر الأقلية، بل لأنها الأقوى. لكن حكومة تحكم فيها الأكثرية في كل الحالات لا يمكن أن تتأسَّس على العدل، حتى في حدود فهم البشر له. ألا يمكن أن توجد حكومةٌ لا تقرر فيها الأغلبياتُ الحقَّ والباطلَّ، بل يقررهما الضمير؟ – حكومةٌ تقرر فيها الأغلبياتُ تلك المسائل فقط التي تنطبق عليها قاعدةُ تيسير المصلحة؟ هل ينبغي أصلاً على المواطن للحظة، أو في الحدِّ الأدنى، أن ينزل عن ضميره للتشريع؟ علام لكلِّ إنسان ضمير إذن؟ أعتقد أننا يجب أن نكون بشراً أولاً، وبعدئذٍ رعايا. إذ ليس من المرغوب أن يُحرَص على احترام القانون بقدر ما يُحرَص على الحق. إن الفرض الوحيد الذي يحق لي أن أُسأل عنه هو أن أفعل في أيِّ وقت ما أراه حقاً. لقد صدق إلى حدٍّ كبير من قال بأن الجَمْعَ لا ضمير له؛ لكن جَمْعاً من أصحاب الضمائر هو جَمْع ذو ضمير. لم يجعل القانونُ البشرَ أعدل بمقدار ذرة؛ وبواسطة تهيُّبهم منه، يصير يومياً ذوو النية الحسنة منهم حتى أدواتٍ للظلم. إن النتيجة الشائعة والطبيعية للاحترام المفرط للقانون هو احتمال رؤيتك رتلاً من الجند – عقيداً ورائداً وعريفاً وجندياً عادياً وغلام مدفعية وغيرهم – يمشون في نظام يبعث على الإعجاب ويقطعون التلال والوهاد إلى الحروب، رغماً عنهم – أجَلْ، ضد سليقتهم وضميرهم – الأمر الذي يجعل مشيهم مشقة كبيرة فعلاً، ويسبب خفقاناً في القلب. لا ريب عندهم أن الأمر الذي تورطوا فيه أمر بغيض؛ لكنهم يذعنون له مستكينين. أما وهذه هي الحال، ما يكون هؤلاء؟ أهم بشر أصلاً؟ – أم هم حصون ومخازن ذخيرة صغيرة متحركة في خدمة رجل صاحب نفوذ لا يتورع عن شيء؟ زُرْ رحبة السفن، فتملَّى جندي بحرية، رجلاً كالذي وحدها حكومة أمريكية بوسعها أن تصنعه، أو ما يمكنها أن تصنع من رجل بسحرها الأسود – تجد مجرد ظل للإنسانية وذكرى منها، رجلاً معروضاً حياً للفرجة وواقفاً، ومدفوناً سلفاً، إذا جاز القول، تحت الأسلحة مع الموكب الجنائزي، مع أنه

لم يُسمَع طبلٌ، ولا نغمة جنائزية،

ونحن نعجِّل بجثته إلى المتراس؛

ما من جندي أطلق رصاصة وداع

على القبر الذي ووري فيه بطلُنا.

إن جمهور البشر يخدم على هذا النحو الدولةَ، ليس كبشر أساساً، بل كآلات، بأجسامهم. إنهم الجيش المرابط، والكتائب، والسجَّانون، والشرطة، والمكلَّفون بالأمن، إلخ. وفي معظم الحالات ينعدم أي إعمال حرٍّ، أياً كان، للمحاكمة أو للحسِّ الأخلاقي؛ بل هم يضعون أنفسهم على صعيد واحد مع الخشب والتراب والحجارة؛ ولعل بالإمكان تصنيع رجال من خشب يفون بالغرض على حدٍّ سواء. ومثل هؤلاء الرجال لا يستدرون من الاحترام بأكثر مما يستدر رجال من قش أو كومة من الوسخ؛ قيمتهم من قيمة الخيل والكلاب وحسب. ومع ذلك فإن لأمثالهم حتى على العموم منزلة مواطنين صالحين. وغيرُهم – كغالبية المشرِّعين والساسة والمحامين والوزراء وأصحاب المناصب – يخدمون الدولة بعقولهم على الأكثر؛ وبما أنهم قلما يقومون بأيِّ تمييز أخلاقي، فإن حظهم في خدمة الشيطان، من غير أن يدروا، لا يقل عن حظهم في خدمة الله. وحدها ثلة صغير – كالأبطال والوطنيين والشهداء والمصلحين بالمعنى العظيم والرجال – يخدمون الدولة بضمائرهم أيضاً، وبالتالي يقاومونها بالضرورة في معظم الأحيان؛ وهي عموماً ما تُعاملهم معاملة الأعداء. أما الرجل الحكيم فلا يكون مفيداً إلا كإنسان، ولسوف يأبى أن يكون مجرد “صلصال”، “يسد ثغرة درءاً للريح”، تاركاً تلك المهمة لرفاته على الأقل:

أنا أشرف نَسَباً من أن أكون ملاَّكاً،

من أن أكون معاوِناً مسلَّطاً،

أو مستخدماً وأداة فعالة

لأية دولة سيدة في العالم بأسره.

مَن يهب نفسه بكليتها لرفاقه البشر يبدو لهم غير ذي نفع وأنانياً؛ أما مَن يهب نفسه لهم جزئياً فيُكرَّس فاعل خير ومُحسناً.

كيف ينبغي للرجل أن يتصرف حيال هذه الحكومة الأمريكية اليوم؟ أجيب بأنه لا يستطيع أن يكون على صلة بها بدون أن يجلِّله الخزي. لا أستطيع برهة واحدة أن أعترف بذلك التنظيم السياسي حكومةً لي وهو حكومة العبيد أيضاً.

البشر جميعاً يعترفون بحق الثورة؛ أي الحق في رفض الولاء للحكومة والحق في مقاومتها عندما يصير استبدادُها أو تقصيرُها عظيماً أو لا يطاق. لكن الجميع تقريباً يقولون إن الأمر ليس كذلك الآن. إنما كان الأمر كذلك، على حدِّ قولهم، في ثورة عام 75. فلو اتفق لأحدهم أن يخبرني بأن الحكومة آنذاك كانت سيئة لأنها فرضت المكوس على بعض السلع الأجنبية المجلوبة إلى موانئها فمن المرجَّح جداً ألا أثير جلبة حول الأمر لأني أستطيع أن أستغني عنها. لكلِّ آلة احتكاكُها؛ ومن الممكن أن يجلب هذا ما يكفي من الخير لموازنة الشر. وعلى كل حال، فإن من عظيم الشر أن يثار لغطٌ بخصوص هذا الأمر. ولكن عندما يصل الأمر بالاحتكاك إلى امتلاك آلته، وتنظيم الجور والنهب، أقول إننا يجب أن نتخلص من آلة كهذه. بعبارة أخرى، عندما يكون سدسُ تعداد أمة، نهضتْ لتكون ملاذاً للحرية، عبيداً، وتتعرض بلادٌ بأسرها ظلماً لاعتداء جيش أجنبي وغزوه، وتخضع للقانون العسكري، أعتقد أن الأوان يكون قد آن لكي يتمرد شرفاءُ القوم ويثوروا. وما يجعل هذا الواجب عاجلاً أكثر هو أن البلاد المعتدى عليها على هذا النحو ليست بلادنا، بل إن جيش بلادنا هو الغازي.

إن بيلي – وهو مرجع عام في العديد من المسائل الأخلاقية – في الفصل الذي عقده على “واجب الامتثال للحومة المدنية”، يختزل كل التزام مدني إلى تيسير المصلحة؛ ويمضي قائلاً إنه “مادامت مصلحة المجتمع بأكمله تتطلب ذلك، أي مادامت مقاومةُ الحكومة القائمة أو تغييرُها متعذرين بدون حصول بلبلة عامة، فإن الله قد شاء… أن تطاع الحكومة القائمة – إلى حين. وبقبول هذا المبدأ فإن عدالة كلِّ حالةِ مقاومةٍ خاصة تُختزَل إلى حسابٍ لمقدار الخطر والضيم الواقع، من جانب، وإلى احتمال وكلفة تصحيحهما، من جانب آخر.” وكل إنسان، على حدِّ قوله، يحكم في ذلك بنفسه. لكن يبدو أن بيلي لم يمعن النظر قط في تلك الحالات التي لا تنطبق فيها قاعدة تيسير المصلحة، والتي ينبغي فيها على الشعب، كما وعلى الفرد، أن يقيم العدل، مهما كلف الأمر. فإذا انتزعتُ ظلماً من رجل يغرق لوحَ خشب عليَّ أن أعيده إليه، حتى إذا جازفتُ بالغرق. وهذا، بحسب بيلي، غير ملائم. لكن من يفوز بحياته، في حالة كهذه، يخسرها. على هذا الشعب أن يكف عن استعباد الناس، وعن شنِّ الحرب على المكسيك، وإن كلَّفه ذلك حياته كشعب.

الأمم، في ممارساتها، تتفق مع بيلي؛ ولكن هل من أحد يستصوب ما تفعل ماساتشوستس بالدقة في هذه الأزمة الراهنة؟

دولة كدْراء، فاسقة في ثوبٍ خَلِقٍ من فضة،

ترفع حاشية ثوبها، وتمرِّغ روحَها في الوحل.

من الناحية العملية، ليس المعارضون للإصلاح في ماساتشوستس مئة ألف سياسي في الجنوب، بل هم مئة ألف تاجر ومزارع هنا، همُّهم التجارة والزراعة أكثر من الإنسانية، وليسوا مستعدين لإنصاف العبد والمكسيك، مهما كلف الأمر. لست على خصام مع الأعداء البعيدين، بل مع القريبين في الوطن الذين يتعاونون مع أولئك البعيدين ويزايدون عليهم، القريبين الذين بدونهم يكون البعيدون مأموني الجانب. لقد اعتدنا أن نقول بأن جمهور البشر عير مستعد؛ غير أن التحسين بطيء لأن الصفوة ليسوا مادياً أوفر حكمة أو أفضل من الجمهور. فليس من الأهمية بمكان أن يعادلك الكثيرون خيراً، بقدر ما يهم أن يوجد خير مطلق ما في مكان ما؛ إذا إن به يختمر المجموعُ كله. هناك الألوف ممَّن يعارضون في الرأي الرقَّ والحرب، لكنهم بالفعل لا يحركون ساكناً لوضع حدٍّ لهما؛ الألوف ممَّن، إذ يحسبون أنفسهم أبناء واشنطن وفرانكلين، يجلسون وأيديهم في جيوبهم، ويقولون إنهم حيارى فيما يفعلون، ولا يفعلون شيئاً؛ ممَّن يقدِّمون حتى التجارة الحرَّة على مسألة الحرية، ويقرؤون بعد العشاء بهدوء الأسعارَ الجاريةَ مع آخر الاستشارات الواردة من المكسيك، ولعلهم ينامون على كليهما قريري العين. فما هو السعر الجاري اليوم لرجل نزيه ووطني؟ إنهم يترددون، ويأسفون، يرفعون العرائض أحياناً؛ لكنهم لا يفعلون شيئاً جدياً وفعالاً. ولسوف ينتظرون، حَسَني النية، أن يقوم آخرون بتدارك الشر، لكيلا يضطرهم شيءٌ بعدُ إلى الأسف. وفي أحسن الأحوال، يمنحون صوتاً رخيصاً وتأييداً واهناً للحق، إذا صادفوه، ويدعون له بالسلامة. هناك تسعمئة وتسعة وتسعون وصياً على الفضيلة مقابل رجل فاضل واحد. لكن من الأيسر التعامل مع المالك الحقيقي لشيء من الوصي المؤقت عليه.

كل تصويت فهو ضرب من اللعب، مثل الدَّامة والنرد، عليه مسحةٌ خفيفة من الأخلاق، فهو تلاعبٌ بالحق وبالباطل، تلاعب بالمسائل الأخلاقية؛ وهو يترافق بالطبع مع الرهان. إن طبع المصوِّتين ليس موضع رهان. أدلي بصوتي، ربما، لصالح ما أظنه حقاً؛ لكني لست معنياً حيوياً بأن يسود الحق. أوثر أن أفوض الأمر إلى الأكثرية. لذا فإن التزامها لا يتعدى الالتزام بتيسير المصلحة. وحتى التصويت لصالح الحق لا يفعل من أجله شيئاً. إنه تعبيرك للناس تعبيراً واهناً عن رغبتك في سيادته، ليس إلا. أما الرجل الحكيم فلن يترك الحق لرحمة المصادفة، كما لن يتمنى له أن يسود عبر سلطان الأكثرية. ليس في عمل جماهير البشر إلا القليل من الفضيلة. وإذا اتفق للأكثرية أن تصوِّت أخيراً على إلغاء الرق فسيكون ذلك لأنهم غير مكترثين للرق، أو لأنه لم يبقَ إلا القليل من الرق يلغيه تصويتهم. وإذ ذاك لن يكون من عبيد سواهم. وحده مَن يؤكد بصوته على حريته هو يستطيعُ صوتُه أن يعجِّل في إلغاء الرق.

سمعتُ عن مؤتمر سوف ينعقد في بلتيمور، أو في غير مكان، لاصطفاء مرشَّح للرئاسة، مؤلَّف في غالبيته من ناشرين ومن رجال يحترفون السياسة؛ لكن ما همَّ أيِّ رجل مستقل وعاقل ومحترم أيَّ قرار يتوصلون إليه؟ ألن نحظى، مع ذلك، بميزة حكمته ونزاهته؟ ألا نستطيع أن نتكل على عدد من الأصوات المستقل؟ أليس هناك أفرادٌ عديدون في البلاد لا يحضرون المؤتمرات؟ ولكن كلا: أرى أن الرجل المحترم قد تخلَّى من فوره عن موقعه، وقد يئس من بلاده عندما وجدتْ بلادُه ما يستوجب اليأس منه. لذا فهو يسارع إلى تبنِّي واحد من المرشحين المُصطَفَيْن على هذا النحو بوصفه المرشح الوحيد المتيسر، مبرهناً بذلك أنه هو مستباح لأي مقصد من مقاصد الديماغوجي. وصوته لا يزيد قيمة عن صوت أيِّ أجنبي لا يراعي حرمة أو ابن بلد مرتزق قد اشتُرِيَ. طوبى لرَجُلٍ رَجُل، في ظهره عظمٌ ليس خَرِعاً، كما يقول جاري! إحصاءاتنا على غلط: إذ لقد بالغتْ في تقدير عدد السكان. كم من الرجال يوجد في كل ألف ميل مربع في هذه البلاد؟ يكاد لا يوجد رجل واحد. ألا توفر أمريكا أي ترغيب للرجال لكي يستقروا هنا؟ لقد تضاءل الأمريكي حتى أمسى مخلوقاً عجيباً – مخلوقاً يُعرَف من نموِّ عضو قطيعيَّته ومن نقصٍ في عقله وفي اتكاله البهيج على النفس؛ مخلوقاً همُّه الأول والرئيسي، لدى قدومه إلى العالم، هو التأكُّد من أن دُورَ الإحسان في حالة صالحة؛ همُّه، حتى قبل أن يرتدي شرعاً زيَّ الرجولة، أن يجمع التبرعات لدعم الأرامل واليتامى المفترضين؛ مخلوقاً، باختصار، لا يغامر بالعيش إلا بمعونة شركة التأمين التعاونية التي وعدت أن تدفنه دفناً لائقاً.

من المفروغ منه أنه ليس من واجب المرء أن ينذر نفسه للقضاء على أيِّ باطل، حتى أشده فداحة؛ قد تكون له بحق اهتمامات أخرى ينشغل بها؛ لكن من واجبه، على الأقل، أن يغسل يديه منه، وإذا لم يولِ الأمر المزيد من التفكير، ألا يمحضه عملياً تأييدَه. إذا نذرت نفسي لمساعٍ ومطالب أخرى، فعليَّ أن أستيقن، على الأقل، من أنني لا أسعى إليها على كتفي رجل آخر. عليَّ أن أفسح له المجال أولاً بحيث يستطيع أن يسعى إلى مطالبه هو الآخر. فانظروا أي تناقض فظ يُتساهَل فيه. لقد سمعت بعض رجال بلدتي يقولون: “ليتهم يأمرونني بالخروج لأساعد في إخماد تمرد للعبيد، أو بالسير إلى المكسيك – فيروا إذا امتثلت”؛ غير أن كلاً من هؤلاء الرجال أنفسهم قد أتى بالبديل، مباشرة بولائه، وعلى نحو غير مباشر قطعاً، على الأقل، بماله. يصفِّق للجندي الذي يرفض أن يخدم في حرب ظالمة أولئك أنفسُهم الذين لا يرفضون تأييد الحكومة الظالمة الذي تشن الحرب؛ وكأن الدولة تائبة إلى درجة أن المرء يتورع عن ضربها بالسوط وهي ترتكب الإثم، لكن ليس إلى درجة أن تكفَّ عنه للحظة. وهكذا فإنه تحت عنوان النظام والحكومة المدنية نُرغَم جميعاً في النهاية على تأدية فروض الولاء لخِسَّتنا وعلى تعزيزها. فبعد حياء المعصية الأول تأتي اللامبالاة بها؛ وهذه من مُنكَرة تصير لاأخلاقية، إذا جاز القول، وليست غير ضرورية تماماً لتلك الحياة التي صنعناها.

إن الثبات أمام الغلط الأوسع والأشيع يتطلب الفضيلة الأكثر زهداً. إن المأخذ الطفيف الذي تتعرَّض له عموماً فضيلةُ الوطنية يؤخَذ على النبلاء في الأعم الأغلب. فالذين، وإن اعترضوا على طبع حكومة ما وعلى إجراءاتها، يرضخون لها في ولائهم ودعمهم، هم مؤيِّدوها الخُلَّص وهم، وفي الكثير من الأحيان، أخطر العراقيل أمام الإصلاح. بعضهم يرفع العرائض إلى الدولة لكي تحلَّ الاتحاد، وتضرب كشحاً عن إيعازات الرئيس. فلم لا يحلُّونه بأنفسهم – أي الاتحاد بينهم وبين الدولة – فيرفضون دفع أقساطهم إلى خزينتها؟ أليس موقفهم في علاقتهم بالدولة مماثلاً لموقف الدولة في علاقتها بولايات الاتحاد؟ أليست الأسبابُ التي منعت الدولةَ من مقاومة ولايات الاتحاد هي عينها الأسباب التي منعت الولايات من مقاومة الدولة؟

كيف يرتضي إنسان لنفسه مجرد النظر في رأي والتمتع به؟ هل ثمة أية متعة في ذلك إذا كان رأيُه هو مصدر الضيم النازل به؟ إذا أخذ منك جارُك بالحيلة دولاراً واحداً فإنك لا ترتضي الاكتفاء بمعرفتك أنه احتال عليك، أو بقولك إنه احتال عليك، أو حتى بالتوسل إليه أن يدفع لك مستحَقَّك عليه؛ بل تتخذ فوراً خطوات فعلية للحصول على المبلغ كاملاً، وتستيقن من أنه لن يحتال عليك من جديد. إن العمل بمقتضى مبدأ، وإدراك الحق وإحقاقه، يغير في الأشياء وفي العلاقات؛ وهو ثوري من حيث الجوهر، ولا يتسق بالتمام مع أي شيء كان. إنه لا يشطر الدول والكنائس وحسب، بل والعائلات أيضاً؛ لا بل ويشطر الفرد، مُفرِزاً الشيطاني فيه من الإلهي.

القوانين الظالمة موجودة: فهل نقنع بطاعتها، أم نسعى إلى تعديلها، فنطيعها حتى ننجح في مسعانا، أم ننتهكها على الفور؟ في ظل حكومة كهذه، يظن الناس عموماً أن عليهم أن ينتظروا ريثما يُقنِعون الأكثريةَ بتغييرها. وهم يظنون أنهم، إذا ما قاوموا، فإن الدواء سيكون أسوأ من الداء. لكن الحكومة هي المسؤولة عن كون الدواء أسوأ من الداء؛ فهي التي تجعله أسوأ. فلم لا ترى من الأنسب أن تستبق الأمور وتمهد للإصلاح؟ لم لا تراعي أقليتَها الحكيمة؟ لماذا تصرخ وتقاوم قبل أن يصيبها الأذى؟ لم لا تشجع مواطنيها أن يكونوا على أهبة الاستعداد لتنبيهها إلى أغلاطها، وتفعل خيراً مما تتطالبهم أن يفعلوا؟ لماذا تصلب المسيح دائماً، وتعلن الحرم على كوبرنيكوس، وتَصِمُ واشنطن وفرانكلين بالتمرد؟

يتراءى للمرء أن الإنكار العملي المقصود لسلطتها هو الإساءة الوحيدة التي لم تحتطْ لها الحكومة قط؛ وإلا فلم لم تخصَّص له العقوبة المحددة والملائمة والمتناسبة معه؟ إذا رفض رجل لا يملك شروى نقير مرة واحدة أن يؤدي تسعة شلنات للدولة فإنه يودَع السجن لفترة لا يحددها أي من القوانين التي أعرفها، ولا يعيِّنها إلا اجتهادُ الذين سجنوه؛ لكن إذا اتفق له أن يسرق من الدولة تسعين مرة تسعة شلنات فإنه سرعان ما يُسمَح بإطلاق سراحه.

إذا كان الظلم جزءاً من الاحتكاك الضروري بين تروس آلة الحكومة، ليكن، ليكن: فربما اهترأتْ حتى الملاسة – لكن الآلة سوف تبلى حتماً. إذ خصَّ الظلمُ نفسَه بنابض، أو ببكرة، أو بحبل، أو بعتلة، فلكَ ربما أن تنظر فيما إذا لم يكن الدواء أسوأ من الداء؛ لكن إذا كان الظلم من طبيعةٍ تتطلب منك أن تصير أداة ظلم لغيرك، عندئذٍ، أقول لك: خالِف القانون؛ ولتكن حياتك احتكاكاً مضاداً لوقف الآلة. فما ينبغي عليَّ أن أفعله هو التيقن، في كل حال، من أني لا أشارك في الباطل الذي أدينُه.

أما عن تبنِّي الطرق التي أتاحتْها الدولةُ لمعالجة الداء، فلا أعرف شيئاً عن مثل هذه الطرق. فهي تستغرق وقتاً من الطول بما قد يودي بحياة إنسان. عندي شؤون أخرى أنصرف إليها. لم آتِ إلى هذا العالم أساساً لكي أجعل منه مكاناً طيباً أحيا فيه، بل لكي أحيا فيه وحسب، حسناً كان أم سيئاً. ليس على الإنسان أن يفعل كل شيء، بل شيء واحد؛ ولأنه ليس في وسعه أن يفعل كل شيء، ليس من الضروري أن يفعل شيئاً خاطئاً. ليس من شأني أن أرفع عريضة إلى الحاكم أو المشرِّع بأكثر مما هو من شأنهما أن يرفعا عريضة إليَّ؛ وإذا لم يحملا عريضتي على محمل الجد ماذا عليَّ أن أفعل حينئذٍ؟ بيد أن الدولة في هذه الحالة لم تتحْ طريقاً: دستورها نفسه هو الشر. قد يبدو هذا من قبيل القسوة والعناد وعدم الموادعة؛ لكن قوامَه معاملةُ الروح الوحيدة التي بوسعها أن تقدِّره أو تستحقه بأقصى ما يكون من اللطف والاعتبار. كذلك هو كل تغيير نحو الأفضل، مثل الولادة والموت، اللذين يختلج لهما الجسم.

لا أتردد في القول إن على أولئك الذين يسمُّون أنفسهم دعاةَ إبطال الرق أن يسحبوا فعلاً على الفور دعمَهم من حكومة ماساتشوستس، شخصياً ومالياً، ولا يلبثوا بانتظار أن يشكِّلوا أكثرية رجل واحد، قبل أن يتولوا الحق بالسيادة من خلالها. أعتقد أن حسبهم أن يكون الله في صفهم، بدون أن ينتظروا ذلك الرجل الآخر. علاوة على ذلك، فإن أي رجل على حقٍّ أكثر من جيرانه يشكِّل أصلاً أكثرية رجل واحد.

أقابل هذه الحكومة الأمريكية، أو ممثلتَها حكومة الولاية، مباشرة، ووجهاً لوجه، مرة كل عام – لا أكثر – في شخص جابي ضرائبها؛ وهذه هي الكيفية الوحيدة المتاحة بالضرورة لرجل في موقعي لمقابلتها؛ وهي تقول حينئذٍ بصراحة: اعترف بي. إن الكيفية الأبسط، والأكثر فاعلية، وفي الوضع الحالي للأمور، الكيفيةَ التي لا غنى عنها إلى أبعد حد، للتعامل معها على هذا الصعيد، وللتعبير عن رضاك الصغير عنها وعن محبتك لها، هي إنكارُها إذن. إن جاري المدني، جابي الضرائب، هو بعينه الرجل الذي يتعين عليَّ أن أتعامل معه – إذ إني، في المآل، أخاصم بشراً ولا أخاصم كاغداً – وهو قد اختار بإرادته أن يكون وكيلاً عن الحكومة. فكيف له أن يعرف يوماً معرفة جيدة ما هو وما يفعل كموظف للحكومة، أو كإنسان، حتى يكون مُجبَراً على النظر فيما إذا كان سيعاملني – أنا، جاره الذي يكنُّ له الاحترام – كجارٍ وكإنسان طيب السريرة، أو كمهووس مثير للشغب، ويرى إن كان يستطيع أن يتخطى هذا الحائل دون جيرته بدون خاطر أو كلام أكثر رعونة وهياجاً يتناسب مع فعله. غير أني أعرف هذا جيداً: إذا قام ألف رجل، مئة رجل، عشرة رجال أستطيع أن أسميهم – عشرة رجال شرفاء – لا بل إذا قام فعلاً رجل شريف واحد فقط، في ولاية ماساتشوستس، وقد أعتق عبيده، بالانسحاب من هذه الشراكة، وحُبِسَ من أجل ذلك في سجن المقاطعة، لكان ذلك هو إلغاء العبودية في أمريكا. إذ إنه لا يهم مطلقاً ما تبدو عليه البداية من صِغَر: فما يتم على الوجه الصحيح مرة يتم للأبد. لكننا نؤثر أن نتكلم على الأمر: تلك، نقول، هي رسالتنا. غير أن الإصلاح يحتفظ بأعداد غفيرة من الصحف في خدمته، لكنه لا يحتفظ برجل واحد. إذا اتفق لجاري الموقر – سفير الدولة، الذي سوف يخصِّص أيامه لتسوية مسألة حقوق الإنسان في قاعة المجلس، بدلاً من أن يُهدَّد بسجون كارولينا – أن يقاضي سجين ماساتشوستس، فإن تلك الولاية التي تحرص كل الحرص على أن تلقي بتبعة إثم الرق على شقيقتها – مع أنها في الوقت الحاضر لا تتورع عن الكشف في مسلك لا إكرام للضيف فيه فقط أساساً لخصومة معها – والمشرِّع لن يرجئ النظر في القضية إلى الشتاء التالي.

في ظل حكومة تسجن أياً كان ظلماً فإن المكان الصحيح للإنسان العادل هو أيضاً السجن. المكان اللائق اليوم، المكان الوحيد الذي خصَّصته ماساتشوستس لأكثر أرواحها حرية وأقلها قنوطاً، هو في سجونها، يودَعون فيها وتوصَد أبوابُها دونهم والدولةَ بفعل الدولة نفسه، بما أنهم وضعوا نفسهم خارجها إذ عملوا بمبادئهم. هناك يجدهم العبدُ الهارب، والسجينُ المكسيكي المفرَج عنه على شروط، والهنديُّ القادم للترافع عن الضيم النازل على قومه؛ ذلك المكان المعزول – لكن الأشرف والأكثر حرية، حيث تودِع الدولة أولئك الذين لا يوالونها، بل يناوئونها – هو الدارُ الوحيدة في دولة عبيد يستطيع فيها إنسانٌ حرٌّ أن يقيم كريماً. أما إذا ظن بعضهم أن تأثيرهم سوف يضيع هناك، وأن أصواتهم لن تعود تطرق أذن الدولة، وأنهم لن يعودوا كالأعداء بين جدرانه، فإنهم لا يعرفون إلى أي حدٍّ يتفوق الحقُّ قوةً على الباطل، ولا إلى أيِّ حدٍّ أبلغ وأفعل يقدر الذي ذاق المقامَ قليلاً في سجنه أن يجاهد ضد الظلم. أدْلِ بصوتك كلِّه، وليس بقصاصة ورق وحسب، بل بتأثيرك برمَّته. الأقلية منزوعة القوة حين تنصاع للأكثرية؛ وهي إذ ذاك ليست أقلية حتى؛ لكنها لا تُقاوَم عندما تنوء بوزنها المعنوي كلِّه. فإذا كان البديل إما إبقاء الرجال الأبرار في السجن، وإما التخلِّي عن الحرب وعن الرق، فإن الدولة لن تتردد في أيهما تختار. هب أن ألف رجل استنكفوا عن دفع فواتير ضرائبهم هذا العام، فهذا لن يكون إجراءً عنيفاً ودموياً، كما سيكون فيما لو دفعوها، ومكَّنوا الدولة بذلك من ارتكاب العنف وسفك دم بريء. وهذا، في الواقع، هو تعريف الثورة السِّلمية، إذا أمكن أن توجد ثورة كهذه. فإذا سألني جابي الضرائب، أو أي موظف دولة آخر، كما سألني أحدُهم فعلاً: “ولكن ماذا سأفعل؟” فجوابي سيكون: “إذا أردت حقاً أن تفعل شيئاً، استقلْ من وظيفتك.” إذ عندما يرفض الفردُ من الرعية الولاءَ، ويستقيل الموظفُ من وظيفته، فإن الثورة ناجزة. ولكن حتى على افتراض أن الدم سوف يُسفَك، أليس ثمة نوعٌ من سفك الدم عندما يُجرَح الضمير؟ عبر هذا الجرح تنزُّ رجولةُ المرء وخلودُه، وينزف حتى الموت الأبدي. وإني لأرى هذا الدم ينزُّ الآن.

لقد افترضتُ حبس المخالِف بدلاً من الاستيلاء على ماله – مع أن كليهما سوف يخدم الغاية نفسها – لأن الذين يصرون على الحق الأنقى، وهم، بالتالي، الأخطر على دولة فاسدة، لم يصرفوا غالباً وقتاً طويلاً في تكديس الأملاك. لمثل هؤلاء لا تقدِّمُ الدولةُ بالمقارنة إلا خدمات ضئيلة، وإن ضريبةً طفيفة من دأبها أن تبدو في نظر هؤلاء باهظة، ولاسيما إذا اضطروا إلى كسبها بعمل خاص بسواعدهم. فلو كان ثَمَّ امرؤ يعتاش بالكلية بدون استعمال المال فإن الدولة نفسها قد تتردد في مطالبته به. غير أن الرجل الثري – لئلا نقوم بأية مقارنة باعثة على الحسد – مباع دوماً للمؤسَّسة التي تجعله ثرياً. وبكلام مطلق، كلما ازداد المال، تضاءلت الفضيلة؛ إذ إن المال يتوسط بين الإنسان وأغراضه، ويحصل له عليها؛ وبالتأكيد ليس الحصول عليه من عظيم الفضائل. فالمال يُخمِد العديد من الأسئلة التي لولاه لاضطر إلى الإجابة عليها؛ في حين أن المسألة الجديدة الوحيدة التي يطرحُها المالُ هي المسألة الصعبة، لكن النافلة: كيف ينفقه؟ وبهذا فإن أساسه الأخلاقي ينسحب من تحت قدميه. وفرصُ الحياة تتناقص في تناسب عكسي مع تزايد ما يسمى “الوسائل”. لذا فإن خير ما يفعله المرء لتثقيف نفسه إذا كان غنياً هو أن يسعى إلى تنفيذ تلك الخطط التي وضعها حين كان فقيراً.

لقد أجاب المسيح الهيروديين بحسب سؤالهم. قال: “أروني مال العِشر”؛ – فأخرج أحدُهم من جيبه درهماً؛ – فإذا استعملتم مالاً عليه صورة قيصر، وصيَّره قيصر سارياً وقيِّماً، أي إذا كنتم من رجال الدولة، وكنتم تتمتعون مسرورين بامتيازات حكومة قيصر، إذ ذاك ردُّوا له بعض ماله عندما يطلبه. “أعطوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله” – تاركين إياهم أجهل مما سبق فيما يخص أي شيء سيكون لمن؛ إذ إنهم لم يكونوا أصلاً يودون أن يعرفوا.

كلما تحادثت مع أكثر جيراني تحرراً، أدركت أنه أياً كان ما قد يقولون في سعة المسألة وجدِّيتها، ومهما كان مبلغ اعتبارهم للأمان العام، فإن لبَّ المسألة هو أنهم لا يستطيعون أن يستغنوا عن حماية الحكومة الحالية، وهم يخشون عواقب عصيانها على أملاكهم وعائلاتهم. من جانبي لا أحبذ فكرة الاتكال أصلاً على حماية الدولة. لكني إذا تنكَّرت لسلطة الولاية عندما تقدِّم لي كشفها الضريبي فإنها سرعان ما سوف تستولي على أملاكي كلها وتبدِّدها، وبذلك تتحرش بي وبأولادي بغير حد. وهذا يشق عليَّ. إن هذا ما يجعل من المتعذر على المرء أن يحيا حياة شريفة، وفي الوقت نفسه مريحة، من حيث الأمور الخارجية. ولن يكون من المجدي كنز الأملاك، إذ لا بدَّ للأمر من أن يتكرر. ينبغي عليك أن تستأجر أو تستحلَّ مكاناً، ولا تزرع إلا محصولاً قليلاً تأكله سريعاً. ينبغي عليك أن تحيا في دخيلة نفسك، وتتكل على نفسك دوماً، مشمِّراً عن ساعديك، مستعداً للانطلاق، ولا تملك الكثير من الأغراض. بوسع امرئ أن يصير غنياً حتى في تركيا، إذا حرص أن يكون من كلِّ وجهٍ من الرعايا الصالحين للحكومة التركية. لقد قال كونفوشيوس: “إذا حُكِمَت الدولةُ وفق مبادئ العقل فإن الفقر والبؤس يكونان وصمتي عار؛ أما إذا لم تُحكَم الدولةُ وفق مبادئ العقل فإن الثروة والمفاخر يكونان وصمتي عار.” أقول لا: فإلى أن أحتاج أن تشملني حماية ماساتشوستس وأنا في ثغر جنوبي بعيد، حيث تتعرض حريتي للخطر، أو إلى أن أصمِّم فقط على تعمير ضيعة لي في موطني بالمساعي السلمية، يجوز لي أن أرفض البيعة لماساتشوستس ولحقِّها على مُلكي وحياتي. وإنه ليكلِّفني أقل من كلِّ الوجوه أن يُنزَل بي عقابُ عصيان الدولة من أن أنصاع. الأحرى بي عند ذاك أن أشعر وكأن قيمتي تضاءلت.

منذ بضع سنوات استدعتْني الدولة لمصلحة الكنيسة وأمرتني بدفع مبلغ معيَّن مقابل إعالة رجل دين كان أبي مواظباً على حضور مواعظه، ولم أكن قط. قالت لي: “ادفع، أو دونك الحبس في السجن.” فرفضت أن أدفع. لكن، لسوء الحظ، وجد رجل آخر أن من اللائق أن يدفعه. ما كنت لأفهم لماذا ينبغي على ناظر المدرسة أن يؤدي الضريبة لإعالة الكاهن، وليس العكس؛ ذلك أني لم أكن ناظر مدرسة الدولة، بل كنت أقوم بأودي من الهبات الطوعية. ما كنت لأفهم لماذا لا تقوم المدرسة الثانوية بتقديم كشفها الضريبي وتكلف الدولة بدعم طلبها، وكذلك الكنيسة. غير أني، نزولاً عند طلب اللجنة الناظرة في القضية، تنازلت وصرحت كتابة بما مفاده: “أنا، هنري ثورو، أعلن على رؤوس الأشهاد أنني لا أود أن أُعتبَرَ عضواً في أية هيئة اجتماعية لم أنتسب إليها.” وهذا التصريح سلَّمتُه إلى كاتب البلدة، وهو في حوزته. عندئذٍ فإن الدولة، إذ تنامى إليها أنني لم أكن أود اعتباري عضواً في تلك الكنيسة، كفَّتْ منذئذٍ عن مطالبتي بشيء مثل هذا – وإن تكن قالت إنه ينبغي عليها أن تتقيد بإجرائها الأصلي في تلك المرة. ولو كنت أستطيع أن أحصي كافة الجمعيات التي لم أنتسب إليها قط لاستقلتُ منها جميعاً على التفصيل؛ لكني لم أعرف أين كنت أستطيع أن أجد قائمة مستوفية بها.

امتنعتُ عن تأدية ضريبة الخِراج مدة ست سنوات. ولقد أودِعتُ السجن مرة من جراء ذلك مدة ليلة واحدة؛ ثم، وأنا واقف شاخصاً في جدران الحجر الصلب، ذات القدمين أو الثلاثة سماكةً، وباب الخشب والحديد، ذا القدم سماكةً، وقضبان النافذة الحديدية التي كانت تصفِّي الضوء كالمخلاة، لم يسعني إلا أن أنصعق بجنون تلك المؤسَّسة التي كانت تعاملني وكأني مجرد لحم ودم وعظام، لا أصلح إلا للحبس. تفكَّرتُ في أنها قطعاً خَلُصَتْ أخيراً أن هذه أحسن معاملة كان في وسعها أن تخصَّني بها، ولم تفكِّر قط في أن تنتفع بخدماتي في صورة أو في أخرى. تبيَّن لي أنه لئن كان هناك جدار من الحجر بيني وبين سكان بلدتي هناك جدار أشد عصياناً على التسلق أو الاختراق دونهم وبلوغ مقام الحرية الذي أنا فيه. لم أشعر ولا للحظة أنني محتجَز، وبدت لي الجدران مضيعة هائلة للحجر والملاط. شعرت وكأني وحدي من بين سكان بلدتي قد سدَّدتُ ضريبتي. لقد أُسقِط في يدهم صراحةً في كيفية معاملتي، لكنهم تصرفوا كأشخاص سيئي التربية. فكلُّ تهديد وكلُّ إطراء من جانبهم انطوى على حماقة؛ إذ إنهم ظنوا بأني أتحرق رغبة في الوقوف على الجانب الآخر من ذلك الجدار الحجري. لم أملك إلا أن أبتسم لرؤية مبلغ اجتهادهم في إغلاق الباب على تأملاتي، التي كانت تتبعهم من جديد خارجاً بدون عارض أو عائق، وكأن مكمن الخطر كلِّه كان فيها. ولما لم يقدروا على الوصول إليَّ، عزموا على معاقبة جسمي؛ مثل الصبية، إذا لم يتمكنوا من شخص يكيدون له فإنهم يؤذون كلبه. تبيَّن لي أن الدولة معتوهة، وأنها كالمرأة العزباء المتخوفة على ملاعقها الفضية، وأنها لم تكن تميِّز أصدقاءها من أعدائها، وهكذا فقدتْ كلَّ احترام متبقٍّ فيَّ حيالها، فأشفقتُ عليها.

بذلك فإن الدولة لا تواجه أبداً حسَّ المرء، العقلي أو الأخلاقي، بل جسمه وحواسه فحسب. فهي ليست مسلحة بالفطنة وبالصدق الرفيعين، بل بالقوة الجسمانية المتفوقة. لم أولد لكي أُكرَه على شيء. ولسوف أتنفس على سجيتي. ولنرَ من منَّا الأقوى. أية قوة يتصف بها الجمع الغفير؟ وحدهم يستطيعون إكراهي مَن يمتثلون لقانون أعلى من القانون الذي أمتثل له. إنهم يُكرهونني على أن أصير مثلهم. لم أسمع برجال أكرهَهم جمهورُ الناس على اتخاذ هذه الطريق أو تلك. فأي ضرب من الحياة كان هذا سيكون؟ عندما أقابل حكومة تقول لي: “مالك أو حياتك”، لماذا أتعجل الدفع إليها بمالي؟ قد تكون واقعةً في ضائقة عظيمة وليست تعرف ما ينبغي عمله: وهذا لا حيلة لي فيه. فعليها أن تساعد نفسها، فتفعل كما أفعل. والأمر لا يستحق التباكي عليه. لست مسؤولاً عن الدوران الناجح لآلة المجتمع؛ إذ لست من أبناء المهندس. أدرك أنه عندما تسقط بلوطة وكستناءة جنباً إلى جنب فما من واحدة منهما تبقى ساكنة لكي تفسح المجال للأخرى، بل كلتاهما تنصاع لقوانينهما، فتنبتان وتنموان وتزدهران بأحسن ما تستطيعان، إلى أن يتفق لإحداهما أن تلقي بظلها على الأخرى وتدمرها. إذا لم تستطع نبتة أن تحيا بحسب طبيعتها فإنها تموت – وكذلك الإنسان.

كانت الليلة في السجن جديدة وممتعة إلى حدٍّ كبير. كان السجناء في قمصانهم يتمتعون بتجاذب أطراف الحديث وبهواء المساء في المدخل عندما دخلت. غير أن السجان قال: “هيا، يا شباب، حان وقت الإغلاق”؛ وهكذا تفرَّقوا، وسمعت صوت خطواتهم تؤوب إلى مقصوراتهم المجوفة. قدَّم السجانُ لي رفيقَ سكني بوصفه “صاحباً من الدرجة الأولى ورجلاً ذكياً”. وعندما أوصِدَ البابُ أرشدني الرجلُ إلى مكان تعليق قبعتي وكيفية تدبُّره الأمورَ هناك. كانت الحجرات تُطلى ببياض الكلس مرة كلَّ شهر؛ وهذه، على الأقل، كانت أشدها بياضاً، مؤثثة على أبسط ما يمكن، ولعلها أنظف مقصورات البلدة وأكثرها ترتيباً. كان بالطبع يريد أن يعرف من أين أتيت وماذا جاء بي إلى هناك؛ وعندما أخبرته سألته بدوري كيف جاء إلى هناك، مفترضاً أنه رجل مستقيم، بالطبع؛ وعلى مرِّ الأيام، أعتقد أنه كان كذلك. قال: “عجباً لهم يتهمونني بإحراق مخزن للتبن – وأنا لم أفعل ذلك قط.” لعل أقرب ما استطعت اكتشافه إلى الواقع، أنه، أغلب الظن، ذهب إلى فراشه في المخزن مخموراً، ودخَّن غليونه هناك؛ وهكذا احترق المخزن. لقد ذاع صيتُه كرجل ذكي، وكان ينتظر هناك منذ حوالى ثلاثة أشهر منتظراً أوان محاكمته، وربما كان عليه أن ينتظر مدة أطول بكثير؛ لكنه ألِفَ الحياة هناك ورضي بها تماماً، بما أنه يحصل على الطعام والمأوى مجاناً، ويعتقد بأنهم يُحسِنون معاملته.

خصَّ نفسه بنافذة وخصصت نفسي بالأخرى؛ وقد رأيت أنه لو قُيِّض للمرء أن يمكث هناك طويلاً لوجد أن عمله الرئيسي يقتصر على النظر من النافذة. سرعان ما قرأت كلَّ الكراريس المتروكة هناك، وعاينت المكان الذي فرَّ منه سجناء سابقون، وأين جرى نشر قضبان إحدى النوافذ، واستمعت إلى قصص عن مختلف شاغلي تلك الحجرة؛ إذ إنني وجدت أنه حتى هنا كان ثمة تاريخ وثرثرة لا تسري أبداً خارج جدران السجن. فلعل هذا هو البيت الوحيد في البلدة الذي تُقرَض فيه أبياتُ شعر، لا تلبث فيما بعد أن تُطبَع على شكل تعميم، لكنها لا تُنشَر. ولقد اطلعت على قائمة طويلة فعلاً من الأبيات التي ألَّفها بعض الشبان ممَّن ضُبِطوا في محاولة للفرار، فثأروا لأنفسهم بغنائها.

استخلصتُ من رفيقي السجين كلَّ ما استطعت، مخافة ألا أحظى برؤيته ثانية؛ لكنه أخيراً دلَّني على فراشي وتركني أطفئ المصباح.

كان مبيتُ ليلة هناك أشبه بالسفر في بلاد بعيدة، بلاد ما كنت لأتوقع أبداً أن أشاهدها. لاح لي أنني لم أسمع قط صوت ساعة البلدة تطرق من قبل، ولا أصوات المساء في القرية؛ ذلك أننا نمنا تاركين النوافذ التي كانت داخل القضبان مفتوحة. كان الأمر أشبه برؤية القرية التي شهدتْ مولدي في ضوء العصور الوسطى، فتحول نهر كونكورد فيها إلى مجرى الراين، وتتابعت رؤى الفرسان والحصون أمام ناظري. تلك كان أصوات الأهالي التي كنت أسمعها في الشوارع. كنت رغماً عني مشاهداً ومستمعاً لكل ما كان يحصل ويقال في مطبخ فندق البلدة المجاورة – وتلك كانت تجربة جديدة ونادرة تماماً لي. كانت نظرةً إلى مسقط رأسي أقرب. كنت في داخله نوعاً ما. لم أكن قد رأيت مؤسَّساته من قبل قط. وهذه واحدة من مؤسَّساته غير المألوفة؛ ذلك أنها مركز ناحية. وبدأت أفهم ما كان عليه سكانها.

في الصباح كان إفطارنا يمرَّر لنا من الفتحة في الباب، في صينيات صغيرة مستطيلة مربعة، جُعِلَتْ لتناسب الفتحة، وعليها مكيال من الشوكولاتة، مع خبز أسمر، وملعقة حديدية. وعندما نادوا علينا لاسترداد الأوعية من جديد، كنت غشيماً إلى حدِّ أني أعدت ما تركته من الخبز؛ لكن رفيقي قبض عليه على عجل وقال إنني يجب أن أستبقيه للغداء أو للعشاء. وبعيدئذٍ سُرِّح للعمل في جمع التبن في حقل مجاور، كان يذهب إليه كل يوم ولا يؤوب منه إلا ظهراً؛ لذا فقد تمنى لي يوماً طيباً، قائلاً إنه يشك أنه سيراني من جديد.

عندما خرجت من السجن – ذلك لأن أحدهم تدخل ودفع تلك الضريبة – لم ألحظ تغيرات عظيمة حصلت على العموم،، كالتي يلحظها من يدخل شاباً ثم يخرج رجلاً شابَ شعرُه وترنحت مشيتُه؛ ومع ذلك فإن تغيراً ما طرأ على المشهد في نظري – البلدة، والولاية، والإنسان – أعظم من أيِّ تغيُّر يمكن لمجرَّدِ الزمن أن يُحدِثَه. رأيت الولاية التي أعيش فيها بوضوح أكبر أيضاً. رأيت إلى أيِّ حدٍّ يمكن للناس الذين أحيا بين ظهرانيهم أن يؤتَمَنوا كجيران وأصدقاء طيبين؛ أن صداقتهم تقتصر على فصل الصيف وحسب؛ أنهم لا يبالون كثيراً بعمل الحق؛ أنهم سلالة مختلفة عني بسبب من تحاملاتهم وخرافاتهم، شأنهم شأن الصينيين والملاويين سواء بسواء؛ أنهم في تضحياتهم من أجل الإنسانية لا يخاطرون بشيء، ولا حتى بممتلكاتهم؛ أنهم في المآل ليسوا بهذا النبل، بل يعامِلون السارق كما عاملهم، ويأملون، بفضل تديُّن خارجي وبضع صلوات، وبفضل السير، من حين لآخر، على درب مستقيم معين لكنه عقيم، أن يخلِّصوا نفوسهم. قد يكون في هذا تحاملٌ في الحكم على جيراني؛ فإني أعتقد أن الكثيرين منهم لا يدرون أن لديهم في قريتهم مؤسَّسة كالسجن.

لقد جرت العادة في قريتنا سابقاً، أنه عندما يخرج مدين مسكين من السجن، يقوم معارفه لتحيته، ناظرين من خلال أصابعهم المتقاطعة بما يشبه قضبان نافذة السجن: “كيف حالك؟” غير أن جيراني لم يحيُّوني هكذا، بل نظروا إليَّ أولاً، ثم إلى بعضهم بعضاً، وكأني عدت من رحلة طويلة. لقد أودِعتُ السجن وأنا ذاهب إلى الإسكافي لاسترداد حذاء لي كان يصلحه. وعندما أخلي سبيلي في صباح اليوم التالي، مضيت لإنهاء مأموريتي، ثم، وقد احتذيت حذائي المتعافي، انضممت إلى فريق من جامعي العنَّبية كانوا يتحرقون إلى وضع أنفسهم تحت قيادتي؛ وفي غضون نصف ساعة – ذلك أن الجواد سرعان ما لُجِمَ – وجدت نفسي وسط حقل من العنَّبية، على واحد من أعلى التلال، على مسافة ميلين، وهناك توارت الولاية عن الأنظار.

تلكم هي قصة سجوني برمَّتها.

***

لم أرفض قط دفع ضريبة الطريق العام، لأني لا أقل رغبة أن أكون جاراً طيباً مني أن أكون من الرعايا السيئين؛ أما عن دعم المدارس فإني أؤدي دوري لتربية أبناء وطني الآن. ولست أرفض دفع الكشف الضريبي بسبب بند معين وارد فيه. أود ببساطة رفض البيعة للولاية، وذلك للانسحاب والوقوف منحازاً عنها بالفعل. لا أبالي باقتفاء مسار دولاري، لو استطعت، اللهم إلا عندما يشتري رجلاً أو بارودة يقتل بها رجلاً – والدولار بريء – لكني حريص على اقتفاء آثار بيعتي. والواقع أنني أعلن الحرب بهدوء على الولاية، على طريقتي، على الرغم من أني سأدأب على استعمالها والاستفادة من أية ميزة لها، كما جرت العادة في مثل هذه الحالات.

إذا دفع غيري الضريبة المطلوبة مني، تعاطفاً مع الدولة، فهم يفعلون ما سبق أن فعلوه في حالتهم، أو هم بالحري يحضُّون على الظلم إلى حدٍّ أكبر مما تتطلبه الدولة. أما إذا دفعوا الضريبة اهتماماً في غير محلِّه في الفرد المضروب، حرصاً على ممتلكاته، أو للحيلولة دون ذهابه إلى السجن، فذلك لأنهم لم يتمعَّنوا في حكمةٍ إلى أيِّ حدٍّ يَدَعون مشاعرهم الخاصة تتدخل في الخير العام.

ذلك، إذن، هو موقفي في الحاضر. لكن مهما بلغ حذر المرء في حالة كهذه فهذا لا يكفي، مخافة أن يجنح عملُه من جراء المعاندة أو الاعتبار المفرط لآراء الناس. فليحرص على أن يعمل فقط ما يخصُّه ويخصُّ الساعة.

يخطر ببالي أحياناً – عجباً كيف أن هؤلاء القوم طيبوا النوايا، لكنهم جاهلون وحسب؛ ولكانوا أحسنوا العمل لو أنهم كانوا يعرفون كيف: لماذا تكلف جيرانك مشقة معاملتك بما ليسوا ميالين إليه؟ لكني أعود فأقول: هذا ليس سبباً يجعلني أفعل كما يفعلون، أو أسمح للآخرين أن يكابدوا شقاءً أكبر بكثير، لكنْ من نوع آخر. كذلك، أقول لنفسي أحياناً: عندما يطلب ملايين الناس منك، بدون احتداد، بدون سوء نية، بدون شعور شخصي من أيِّ نوع، بضعة شلنات فقط، بدون أن يستطيعوا – فذلك هو تكوينهم – الرجوعَ عن طلبهم أو تغييره، وبدون أن تستطيع، من جانبك، التماسَ ملايين آخرين، لماذا تعرِّض نفسك لتلك القوة العجماء الجارفة؟ أنت لا تقاوم البرد والجوع، الرياح والأمواج، بهذا العناد، بل تخضع بهدوء لألف ضرورة مشابهة. أنت لا تزج برأسك في النار. ولكن كما أنني نسبياً لا أعتبر هذه القوة قوة عجماء تماماً، بل قوة بشرية جزئياً، وأعتبر أن العلاقات التي تربطني بأولئك الملايين هي علاقات بعدد مماثل من البشر، وليست بأشياء عجماء أو جامدة، أرى أن هذا الالتماس ممكن، أولاً وآنياً، منهم إلى باريهم، وثانياً، منهم إليهم. لكني إذا وضعت رأسي في النار عامداً فلا التماس ممكناً للنار أو لباري النار، ولا أنحو باللائمة إلا على نفسي. فإذا استطعت أن أقنع نفسي بأن لي حقاً ما بأن أرضى بالبشر كما هم، وبأن أعاملهم على هذا الأساس، وليس، من بعض الوجوه، على أساس متطلباتي وتوقعاتي لما يجب أن يكونوا وأكون إياه، إذ ذاك فإني، كالمسلم والجبري الطيب، لا بدَّ أن أسعى إلى الرضى بالأشياء على حالها، وأقول بأنها مشيئة الله. وفوق ذلك كله، هناك هذا الفارق بين مقاومة هذا ومقاومة قوة محض عجماء أو طبيعية، المتمثل في أنني أستطيع أن أقاومه بشيء من الفعالية؛ إنما لا يمكنني أن أتوقع، مثل أورفيوس، تغيير طبيعة الصخور والأشجار والبهائم.

لا أود أن أتخاصم مع أيِّ رجل أو أمَّة. لا أود أن أماحك في الكلام، أن أقيم تمييزات دقيقة، أو أضع نفسي في منزلة أحسن من منزلة جيراني. أفتش بالحري، إذا جاز لي القول، عن عذر حتى للانصياع لقوانين البلاد. لا بل إني أكثر من متأهب للانصياع لها. أجل، عندي ما يبرر لي الشك في نفسي في هذا الصدد؛ وكل عام، عندما يزورني جابي الضرائب، أجدني مستعداً لاستعراض أعمال ومواقف الحكومتين، الحكومة العامة وحكومة الولاية، وروح الناس، حتى أكتشف عذراً للامتثال.

علينا أن نحنَّ على وطننا كما نحنَّ على والدينا،

وإذا اتفق لنا ذات مرة أن نربأ

بحبنا أو بجهدنا أن يكرِّمه،

يجب أن نتحمل النتائج ونعلِّم النفس

أمور الضمير والدين،

وليس الرغبة في الحكم أو المنفعة.

أعتقد أن الولاية سرعان ما ستتمكن من انتزاع عملي النوعي هذا كلَّه من بين يدي، وعندئذٍ لن أكون وطنياً أحسن من أبناء وطني. الدستور، منظوراً إليه من وجهة نظر أدنى، مع مثالبه كلِّها، جيد جداً؛ القانون والمحاكم محترمة جداً؛ وحتى هذه الولاية وهذه الحكومة الأمريكية، من وجوه عديدة، تستحقان الإعجاب، وهما شيئان نادران يستوجبان الامتنان، كما وصفهما عدد كبير من الناس؛ أما منظوراً إليهما من وجهة نظر أعلى قليلاً، فهما على ما وصفتُهما؛ ومن وجهة نظر أعلى، ومن وجهة النظر العليا، مَن ذا يستطيع القول ما هما، أو فيما إذا كانتا تستحقان النظر إليهما أو التفكير فيهما أصلاً؟

غير أن الحكومة لا تهمني كثيراً، ولسوف أخصص لها أقل ما يمكن من الخواطر. فاللحظات التي أحيا فيها تحت لواء حكومة ليست كثيرة، حتى في هذا العالم. فإذا كان المرء حرَّ الفكر، حرَّ المخيِّلة، حرَّ التصور، أي ما لا يبدو أنه ملك له طويلاً قط، فإن الحكَّام أو المصلحين غير الحكماء لا يستطيعون حتماً أن يمنعوه.

أعرف أن غالبية القوم تفكر على غير ما أفكر؛ لكنْ حسبي أولئك الذين حيواتهم منذورة مهنةً لدراسة هذا الموضوعات أو موضوعات أخرى نسيبة مهما قلَّ عددهم. أما رجال الدولة والمشرِّعون الواقفون بكليتهم ضمن المؤسَّسة، فلا يميزون أنفسهم عنها ولا ينظرون إليها على حقيقتها. يتكلمون على تحريك المجتمع، لكنْ ليس لهم مستقر بدونها. قد يكونون رجالاً لديهم شيء من الخبرة والتمييز، ولا ريب في أنهم اخترعوا نظماً مبتكَرة وحتى مفيدة، الأمر الذي نشكرهم عليه خالص الشكر؛ لكن فطنتهم وفائدتهم تكمن ضمن حدودٍ معينة ليست واسعة جداً؛ فدأبهم أن يتناسوا أن العالم غير محكوم بالسياسة وبالذرائع. إن [رجل القانون] وبستر لا يتخلف أبداً عن الحكومة، وبالتالي لا يستطيع أن يتكلم عليها كلام ذي سلطان. كلماتُه حكمةٌ بنظر أولئك المشرِّعين الذي لا يتطلَّعون إلى أيِّ إصلاح في الحكومة الراهنة؛ أما المفكرون، وأولئك الذين يشرِّعون لكلِّ الأزمنة، فإنه لا يكلف خاطره إلقاءَ نظرة واحدة على الموضوع. أعرف أناساً من شأن تفكُّرهم الرصين الحكيم في هذه المسألة أن يكشف سريعاً حدود مداه الذهني وأريحيته. ومع ذلك فإنه، بالمقارنة مع المزاعم الرخيصة لغالبية المصلحين، ومع الحكمة والبلاغة الأرخص أيضاً للسياسيين إجمالاً، فإن كلماته تكاد تكون الكلمات الوحيدة الحساسة والقيَّمة، ونحن نشكر السماء على وجوده. إنه، بالمقارنة، قوي دوماً، أصيل، وفوق كلِّ شيء، عملي. ومع ذلك فإن صفته ليست الحكمة بل الحيطة. إن حقيقة المحامي ليست الحقيقة، بل التماسك أو الذريعة المتماسكة. فالحقيقة متناغمة دوماً مع نفسها، ولا يهمها في المقام الأول الكشف عن العدل الذي يتوافق مع ذلك بارتكاب الشر. إنه يستحق بحق أن يدعى، كما دُعِيَ فعلاً، المدافع عن الدستور. فلا ضربات ثمة يضربها، بل ضربات دفاعية. إنه ليس قائداً، بل تابع. قادتُه هم رجال 1787 [من واضعي الدستور]. يقول: “لم أبذل جهداً قط، ولا أقترح بذل جهد؛ لم أستحسن جهداً، ولا أنوي استحسان أيِّ جهد، من شأنه أن يخلخل الترتيب كما وُضِعَ أصلاً، الذي انضمت وفقاً له الولايات المختلفة إلى الاتحاد.” ومفكراً كذلك في التأييد الذي يقدمه الدستور للرقِّ يقول: “بما أنه كان جزءاً من العهد الأصلي – فليبقَ.” وعلى الرغم من حدة ذهنه وقدرته الخاصين فإنه لا يقدر أن يستخلص واقعة من علائقها السياسية المجردة وينظر إليها كما لو أنها مطروحة فقط لكي يُعمِل العقلُ فيها النظرَ – ماذا، على سبيل المثال، ينفع المرء أن يفعل هنا في أمريكا اليوم فيما يخص الرق – بل يخاطر أو ينقاد إلى تقديم إجابات مثل الإجابة اليائسة التالية، بينما يتظاهر بالكلام مطلقاً، وكرجل فرد – فأي قانون للواجبات الاجتماعية جديد وفريد يمكن أن يُستنبَط منها؟ يقول: “إن الوسيلة التي ينبغي على حكومات تلك الولايات التي يوجد فيها الرقُّ أن تضبطه بها تعود إلى تقديرها هي، تحت طائلة مسؤوليتها حيال ناخبيها، حيال القوانين العامة للملكية، والإنسانية، والعدالة، وحيال الله. أما الجمعيات التي تشكلت في أماكن أخرى، نابعةً من شعور إنساني، أو من أي سبب آخر، فلا تمت بصلة من أيِّ نوع إلى تلك الوسيلة. لم يسبق لها أن تلقَّتْ أيِّ تشجيع مني، ولن تتلقَّى.”

لم يظهر رجل عبقري في التشريع في أمريكا. فهم نادرون في تاريخ العالم. هناك خطباء، سياسيون، ورجال بليغون، بالآلاف؛ لكنْ ما من خطيب فتح فاه متكلماً حتى الآن بقادر على تسوية المشكلات الراهنة الشديدة الإقلاق للراحة. إننا نحب البلاغة من أجل ذاتها، وليس من أجل حقيقة ما قد تنطق بها، أو أية بطولة قد تُلهمُها. لم يتعلَّم مشرِّعونا بعدُ القيمة النسبية للتجارة الحرة والحرية، للاتحاد، وللاستقامة، بالنسبة للأمة. ليست لديهم عبقريةٌ أو موهبةٌ للمسائل المتواضعة نسبياً لفرض الضرائب والتمويل، للتجارة والصناعة والزراعة. ولو تُرِكنا ترشدُنا فطنةُ المشرِّعين المطنبين في الكلام في الكونغرس وحدها، لا تقوِّمها الخبرة التي تأتي في أوانها والشكاوى الفعلية للناس، لما استطاعت أمريكا أن تحافظ طويلاً على منزلتها بين الأمم. منذ ألف وثمانمائة سنة، مع أني ربما لا يحق لي أن أقول ذلك، كُتِبَ العهد الجديد؛ ومع ذلك، أين هو المشرِّع الذي يملك ما يكفي من الحكمة والموهبة العملية لكي ينتفع بالنور الذي يلقيه على العلم أو على التشريع؟

إن سلطة الحكومة، حتى إذا كانت من النوع الذي أنا مستعد للخضوع له – إذ إنني سوف أطيع مبتهجاً أولئك الذين يعلَمون ويمكنوا أن يعملوا أحسن مني، وفي أشياء كثيرة حتى الذين ليسوا يعلَمون وليس بمقدورهم أن يعملوا خيراً مما أعمل – مازالت سلطةً غير طاهرة: فحتى تكون عادلة بالدقة، يجب أن تحوز على إذْنِ المحكومين وموافقتهم. ليس لها أيُّ حقٍّ محضٍ على شخصي أو ملكي إلا ما أنزل لها عنه. إن التقدم من المَلَكية المطلقة إلى المَلَكية المحدودة، ومن هذه إلى الديمقراطية، هو تقدم نحو احترام حقيقي للفرد. وحتى الفيلسوف الصيني كان من الحكمة بحيث اعتبر الفرد أساس الإمبراطورية. فهل الديمقراطية، كالتي نعرفها، آخرُ تحسين ممكن في الحكم؟ أليس من الممكن أن نخطو خطوة إلى الأمام نحو الاعتراف بحقوق الإنسان ونحو تنظيمها؟ لن تكون ثمة دولة حرة ومتنوِّرة حتى تؤول الدولةُ إلى الاعتراف بالفرد كسلطان أعلى مستقل، تُستَمَدُّ منه قدرتُها وسلطانُها، فتعاملَه على هذا الأساس. يلذ لي أن أتخيل دولةً على الأقل تطيق أن تكون عادلة مع البشر قاطبة، وتعامل الفرد باحترام كأنه جار؛ دولة لا تجد حتى أنه من لا يتناقض مع راحة بالها أن يتفق لثلة منهم أن يحيوا بمنأى عنها، لا يخالطونها، ولا تضمُّهم، وقد قاموا بواجباتهم كجيران وكرفاق بشر على التمام. إن دولةً جادت بمثل هذه الثمرة، وتمنَّت عليها أن تسقط حال نضجها، من شأنها أن تعبِّد الطريق لدولة أكمل منها وأمجد – دول تخيَّلتُها هي الأخرى، لكني لم أرها بعدُ في أيِّ مكان.

http://maaber.org/eleventh_issue/nonviolence1a.htm

http://maaber.org/tenth_issue/non_violence_2a.htm