اللاعنف في الإسلام

خالص جلبي

في العام 1997، دُعيتُ إلى عمان للمشاركة في ندوات فكرية نظَّمتْها “مؤسسة سجى للإنتاج الفني”، واجتمعتُ هناك بطائفة كبيرة من المفكرين المرموقين الذين يُعتبَرون من قمم الفكر الإسلامي – وكنا، الأستاذ جودت سعيد وأنا، نمثل مبدأ اللاعنف في ذلك المؤتمر. يومذاك اجتمعت بثلاثة أشخاص أراهم للمرة الأولى. قالوا لي:

– “أأنت الذي يقول بعدم الدفاع عن النفس وبعدم استخدام القوة في تغيير الأوضاع؟!” قلت:

– “نعم!” – وكانت أحداث سپتمبر لم تقع بعد.

بدأ أوسطهم بالحديث – وقد صار لاحقًا مقدِّم برامج في قناة “الجزيرة” – وضحك مني حتى انقلب على ظهره من سذاجتي وقلة خبرتي وعدم فهمي للنصوص القرآنية – والرجل انتقل إلى رحمة ربِّه الآن وأصبح “في مقعَد صِدْقٍ عند مليكٍ مقتدر” (القمر 55).

أصغيت في حذر إلى كلام الثلاثة مدة 25 دقيقة من دون تعليق، حتى إذا فرغوا قلت لهم:

– “لا جديد عندكم! وفي إمكاني أن أعطيكم أسلحة جديدة من الأفكار تتسلحون بها. ولكن لماذا أسهِّل عليكم مهمتكم، والأفكار التي ذكرتموها معروفة كلها ومردود عليها؟” قال الأول من جديد:

– “أنت تقول باللاعنف، والتاريخ كله دم! فهل هناك شاهد واحد على تغيير اجتماعي من دون دم؟!” قلت له:

– “إن أعظم ثورة اجتماعية في التاريخ على الإطلاق لم تكن الثورة البلشفية ولا الفرنسية – وهما ليستا بالنموذجين المشرِّفين! – ولا حتى الإيرانية، التي بدأت باللاعنف وخُتِمَتْ بيد الخلخالي المجرم وأضرابه في حملات الإعدام التي لم تتوقف، بل ثورة محمد (ص) التي حدثت وتمت ونجحت بخسارة شهيد واحد – وكانت امرأة هي سُميَّة التي لم تدافع عن نفسها! فهل هناك أسلوب “اقتصادي” أفضل من هذا للنجاح الاجتماعي؟!”

عند هذه النقطة قفز ثلاثتهم وقالوا:

– “فماذا عن الغزوات والسرايا والفتوحات؟!”

عند هذه النقطة نبقى في ضباب أشد من عسير ولندن! قلت:

– “محمد (ص) أقام دولة وبنى مجتمعًا باللاعنف.” وهنا قالوا:

– “المسيح لم يستخدم قوة مسلحة، ومحمد (ص) استخدمها!” فأجبت:

– “الالتباس يحصل بين مرحلتَي الدعوة والدولة. الدولة هي التي تمارس العنف منذ أن اخترع البشر الدولة وصنعوها، لسبب بسيط هو أن الدولة، باحتكارها العنف، توفر الأمن للأفراد لكي يتمكنوا من إقامة الحضارة. فلولا الأمن ما نشأت الوحدات الحضارية. والرسول محمد (ص) يختلف عن المسيح – عليه السلام – في أن الثاني لم يكمل عمله، والأول أكمله. وكان المسيح يلوِّح أحيانًا باستخدام القوة. فقد جاء في الإنجيل: “لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض: ما جئت لأحمل سلامًا بل سيف” (متى 10: 34). وفي المقابل، كان الرسول (ص) يوصي أتباعه في المرحلة المكية بعدم الدفاع عن النفس، ونزل القرآن يقول: “كفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة” (النساء 77). وكان النبي (ص) يكرر لأتباعه: “لم نؤمَر بقتال.” و”السيف” في الإنجيل إشارة إلى ما فعله محمد (ص) بعد إقامة الدولة، في ممارسة العنف بعد احتكار القوة، التي هي وظيفة كلِّ دولة، ولا يمكن أن تقوم دولةٌ من دونها عمليًّا حتى اليوم.”

فالدولة، كنظام سياسيٍّ، لها “وظيفة” أولى هي توفير الأمن داخلها للأفراد باستخدام العنف كلما اضطرت إلى ذلك. يظهر هذا واضحًا في منظر رجل الشرطة، والمسدس يتدلَّى من خصره، حينما يُستدعى للفصل في حادث سيارة في أيِّ مكان من العالم – اليابان أو ماليزيا، أمريكا أو كندا. ولا أظن أن “مديرية السكن” Régie du logement – المؤسسة الكندية للفصل بين مالك البيت والمستأجر – تتوانى عن استخدام الشرطة فيما لو حكمت القاضيةُ بخروج المستأجر وعودة البيت إلى مالكه الأساسي في حال رَفَضَ المستأجرُ الخروجَ من المنزل. فداخل أية دولة في العالم تمارس الدولةُ، إذا لزم الأمر، القوةَ المسلحة لتطبيق القوانين داخلها وللدفاع عن نفسها عند الهجوم عليها من الخارج في الحروب – وهذا له حديث آخر لاحقًا؛ بينما حديثنا يدور حول موضوع كيفية صناعة المجتمع: هل ينشأ المجتمع بالقوة العسكرية أم سلميًّا؟ وما أهمية ذلك؟ ولماذا حرص الأنبياءُ جميعًا على سلوك الطريقة نفسها؟: “ولقد جاءك من نبأ المرسَلين” (الأنعام 34). وهل يُزال الطاغوتُ بطاغوت القوة، أم يُزال الطاغوتُ بالشرعية؟!

هذا ما فعله محمد (ص) وما كان يحاول المسيح – عليه السلام – وغيره من الأنبياء فعله من أجل إزالة الطاغوت بالشرعية – سلميًّا. ولم يكمل المسيح عمله، وأكمل محمد (ص) عمله؛ مما جعل اليهود في المدينة، حين سمعوا الآية: “اليوم أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ دينًا” (المائدة 3)، يقولون: “لو نزلت هذه الآيةُ علينا لجعلنا يومها عيدًا!” وهو الذي جعل الفلكيَّ الأمريكي مايكل هاردت، في كتابه المئة الأوائل، يضع محمدًا (ص) في طليعة هؤلاء “المئة” – وهو المؤلِّف الذي سرق كاتبٌ عربي كتابَه ونَسَبَه لنفسه! – ويعتبره ناجحًا نجاحًا باهرًا مئة بالمئة: ليس مثل انتخابات أصنام العالم العربي، من نماذج صدام الوحش أو انتخابات حزب البعث. فاستحق محمد (ص) بذلك أن يكون أفضل الرجال في التاريخ.

من جلستي تلك، أتذكر الرجل الثاني أيضًا – وكان مفكرًا إسلاميًّا فلسطينيًّا – الذي كان يصر على أسنانه حنقًا وغيظًا. وفي النقاشات التي دارت في لقاءات مؤتمر “سجى” صرخ مرة: “لا تسمعوا من جلبي! فهو يستند إلى آية من القرآن، ونبيُّه رجلٌ من الهند اسمه غاندي!” فقام رجل وردَّ عليه قائلاً: “إن جلبي يدعو إلى حقن الدماء وفلان يدعو إلى سفك الدماء!” – مما جعل قياديًّا إسلاميًّا معروفًا في الأردن يقفز ويتناول الميكروفون بسرعة ويقول: “يجب أن أدافع عن الرجل قبل أن يوضع اسمُه في المطارات!” ومن أعجب ما مرَّ بي، إذ كنت أتصفح يومًا جريدة الحياة، أن الرجل نفسه بات يكتب في اللاعنف! – ما يدل على أن ما يغير عقلية الناس هو ضغط الأحداث أكثر من القناعات الفكرية.

يُنقَل عن ماكس پلانك، الذي كان أول مَن طوَّر الميكانيكا الكوانتية في العام 1900، قولُه إن العالم لم يعترف بأفكاره الجديدة في الفيزياء ويسلِّم بها، فيخصه بجائزة نوبل في العام 1918، حتى مات معاصروه. وهو عينه معنى الذي كان يقوله محمد (ص) من أنه يطمع أن “يُخرِج الله من ذراري المشركين مَن يعبد الله ولا يُشرِك به شيئًا”. وحينما يتحدث صاحبنا الفلسطيني عن اللاعنف فهو قد تقدم في مسارين: المسار الفلسطيني، من جهة، وتغيُّر عقلية أشد الناس صرامة في وجه تيار اللاعنف الذي هو رحمة للعالمين، من جهة أخرى.

بقي الرجل الثالث في الجلسة، وهو الأخ الفاضل الوسيم العاقل جمال الخاشقجي، رئيس تحرير جريدة الوطن السعودية السابق، الذي قال لِمَن حوله: “يا جماعة، انتبهوا إلى هذه الأفكار! فأنا في جعبتي خبرة واسعة من العمل الإسلامي في أفغانستان.” – وهو كلام جدير بالتأمل! وقد استفاد الرجل مما تكلمت، وأكرمني لاحقًا بأن ضمَّني إلى باقة الكتَّاب عنده في الجريدة، فكتبت فيها 441 عامودًا، حتى طُيِّر هو من الجريدة، وبطيرانه طرت أنا لاحقًا – وذلك كله بسبب الفكر السلامي العقلاني المنفتح. لقد دفع الرجل ثمن أفكاره!

كذلك يوم اجتمعت في بيروت برجل مرموق من قيادات العمل الإسلامي، انشقَّ وأنشأ لنفسه تيارًا خاصًّا في السعودية عُرِفَ باسمه، ونشر كتابًا بعنوان وجاء دور المجوس، هاجم فيه الثورة الإيرانية باسم مستعار ونعت الإيرانيين بـ”المجوس”! كان برفقته يومذاك رجل مهمٌّ من الأدمغة الإسلامية الحزبية، فذكرا نظرية جودت سعيد في اللاعنف الإسلامي التي أعلنها منذ العام 1964 في كتابه مذهب ابن آدم الأول، مستندًا فيه إلى آيات سورة المائدة عن قصة ولدَي آدم (الآية 27 وما بعدها) – وهي قصة ملفتة للنظر بقدر هامشيتها وغموضها في الثقافة الإسلامية. أتذكر من السيد صاحب كتاب وجاء دور المجوس قوله: “إن جودت سعيد مخلص ولكنه غير واعٍ!” وهو، مع زميله، اعتبرا نفسيهما “واعيين جيدًا”، بينما جودت سعيد “ساذج مغفَّل” لأنه يدعو إلى السلم!

ولا أظن أن شيئًا قد تغير منذ أربعين سنة حتى الآن في موقف جودت سعيد؛ كذلك الرجلان اللذان ذكرتُ لم يتغيرا. لكن الذي تغير هو أن مرض العنف ارتطم بالبرجين في نيويورك، فلم يعد محليًّا عربيًّا، بل أضحى متفجراتٍ على مدار العالم، ومصائب كوكبية، وحروب تندلع، وقوى أجنبية تتدفق إلى أفغانستان والعراق، والمنطقة تتعرض لرياح تغيير عاصفة قاصفة! فمَن لم يغيِّر ما بنفسه أرسل الله إليه ما يدفعه إلى التغيير؛ ومَن يغفل عن سُنَن الله فإن سُنَن الله لا تغفل عنه: “كان ذلك في الكتاب مسطورًا” (الإسراء 58).

وهذه الإشكالية واجهتْني أيضًا في مؤتمر فرجينيا في أمريكا في العام 1993، حين دُعيتُ إلى المشاركة في مؤتمر “التعددية” الذي نظَّمه “المعهد العالمي للفكر الإسلامي”، – ولم يكن أحد قد توقَّع بعدُ أحداث 11 سپتمبر، – فنبهتُ العيون إلى مخاطر العنف. كان في المؤتمر رجال فكر مرموقون من الاتجاهين الإسلامي وغير الإسلامي؛ وكان جواب رئيس المعهد يومئذٍ: “إن عندنا من المشاكل كفاية ولا نريد زيادة!” – ولا أدري إن كان يتذكر كلماتي الآن. وممَّن اجتمعت بهم رجل فاضل، معتقَل حاليًّا في أمريكا. وأظن أن معظم جماعة “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” غادر أمريكا بعد المضايقات الشديدة التي تعرضوا لها. وقام يومذاك حافظ الميرازي، الذي يلمع حاليًّا في قناة “الجزيرة”، فاستضافني في قناته الأمريكية – وأظن أن اسمها كان ANN – مع المذكور. كان سؤاله عن كيفية فهمي لقضية سلمان رشدي وآياته الشيطانية، فكان جوابي بوجوب وضعها ضمن إطار اللاعنف الذي أنادي به، أو ما أسمِّيه بشعار “العلم والسلم”.

ومما أذكر من الستينات، ونحن نقرأ كتاب معالم في الطريق لسيد قطب، أننا دخلنا في نقاش ضارٍ حول قتال الدولة الكافرة – ومنها نظام البعث في سوريا، ونظام عبد الناصر في مصر – حتى جاء اثنان من السوريين كانا يدرسان الطب في مصر، فرويا لنا الاستعدادات العسكرية لمواجهة النظام الناصري في مصر؛ وقد أكدتْ لي هذا الكلام زينب الغزالي حينما زرتُها في مصر. وتأكد لي من قراءة كتاب المعالم أن الأمر جِدٌّ وليس هزلاً! فسيد قطب كان يرى أن الفكر يواجَه بالفكر؛ ولكن النظام “الكافر” (ومنه النظام الناصري، بحسب وجهة نظره) يستخدم الفكر والقوة المادية لصرف الناس عن الحق. لذا كان من العقل والحكمة استخدامُ مواجَهةٍ مزدوجة: مواجهة المنافقين بالموعظة، ومواجهة الكافرين بالفكر والصدمة المادية، وكذلك الإعداد المسلح لحين شعور التنظيم بالقدرة على قلب نظام الحكم بالقوة المسلحة. وقد أطلق على هذا التنظيم اسم “القاعدة الصلبة الواعية”، كما يرد الاسم حاليًّا، الذي نقله أيمن الظواهري، على ما يبدو، من مصر إلى أفغانستان. أذكِّر بهذه الأحداث من أجل الدخول إلى موضوع حساس وغامض للغاية في إطار الثقافة الإسلامية.

في الغرب، نشأت مؤسَّسات لاعنفية عريقة. وحاليًّا هناك مَن يضع قواميس كاملة لهذا الحقل المعرفي، بعدما نما كاتجاه و”كوكب” كامل بإحداثيات مغايرة. فالفرق بين اللاعنف والعنف كالفرق بين الأرض والمريخ: فالغازات في كلٍّ من الكوكبين مختلفة، والضغط فيهما متباين، وجو المريخ “برَّاد” حرارته 60 درجة تحت الصفر، والأرض فيها حقول مغناطيسية تسمح بوجود الحياة وتحفظها، بينما المريخ كوكب ميت. بالمثل، ثقافة العنف موتٌ وقتل، وثقافة اللاعنف حياةٌ وسلام ووئام وحب. فكأن الاثنتين آدم والشيطان: فثقافة السلام روحٌ وريحان وجنةُ نعيم، وثقافة العنف “من مارجٍ من نارٍ، فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبان؟” (الرحمن 15-16)

وفي هذا الجزء من المقال سوف أحاول استعراض أهم الأفكار المتعلقة بهذا المذهب القائل: “ولا تقولوا لِمَن ألقى إليكُمُ السلامَ لستَ مؤمنًا” (النساء 94). إن استعدادنا لوضع يدنا في يد مَن يؤمن بالسلام، ولو لم يستقبل الكعبة يومًا، وأخذَنا بعدم وضعها في يد مَن يؤمن بالقتل، ولو حجَّ كلَّ سنة وقام الليل وصام الدهر، نابعان من أن الثاني سوف يضحِّي غدًا بنا – فلا أمان معه ومنه! – بينما مَن يؤمن بالسلام فلا خوف منه، ولن يؤذي أحدًا، مهما اعتقد وأيًّا كان ما يدين به – وهي فكرة مزلزِلة للأصوليين، ولكنها مذهب السلاميين: وهذا هو الإسلام صدقًا وعدلاً.

إن أول تساؤل وجَّهتْه الملائكةُ لحظة خلق الإنسان عن جدوى وجود هذا الكائن “القاتل” هو: “أتجعل فيها مَن يُفسِد فيها ويسفك الدماء؟” (البقرة 30) فلم تسأل: “أتجعل فيها مَن يكفر بك”، بل سألت: “أتجعل فيها مَن يقتل” – وهذا يعني أن مسألة العنف واللاعنف مسألة وجودية.

أول قضية جريمة قتل حدثت على الأرض، على ما جاء في القرآن، وقعت بين ولدَي آدم، حيث قال الأول: “لأقتلنَّك” (المائدة 27)، بينما قال الثاني: “لئن بسطتَ إليَّ يدَكَ لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليكَ لأقتلكَ إني أخاف الله ربَّ العالمين” (الآية 28). ومن هذه القصة تتولد تلقائيًّا طريقتان لحلِّ المشكلات: طريقة مَن يهدد ويقتل، وطريقة مَن لا يهدد، ولا يخاف التهديد، ولا يمد يدَه بالقتل، ولا يدافع عن نفسه أمام القتل؛ أي أن هناك مذهبين في العالم: الدموي والسلامي.

وهذا يعني أن مسألة العنف واللاعنف هي مسألة التاريخ. “الحرب أبو التاريخ”، بحسب هيراقليطس؛ ومَن يطالع التاريخ على امتداد أكثر من ثلاثة آلاف سنة، منذ عُرِفَت الكتابة في صحف إبراهيم وموسى، يصل إلى رقم إحصائيٍّ مخيف مفاده أن كل 13 سنة من التاريخ سادت فيها الحربُ تُقابلها سنةٌ واحدة من السلام، كما اكتشف غاستون بوتول الذي درس ظاهرة الحرب. فهل هذا قَدَر إنساني أم هي ثقافة؟

وبحسب تحليل الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، فإن انتقال الإنسان من الغابة إلى الدولة كان خيارًا ذا اتجاه واحد: من الفوضى إلى الطغيان – وهو خيار بين أمرين أحلاهما مر؛ إذ لم يكن السلام ممكنًا بين الناس في الغابة، كما لم يستتب السلام بين الدول حتى اليوم. وبحسب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، فإن “المجتمع” للإنسان يشكِّل ضرورة لسببين: الغذاء والدفاع. وهو يقول عن الغذاء إن رغيف الخبز يحتاج إلى صناعات لانهائية على شكل شبكة من التخصصات؛ وهذا غير ممكن من دون وجود “العمران”، أي المجتمع الإنساني. لولا مجتمع المدينة لما تشكلتْ الحضارة: فالحضارة ظاهرة نشأت “تحت السقوف”. وهذا قاده إلى فهم ضرورة وجود المجتمع؛ إذ من دون وجود المجتمع لم يوجد الإنسان. ولا “ينطق” الإنسان إلا بوجوده مع بشر أمثاله.

وبحسب المفكر الجزائري مالك بن نبي، فإن المجتمع للإنسان يعني نقل الإنسان عِبْر معادلتين، بيولوجية وثقافية: الأولى تعني الفرد، والثانية تعني الشخص المتكيف اجتماعيًّا. والدراسات الأنثروپولوجية أكدت على أن المجتمع للإنسان يعني نقلتَه من البهيمية إلى جعله بشرًّا سويًّا. فالطفل الذي يولد في الغابة ويحافظ على وجوده لا يزيد عن ذئب، بل هو “أضل سبيلاً” (الفرقان 44)، يقف على رتبة حيوانية أدنى من الحيوان. أكد هذا پيتر فارب في كتابه بنو الإنسان بناءً على تجربة الطبيب الفرنسي إيتار على صبي أفيرون المتوحش الذي أخرج قصتَه إلى السينما المخرجُ الفرنسي فرانسوا تروفو.

ولكن مشكلة خروج الإنسان من الغابة ودخوله المجتمع جعلتْه مثل الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة، فخرج من فوضى الغابة ليقع في قبضة طغيان الدولة – كمن “هرب من الدلف إلى تحت المزراب”، على حدِّ قول المثل السوري. ولم يكن من هذا بدٌّ، كما ذكرنا ذلك خلال الأفكار السابقة. لقد كانت الدولة ومجتمع المدينة ميزةً رائعة من جانب، ومصيدةً وورطة كبرى من جانب آخر.

وصراع الأفراد غير الحروب: فالحروب هي ظاهرة صراع الدول أو تفككها، كما رأينا في يوغسلافيا ولبنان، بينما يرجع صراع الأفراد إلى تركيب الدماغ. فدماغ أحدنا مركَّب من ثلاثة طوابق: أعلاه الدماغ الحديث، وعمره نصف مليون سنة؛ أما الدماغان السفلي والمتوسط – وهما مسئولان عن المراكز الحيوية والعواطف – فعمرهما أكثر من مئة مليون سنة، وبينهما قدر من التفاهم والوئام. وبذلك فإن دماغ أحدنا هو في الواقع ثلاثة أدمغة وليس واحدًا، تتعامل بثلاث لغات ومن دون ترجمان! والانسجام موجود بين الدماغين السفلي والمتوسط منذ مئة مليون سنة، خلافًا للدماغ الجديد، المتشكل منذ نصف مليون سنة فقط وغير المنسجم والمتفاهم مع الدماغين الآخرين.

يعني هذا أن العدوانية مغروسة في البيولوجيا لسبب حيوي. فالغضب والانفعال آليتان للحفاظ على الحياة: فلولا الغضب ما عاش الإنسان واستمر. ولكن مكمن المشكلة، كما جاء في كتاب الذكاء العاطفي لدانيال غولِمان، أن العواطف، بما فيها الغضب، تكون تحت سيطرة الدماغ العلوي، الأحدث والأكثر تطورًا والذي يميِّز الإنسان عن البهيمة – وهو أمر تربوي. وهذا الوعي الخاص “كسبي”، كما يقول محمد إقبال في كتابه تجديد التفكير الديني. فالإنسان يولد من بطن أمِّه لا يعلم شيئًا، ثم يبدأ العقل السُنَني في التكون؛ وهذا يحتاج إلى تأسيس كلَّ مرة. ومَن ينظر في كيفية افتراس الحيوانات بعضها بعضًا يدرك أثر هذا في سلوك البشر، الذين هم ثلثان من تمساح وسَبُع ضارٍ، فوقهما ثلثٌ من كائن عاقل يحاول ترويض الوحشين!

وبحسب كتاب الذكاء العاطفي، فإن الدماغ المتوسط – موضع العواطف – مهم جدًّا للسلوك؛ ومركزه في “لوزات” amygdala الفص الصدغي، ولكنه مرتبط بالدماغ العلوي. وعدم انسجام هذا المركز العاطفي مع قشرة الدماغ العليا هو الذي يقود إلى الانفجارات العاطفية وكوارث الانفعال ويفسر، بالتالي، الجانب “اللاعقلاني” في الإنسان.

وكما وُجِدَ الصراعُ وعدمُ الانسجام في البيولوجيا، فهو في علم الاجتماع أشد: فالفرد، حينما خرج من الغابة ودخل الدولة، لم يعد في مقدوره حلُّ نزاعاته مع الآخرين عن طريق القوة، على الرغم من كلِّ زخم اندفاع القوة الحيوانية من التمساح والسبع، بسبب أن الدولة تحتكر القوة، فتحكم بين الأفراد فيما كانوا فيه مختلفين.

ولكن، كما يقول عالم الاجتماع العراقي الوردي، فإن هذا الحلَّ لم يوجد بين الدول. فالدولة – إنْ وُجِدَتْ – تملك سلطة كبح الأفراد، ولكن لا توجد دولة عليا تملك هذه الصلاحية على الدول على الصعيد العالمي. وهنا، عند هذه النقطة بالذات، تنشب الحروب والصراعات بين الدول. فالدولة، بوظيفتها الأساسية في توفير الأمن للأفراد، تجعل الحياة محتمَلة؛ وعند أيِّ نزاع ينشب بين الأفراد تتدخل الدولة، ولو بالقوة المسلحة العارية، فتفضه. ولكن لا توجد مثل هذه القوة بين الدول، بما أدى إلى استمرار الحرب بينها حتى اليوم. وأية مراقبة للصراع البشري في ظاهرة الحرب تتبين هذه الظاهرة في وضوح.

و”هيئة الأمم المتحدة” وما شابهها محاولات متواضعة لإنشاء مثل هذه القوة العالمية التي تفض النزاعات بين دول المعمورة؛ ولكن لم يتحقق هذا حتى الآن. وأعظم مرض أصيبت به البشريةُ هو ولادة “مجلس الأمن” المشئوم الذي أعاق ولادة العدل حتى اليوم! وعسى أن تكون “الوحدة الأوربية” نواةً لمثل هذا المشروع التاريخي. لقد كان بإمكان أمريكا أن تقوم بهذا الدور، ولكنها، للأسف، باتت قوة استعمارية تبغي الربح والهيمنة، وليس عندها روح العدالة والرسالة الإنسانية؛ ولهذا فهي مكروهة من معظم أهل الأرض – وهو قَدَر كلِّ قوة استعمارية تستهدف الهيمنة على امتداد التاريخ.

مع سيطرة الدولة على الأفراد لحلِّ النزاعات داخل مربع الدولة الواحدة، نشأ تلقائيًّا مرضان خطيران: الحرب مع الدول المجاورة، والطغيان الداخلي. ومن أجل معالجة هذين المرضين بُعِثَ الأنبياء: التحرر من الطغيان الداخلي، ونشر السلام بين الأنام. وبهذه الطريقة نفهم معنى مجيء الأنبياء في التاريخ وطريقتهم في التغيير السياسي القائم على فهم عميق للإنسان: إن أفضل ما يؤخذ من الإنسان هو بالإقناع والإيمان، وليس بالكراهية والإكراه.

وإذا كانت هذه رسالة الأنبياء جميعًا، فكيف نفهم نصوصًا من القرآن تحضُّ على القتل، كما جاء في سورة الفتح (الآية 16) عن الأعراب: “قل للمخلَّفين من الأعراب ستُدعَوْن إلى قوم أُولِي بأسٍ شديدٍ تقاتلونهم أو يُسلِمون”؟ أو الآيات “النارية” في القتال في أمكنة أخرى، مثل سورة التوبة: “قاتلوهم يعذِّبْهم الله بأيديكم ويُخْزِهِم وينصرْكم عليهم ويَشْفِ صدورَ قوم مؤمنين” (الآية 14) أو “واقتلوهم حيث ثقفتموهم” (البقرة 191)؟

وهذا المعنى أشكل على أحد الكتَّاب ممَّن وصلتْني مقالةٌ له على الإنترنت، فقال بأن القرآن كتاب عنف، وأنه مصدر كلِّ هذا الإرهاب في العالم – وهو تهور منه واستعجال، وعدم إدراك للقرآن والتاريخ والسياسة والإنسان والمجتمع. يصف السيد أورهان بَيار اللاعنف في الإسلام في الفترة المكية بأنه

غير مرتبط بالتسامح، كما هو معروف عند رموز اللاعنف (النبي عيسى، ماني، غاندي)، بل هو تسامُح غير القادر على الردِّ بالمثل. فالآيات لا تحرِّض على القتل والحرب، لكنها تتوعد غير الموالين للدعوة الجديدة بشرِّ العقاب وبنار جهنم.

أي أن القتل والقتال أصيل في الإسلام، وقد أخفى وجهه لمصلحة “تكتيكية”! ويمضي الكاتب المذكور، فيقول إنه لاحقًا ظهرتْ للنبي محمد أهميةُ كلمتَي “الغزو” و”السبي” ومدى تأثيرهما في الحياة القَبَلية، فأبدل بهاتين الكلمتين كلمتين أخريين: “الفتح” و”الغنيمة”. ويؤيده القرآن في الوسيلة الجديدة لنشر الدين،

ويبدأ الإسلام بولادته الجديدة كحركة عنفية، تقوم أساسًا على الفتح وجمع الغنائم – وهذا ما يرجوه كلُّ أعرابي. وبهذا الشكل، ومع أول نصر لمحمد في بدر، تكبر الحركة ككرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل.

ثم ما لبث الإسلام، في رأيه، أن كشف القناع عن وجهه الحقيقي. يقول متابعًا:

ينتفي هذا الخيار الديموقراطي، ليتحول الأمر إلى تخيير بين قبول الإسلام وبين الدخول في طاعة المسلمين.

ليقرِّر السيد بَيار هذا الحكم المبرم:

من خلال مراجعتي المقتضبة لبعض جوانب العنف في المرجع الإسلامي الرئيسي، توصلتُ إلى أنه لولا العنف الذي استُخدِمَ استخدامًا شديد الكثافة لما تمكَّن محمد ولا مَن خَلفَه من نشر عقيدتهم.

أو يقرِّر أيضًا:

كما توصلتُ إلى أن الأسلوب العنفي والإسلام شيئان متلازمان، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر: فكل شعب يُسلِم يتحول إلى الناطق بالحق والمسئول عن أوامر الله على الأرض، ويبدأ باحتلال الغير واستعماره باسم “الفتح”. فما علاقة البرابرة الترك بنشر الإسلام واحتلال أوروبا؟ – وهم أبعد البشر عن الحضارة في الفترة السلجوقية والعثمانية.

وينتهي الكاتب أورهان بَيار إلى هذه الخلاصة:

إن العنف المنفلت من عقاله الذي نعاني منه اليوم منبعُه الرئيسي هو النص القرآني الذي يحلِّل قتلَ المخالِف ومعاداتَه ومحاربتَه، أيًّا كان. فالإسلام لا يقبل الاختلاف، والعالم في نظره قسمان لا ثالث لهما: مسلمون وكفار؛ وواجب المسلمين هو الجهاد في سبيل الله، وهو محاربة الكفار حتى ينصاعوا لكلمة الله بقبول الإسلام أو الاستسلام للمسلمين والخضوع لهم.

والواقع أن السيد أورهان بَيار ليس الوحيد ولا الأول – ولن يكون الأخير قطعًا – الذي يتوصل إلى هذا الاستنتاج المُحزِن في تكريس مفهوم العنف، حتى في حقل السلام النبوي؛ كما أنه ينطح جدار التاريخ من دون سند من علم. إذ إن الحلَّ الذي قد يقرِّبنا قليلاً من الفهم ليس النصوص وحدها إذا تعطَّل الفهم التاريخي. وحتى النصوص يجب جمعها ومقارنتها بظروفها التاريخية – وهو ما سنأتي عليه. فلو أردنا أن نأتي بآيات الرحمة و”الحكمة والموعظة الحسنة” (النحل 125) و”ادفعْ بالتي هي أحسن” (فصلت 34) و”كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة” (النساء 77)، لتجمَّع لنا منها العشراتُ في مواجهة النصوص التي استشهد بها الأخُ الفاضل. “ولو كان [القرآن] من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا” (النساء 82).

التهور في إطلاق الأحكام أمر غير محمود. ويبدو أن السيد أورهان لم يقرأ القرآن قراءةً متمعنة، وهو قطعًا لم يفعل؛ وإن قرأه، فكما فعل ذلك القس الذي قال إن القرآن دعا إلى ألوهية المسيح، فخطف آية سورة الزخرف: “قُلْ إنْ كان للرحمن ولدٌ فأنا أول العابدين” (الآية 81)، مع أن ما قبلها وما بعدها جاء لتفنيد ألوهية المسيح ودحض مشكلة التثليث برمَّتها.

وهنا نرى أن السيد أورهان وقع في خطأ منهجي، فلم يسلك الطريقة العلمية في استعراض الأدلة جميعًا ومقارنتها للوصول إلى النتائج في اعتدال وترك مجال لاحتمالات الخطأ – وهذا هو الفرق بين العمل العلمي وغير العلمي.

ونحن، في هذه المقاربة، نخالف التيارات التقليدية كلَّها، من إسلامية وغير إسلامية، في الوصول إلى تقرير أن اللاعنف هو عمل الأنبياء، وهو لب التوحيد: عملية استيلاد الإنسان الجديد باعتماد عقله وروحه، وليس عضلاته أو العصا!

وكما يقول الوردي، إن النصوص لم تحل يومًا مشكلة. وحين التناطح يأتي الجميع بالأدلة كلِّها، العقلية والنقلية، على صحة مذهبه. وهو ما فعلتْه الدول الإسلامية في حرب الخليج الثانية حين انعقد مؤتمران في بغداد ومكة، كلٌّ فيهما يقول إنه على حق وخصمه هو الضال الشرير، حتى حلَّتْ أمريكا المشكلة بصواريخ “البلطة” ودبابات الأبرامز وطائرات الأپاتشي – حلَّتْها من دون مؤتمرات إسلامية، ومن دون مصحف وحديث وناسخ ومنسوخ!

مثل هذا الأمر الخطير يجب فهمه تحت باب البنيوية في القرآن، أو التراكُب الموضوعي، أو المنطق الداخلي للقرآن. فآيات القرآن، مثل نجوم السماء، متناثرة، نزلت “على مُكْثٍ” (الإسراء 106)، بحسب المناسبات والأوضاع النفسية، ولا تبوح بأسرارها إلا لِمَن عاش تلك الظروف النفسية بعينها، كما حدث معي في سجن الشيخ حسن في دمشق، حينما قرأتُ الآية: “أم أبرموا أمرًا فإنَّا مبرمون” (الزخرف 79) – فكأنها نزلت عليَّ يومذاك، فأعطتْني من الهدوء الشيء الكثير.

وبما أنه لا يوجد في آخر القرآن فهرس لموضوعاته، يجب أن نفعل كما فعل تيخو براهي ويوهان كپلر حينما نظرا إلى النجوم، فخرجا بنظام خاصٍّ ومنطق خاصٍّ في عالم النجوم. كذلك الأمر في آيات القرآن المنجمة.

وفي المقابل، جاءتني رسالةٌ أخرى، في الاتجاه المعاكس تمامًا، من رجل فاضل هو م.ص.، يقول إنه لا يوافقني فيما أذهب إليه من مذهب اللاعنف، فلم يفهم رسالتي تمامًا، ولم يستوعب مطلقًا دعوتي في مئات المقالات التي كتبتُها. فالرجل يذهب في تفسير صراع ولدَي آدم مذهبًا جديدًا، يقول فيه إن الذي قُتِلَ كان سيدافع عن نفسه، كما جاء في قصة ولدَي آدم التي أشرنا إليها. إن هناك مذهبين: مَن يؤمن بالقتل سبيلاً إلى حلِّ المشكلات، ومَن لا يهدد، ولا يخاف من التهديد، ويستعد للموت من طرف واحد، دون مدِّ اليد بالأذى إلى الآخر.

وفي هذا السياق، قال الأخ م.ص. إن القتل كان “غيلة”، وإن ابن آدم الذي أعلن موقفه بأنه لن يقتل، ولو بَسَطَ الآخرُ إليه يدَه (المائدة 28)، كان كاذبًا مدعيًا متظاهرًا! فلو شعر بأن أخيه توجَّه إليه ليقتله، لمدَّ يدَه إليه بالقتل هو الآخر. وفي هذا تكذيب للقرآن والنبي والصالحين ومبدأ الفلاسفة وطريقة الأنبياء في التغيير؛ وهو قتلٌ لكلِّ الحكمة الموجودة في الآيات من سورة المائدة، التي خَتَمَها القرآن بقوله: “من أجل ذلك” (الآية 32)، أي أن القصة سيقت للاستعبار: “وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون” (العنكبوت 43).

وما جاء في أحاديث الفتنة – التي لم يطَّلع عليها الأخ قطعًا – إشارةٌ واضحة إلى مذهب ابن آدم في عدم الدفاع عن النفس؛ وهي عشرات الأحاديث المغيَّبة في تراث تشرَّب بالدم، بأشد من بني إسرائيل الذين “أُشرِبوا في قلوبهم العجلَ” (البقرة 93). قال الأخ:

ولا نتخيل أن قابيل، عندما جاء لتنفيذ جريمته، وقف أخوه أمامه مبتسمًا محبًّا، وهو يراه يرفع الفأس ليهوي بها على رأسه؛ بل يغلب الظن أن القتل كان غيلة. وليصحِّح لنا الدكتور إن كانت لديه معلومات أفضل.

لا أعرف كيف توصَّل الأخ إلى هذا الفهم المنكَّس على رأسه! فهذا الالتباس عند الكاتب المذكور جاء من فكرة “الدفاع عن النفس”، فتناسى الحديث القائل إن “القاتل والمقتول في النار” لأنهما انطلقا من نفس القاعدة النفسية: حرصُ كلٍّ منهما على قتل صاحبه. وهذا الالتباس في فكرة “الدفاع عن النفس” منشؤها أن الصراع البشري ينفجر، عند هذا المنعطف تمامًا، من تصور كلِّ واحد أنه “يدافع عن نفسه”! العمل مبرَّر مُشَرْعَن، أجل – ولكن مَن المُدافِع، في هذه الحالة، ومَن المهاجِم؟

لقد قالت إيران والعراق الكلمةَ نفسها في تلك الحرب العقيم التي لم تَذِرْ من شيء أتت عليه إلا جعلتْه كالرميم. وكل الحروب تقريبًا نشأت متذرعةً بالحجة نفسها. والفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه يقول ما مفاده إن كلَّ وزارات العالم المخصصة للقتل والقتال اسمها “وزارة الدفاع”، وهي مخصصة في الواقع للهجوم؛ إذ لم نسمع عن دولة سمَّتْ وزارة الحربية عندها “وزارة الهجوم”! ويقول نيتشه إن هذه التسمية تبيِّت للآخرين سلفًا نية سيئة بافتراضها أنهم سيبادرون بـ”الهجوم”، فلا بدَّ من “الدفاع”. والحروب الأهلية تنشب تحت ضغط هذا الشعور: عليَّ قتله قبل أن يقتلني! ولأتغدَّ به قبل أن يتعشى بي!

ولكن لو سيطرتْ فكرةٌ مغايرة على الناس، فقال كل واحد: لن أقتله، ولو مدَّ إلي يدَه بالقتل، لانطفأت الحروب. ولكن “الإنسان خُلِقَ هلوعًا، إذا مسَّه الشرُّ جزوعًا، وإذا مسَّه الخيرُ مَنوعًا، إلا المصلين” (المعارج 19-22). وهنا يأتي معنى الصلاة، أي دور الثقافة في تحرير الإنسان من علاقات القوة – وهو لب التوحيد.

وفكرة “الدفاع عن النفس” سوف نحاول أيضًا تفكيكها في أثناء بحثنا عن مشكلة العنف واللاعنف في القرآن. فالحديث الذي يتحدث في الدفاع عن النفس في وجه لصٍّ هو غير الحديث الذي يتحدث في عدم الدفاع عن النفس في وجود الدولة. فالعمل الفردي الشخصي غير العمل الاجتماعي–السياسي. وحينما شجع الحديثُ المؤمنَ أن يتعلَّم الرماية والسباحة وركوب الخيل، لأن “المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف”، فهذا يصب في خانة مختلفة عن التغيير الاجتماعي–السياسي الذي نتحدث عنه. إنْ يعترض شقيٌّ طريقَ أحدنا، فنحن مخيَّرون بين حسن التصرف للتخلص منه “بالتي هي أحسن” وبين طلب الدولة للتدخل: فهذا عمل الدولة في الفصل بين الناس وكفِّ العدوان، كما هي حال مطافئ الدفاع المدني التي تهرع إلى إطفاء الحرائق. إن مهمة الشرطة والجيش هي حجز المعتدين من المرضى النفسيين وأشباههم، وهو أمر حادث وواقع. ويبقى لِمَن تعرَّض لهذه المواقف الصعبة في ظلِّ غياب الدولة أن يدافع عن نفسه فرديًّا بطريقةٍ يردع بها الشقيَّ عن العدوان – وهذا ليس مدار حديثنا الآن. الأخ م.ص. لم يستوعب مقالتي، فظن أن هذا مثل ذاك، والأمر ليس كذلك.

وسوف نحاول استعراض فكرة العنف واللاعنف في الإطار القرآني، من أجل فهم هذه الأفكار متناسقة في حزمة واحدة – وإلا كذبنا على الله.

الدفاع الفردي عن النفس، في مواجهات مع عيَّارين وأشقياء وزعران في مناسبات سرقة ولصوصية وتحرُّش واعتداء وما شابه، يجب حلُّها عن طريق الدولة التي مهمتها الحدُّ من هذه الأعمال – وإلا تحوَّل المجتمعُ إلى غابة! فإن غابت الدولة، قام الفردُ بما يسد هذا الفراغ لحين حضور رجل الدولة.

إن حديثنا هو عن التغيير السياسي: فالدولة أو المجتمع، لو أراد اعتقال فرد ما أو تعذيبه أو سَجْنه لأنه قام ضد الدولة وعارَض الوضعَ السياسي، فالمستحسن ألا يلجأ هذا الفرد إلى القوة ضد الدولة، بل يتحلَّى بالصبر وضبط النفس، أو يتوسل الهجرة في الحالات التي لم تعد تطاق وييأس صاحبُها من إمكانية التغيير في ظلِّ وضع سياسي مشؤوم. والقرآن حضَّ على الهجرة في هذه الحالات، كما جاء في قصة “أصحاب الكهف والرَّقيم” (سورة الكهف، الآية 9 وما بعدها) الذين ضنُّوا بكلبهم أن يعيش في مجتمع وثني! وهذا الكلام ليس على سبيل النكتة: ففي ليلة واحدة أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي بإعدام كلاب القاهرة عن بكرة أبيها لأنها أزعجتْه بنباحها، فحصلت مذبحةٌ نفق فيها ثلاثون ألف كلب أو تزيد!

أما فيما عدا ذلك، فطريقة التغيير الاجتماعية التي مارسَها الأنبياءُ جاءت على نحو واضح في الآية 34 من سورة الأنعام: “ولقد كُذِّبَتْ رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حتى أتاهم نصرُنا ولا مبدِّل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسَلين”. فهذه الطريقة، والاستمرار فيها، هي طريقة صناعة الحكم والمجتمع في الإسلام (الذي أرجو أن أوفَّق إلى توضيحه)، وكذلك صيانته حين الانحراف، فلا تُحلُّ المشكلاتُ فيه بالدم والسيف، كما حصل في التاريخ الإسلامي – ومازال يحصل! ولبُّ المشكلة هنا أن مَن سعى إلى تغيير الأوضاع بالسيف والقوة المسلحة ونجح في ذلك ارتُهِنَ للقوة، فأزال الطاغوتَ ليجلس محلَّه، فلم تزدد الأمور إلا مسخًا وخسفًا. صحيح أن هناك طُرُقًا “ثورية” في التغيير، وأن الديموقراطيات الحديثة، في معظمها، ترى أن الثورة المسلحة وقتل الظالم شيء مشروع، كما حدث مع الثورات البلشفية والفرنسية والأمريكية، لكن طُرُق الأنبياء مختلفة.

هناك نقطة أشكلت على الأخ الذي أشرنا إليه فيما سبق، هي موضوع اجتياح الشعوب وكيف تدافع عن نفسها؛ وهي نقطة قوية في سياق مقالته. قال:

وحضارة الإنكا في أمريكا الجنوبية كانت حضارةً راقية، مُسالِمة، ذات مدن ضخمة وأنظمة ريٍّ متطورة. وهي لم تُبادئ الغزاةَ الإسبان بأذى يُذكَر، بل إنها حاولت مدَّ أيدي التواصل إليهم مرارًا. فكيف صمد اللاعنفُ أمام همجية العنصرية الأوروبية؟! لقد دمَّر الأوروبيون حضارة الإنكا بالكامل، وقتلوا آخر ملوكهم، بعد أن أعطاهم من الذهب ما لم يتخيلوا وجوده في أزهى أحلامهم! وانقرض شعبُ الإنكا، وبادت لغتُه، ودُمِّر تراثُه، ولم يبقَ منهم اليوم إلا شراذم مضطهَدة معزولة. وقد انتشر لدى الحركات العنصرية الأوروبية أن مُسالَمة هذه الشعوب المقهورة واستكانتَها إلى مصيرها ما هي إلا لاقتناعها بتفوق الجنس الأبيض. فكان اللاعنفُ دعوةً مفتوحة إلى مزيد من العنف وإلى مزيد من الإجرام من قِبَل الطرف المعتدي.

هذه المعلومة التي جاء بها الأخ تعرج قليلاً: “يخيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى” (طه 66) وهي حبال وعِصي! فلا حضارة الإنكا مدَّتْ يدَ المُسالَمة، ولا هي كانت تعيش فيما بينها في سلام ووئام، ولا هي مارست “اللاعنف” في وجه العصابات الإسبانية. الخطأ هنا مضاعف ثلاثًا. لقد تتبعتُ هذه الفكرة وفكرتُ فيها مليًّا؛ وأرى أنه يجب استيعابُها ضمن پانوراما جديد للفهم الإنساني.

جزمًا لم يكن لمئة رجل أن يدمِّروا حضارةً يعد أهلها بالملايين! ثم إن حضارة الأزتيك والإنكا كانت دموية جدًّا، تمارس القتلَ ممارسةً جنونية: فمما يُذكَر بهذا الخصوص أن حكام الأزتيك كانوا يذبحون أيام العيد، في غضون بضعة أيام، ثلاثين ألفًا من خيرة شباب الشعوب المجاورة؛ وهو أمر تحققتْ منه قناة Discovery. وهرنان كورتِس (1485-1547) تغلَّب عليهم من باب انشقاقهم الداخلي، وبتحريض بقية الشعوب المظلومة المضطهَدة ضدهم؛ فلما استطاع جمعَ كلمتهم، قضوا بسهولة على حضارة الأزتيك. وينطبق الكلامُ نفسه على فرانسيسكو پيزارو (1475-1541) وحضارة الإنكا، وملكهم أتاهوالپا الذي خُنِقَ وشُنِق (1533). وهو الأمر نفسه الذي فعله الإسكندر عندما قهر مملكة الفرس؛ وينطبق كذلك على “الفتح” الإسلامي لمصر الذي تمَّ على يد أربعة آلاف جندي.

نحن هنا نناقش موضوعًا مختلفًا. وإذا كان لا بدَّ أن يُقحَم في موضوع الدفاع عن النفس، فهذا شيء مختلف عن الجهاد. الجهاد غير القتال: يجب التفريق بين المصطلحات. كما يجب التفريق بين “الجهاد” وبين “الخروج” الذي مارسه الخوارج. وهو موضوع يجب التعرض له أيضًا؛ إذ إن هناك لبسًا وغموضًا في كثير من المفاهيم. وأنا، في هذه المقدمة، أحاول ضغط الأفكار ما أمكن، مثل كبسولة دواء.

الجهاد غير القتال: فالقتال قد يكون من الجهاد، وقد يكون من عمل الشيطان: “إن كيد الشيطان كان ضعيفًا” (النساء 76). فحين ينضبط القتالُ كطاقة في سبيل غاية، قد يخدم موضوع الجهاد. وهنا يشبه الجهادُ عملَ فِرَق إطفاء الحريق على المستوى العالمي في صراع الدول بعضها مع بعض. هذا هو الجهاد، وله شروطه: فهو ليس أداةً بيد فرد أو حزب أو جماعة، بل يجب ممارسته بيد دولة وصلتْ إلى الحكم برضا الناس، فيُسخَّر ضد الظلم. أي أنه دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الناس، أينما كانوا ومهما دانوا. وهو ما يكرِّره القرآن عن رفع “الفتنة” عن الناس (النساء 91، التوبة 47)، كالذي يجري في حكم أجهزة المخابرات في الأنظمة العربية، “الثورية” وغير الثورية! فالكل يستحم في العين الحَمِئة نفسها.

وبهذه المثابة، إنْ جاز الجهاد فيجوز ضد هذه الأنظمة التي تفتن الإنسان، على أن تُنتدَب له قوى عادلة، ولو كانت غير مسلمة: فلو أن أمريكا فعلت هذا الشيء في العالم بأسره، لدخل الناس في دينها أفواجًا؛ ولكنها تنصر إسرائيل، وتدعم الديكتاتوريين في كلِّ مكان، وتريد التوسع والهيمنة، وتلعب دور فرعون المستكبر في العالم، الذي طغى في البلاد، فأكثر فيها الفساد (الفجر 11-12). وهو الأمر الذي التبس على المدعو أورهان بَيار، حينما استشهد بالآية من حيث لم يستوعب معناها: “رفع الفتنة عن الناس” يعني فتنتهم – وهو معنى اختلط عليه تمامًا. فالقرآن قال: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كلُّه لله” (الأنفال 39)، وليس “قاتلوا الناس حتى يكونوا مسلمين”، على الطريقة العربية الأعرابية! أي رفع الإكراه عن الناس حتى يكونوا أحرارًا في اعتناق ما يشاءون. وهذا المفهوم في القرن السابع للميلاد كان تقدميًّا جدًّا، ولم تعرفه البشرية إلا في عصور التنوير.

إن القرآن ينطلق من مبدأ: “لا إكراه في الدين” (البقرة 256)، دخولاً وخروجًا. وهذا يعني أنه لا يوجد قتل للمرتد، كما نصَّ عليه فقهاءُ العصر المملوكي. ويمكن للإنسان أن يخرج من الدين ثلاث مرات من دون أن تخرج روحُه مرة واحدة، كما جاء في سورة النساء: “إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكنِ الله لِيَغفرَ لهم ولا لِيَهديَهُم سبيلا” (النساء 137)، ولم يقل أخرِجوا أرواحَهم بحدِّ السيف! وهو ما فات أورهان بَيار، المبرمَج على عداء الإسلام إيديولوجيًّا وعلى عدم الاستفادة من القرآن. فهو لا يعرف القرآن، ولم يطَّلع عليه كما ينبغي، بل “كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمَّا يأتِهِم تأويلُه” (يونس 39).

ومفهوم قتل المرتد، الذي يشكِّل فضيحةً أخلاقية، كان سلاحًا أمويًّا وسلطويًّا عِبْر التاريخ لاستئصال أية نسمة تفكير وخلية عصبية تشع بالخير الأخلاقي. وهي مصيبة اتفقتْ عليها جميعُ المدارس الإسلامية القديمة، ووافقهم عليها، بكلِّ أسف، محمد الغزالي الراحل، حين وافق على قتل فرج فودة، لكنْ على ألا يتم القتلُ بيد الشباب المتحمس، الذين كان عملهم “افتئاتًا على الدولة”، على حدِّ تعبيره. فأية دولة؟! وأي شباب؟!

مشكلة الحداثيين والتحديثيين وأضرابهم أنهم لا يعرفون الثقافة الإسلامية، ويحاربونها عن جهل وسطحية – وإن يكن الحق معهم من بعض الجوانب. لكن مثلهم كمثل مَن يريد استئصال ثؤلول من الأنف بالمنشار أو بالمقص من دون تخدير! وهذا ينطبق على الأصوليين أيضًا الذين لم يستوعبوا صدمة المعاصَرة: فهم يستقبلون رياح العولمة الباردة من دون دثار وحطب ونار!

الدفاع عن النفس أم عدم الدفاع عنها؟ أين وكيف؟

ثمة معانٍ هائلة نستلهمها من قصة أول صراع إنساني بين ولدَي آدم. فبهذا الصدد، مرَّ بنا، حتى الآن، نموذجان من التفكير: الأول (أورهان بَيار)، الذي رأى في القرآن مصدر كلِّ عنف وقتل؛ والثاني (م.ص.)، الذي رأى أن اللاعنف لا ينفع في المواجهات، وأن ابن آدم المهدَّد بالقتل لو انتبه لأخيه لقَتَله – وهو خطأ فادح في الفهم، وهي وصفة لاقرآنية جدًّا: فحين يتصرف الاثنان بهذه الطريقة لن يكون فارقٌ كبير بينهما: فمَن سبق إلى القتل كان القاتل، وكان المسبوقُ المقتول. وهذا يختلف جدًّا عن الرجل الذي لم يدافع عن نفسه: فمَن دافع عن نفسه، فقُتِلَ، كان مجرمًا مثل القاتل الذي هاجم: كلاهما – نفسيًّا – قاتِلٌ بفارق السرعة والسبق والفنية؛ وكلاهما من العينة الإجرامية نفسها. وأهمية عدم الدفاع عن النفس أنه يحوِّل القاتل إلى مجرم؛ وأما حركة الدفاع والهجوم فتقلب القاتل إلى بطل منتصر. فهاتان آليتان نفسيتان مختلفتان جدًّا. ومنه جاء تعبير القرآن في لفظين في الآيات الست من سورة المائدة (27-32): “الخاسرين” و”النادمين”:

فطوَّعتْ له نفسُه قتلَ أخيه فقتلَه فأصبح من الخاسرين، فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليُرِيَهُ كيف يواري سوءةَ أخيه قال: يا ويلتي أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءةَ أخي فأصبح من النادمين؟ (الآيتان 30-31)

أي أن القاتل لم يكن بطلاً، بل مهزوم خاسئ مدحور، لم يتحرر من ضغط الشعور بالجريمة حتى تاب. وهو يعني أن مَن مات لم يمت، بل نَشَرَ مذهبَه بأن اعتنقه القاتلُ بعد غياب صاحبه – وهو معنى الخلود في الشهادة. وهذا قد يحدث، وكلنا سنموت يومًا. والعِبرة في ثبات الأفكار وديمومتها – وإلا كان الكون باطلاً، بُنِيَ عبثًا: “وما خلقنا السماواتِ والأرضَ وما بينهما إلا بالحقِّ وأجَلٍ مسمًّى والذين كفروا عمَّا أُنذِرُوا مُعرِضون” (الأحقاف 3).

ونأتي الآن إلى النموذج الثالث من التفكير السائد في الساحة. وقد جاءني مفاده من الأخ أحمد الخطيب من فلسطين، الذي يقف في الزاوية المقابلة للتفكيرَين السابقين: فهو يرى أن

العدو في الإسلام هو الكفر، والأعداء هم الكفار. فالكفر هو الأمارة الدالة على وجود الأعداء، أي هو السبب الشرعي. فنحن نعادي الناس بسبب كفرهم. والأصل في المعاداة بيننا وبين كلِّ البشر هو وجود الكفر. فإذا وُجِدَ الكفرُ وُجِدَ العداء، وإذا عدم الكفرُ عدم العداء. لذلك كان الأصل في المعاداة هو وجود الكفر حقيقةً، وكان الكفر سببًا في العداء.

ليخلص بعد ذلك، فيقيس على هذا “موالاة” الكفار الأعداء:

[…] إذ لا يجوز لمسلم أن ينصر الكافر، أو يعاونه، أو يشاوره، أو يحبه، أو ينصحه، أو يصادقه، أو يركن إليه، أو يخضع له، أو يستسلم لسلطانه برضاه. فإن فعل ذلك كان مواليًا له، وينطبق عليه حكمُ الموالاة – إلا في حالة التقية لقوله تعالى.

وبعد هذه المقدمة والشرح، يصل إلى وصفة الخلاص – وزبدتُها أن العلاج الشافي

لمشاكل الأمة ومصائبها هو سهل وبسيط، ويتمثل في منع موالاة الحكَّام للكفار. ومنع هذه الموالاة لا يتحقق فعليًّا إلا بإبعاد هؤلاء الحكام عن السلطة، والإطاحة بهم، وتنصيب خليفة واحد للمسلمين مكانهم، يوالي الله ورسولَه وجماعةَ المسلمين.

وهذه الأحجار الثلاثة التي بناها الرجل غير مستقرة، إذا سُحِبَ منها الحجرُ الأول سقط البناءُ برمَّته وتهاوى، فكان لسقوطه دويٌّ عظيم! فالقرآن لا يربط بين “الكفر” و”العداوة”، بل بين العداوة والظلم. والسورة التي يذكر فيها إبراهيم (ع) التي يخاطب فيها الكافرين: “كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاءُ أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده” (الممتحنة 4)، ينتقل بعدها مباشرة ليقول: “عسى الله أن يجعلَ بينكم وبين الذين عاديتُم منهم مودةً” (الآية 7)، فيكسر – بكلمة واحدة – مقولةَ الأخ الخطيب من فلسطين برمَّتها. فحجته داحضة: إذ ليس هناك من علاقة بين العداء والكفر؛ أي يمكن أن يكون بيننا وبين الكافرين “مودة”! لينتقل بعدها إلى الآية التالية من سورة الممتحنة، – وهي سورة تناولت موضوع الولاء، – فيقرر أن سبب العداوة غير شخصي، ولا علاقة له بكفر وإيمان، كما يقرر الخطيب، بل ممارسة الإكراه؛ فينص على أن الكافرين، إذا “لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرِجوكم من دياركم”، عليكم “أن تبَرُّوهم وتُقْسِطُوا إليهم” (الآية 8). وأظنها مفاجئة غير سارة لمفاهيم الخطيب التي وقع في قبضتها دون فكاك. وهذه هي المشكلة: إننا نقرأ القرآن بعيون الموتى من ثقافة ميتة، وبيننا وبين الفهم سدود من أقوال المفسرين!

بل يقول القرآن في مكان آخر من سورة آل عمران: “ها أنتم أُولاءِ تُحِبونهم ولا يحبونكم” (الآية 119)، فيقرر أن المسلمين يحبون الكافرين، في الوقت الذي يطلب المسيح من أتباعه أن “[يـ]ـحبوا أعداء[هـ]ـم، و[يُـ]ـحسِنوا إلى مبغضيـ[ـهـ]ـم، و[يـ]ـباركوا لاعنيـ[ـهـ]ـم…” (إنجيل لوقا 6: 27-28)، فسَبَقَ صحابةُ رسول الله (ص) حواريي المسيح بدرجة. وهذا يذكِّر بالفرق بين دعاء موسى لربِّه أنْ “اشرحْ لي صدري” (طه 25)، في الوقت الذي انشرح صدرُ النبي فقال (الشرح 1): “ألم نشرح لك صدرك”؟

وهناك اختلاط آخر يقع فيه مَن يتأمل السيرة: كيف نفهم الغزوات؟ – تمامًا مثل مشكلة الآيات التي تحض على القتل والقتال. وهذا يذكِّرني بالقصة التي روتْها لي ابنتي عن نورمَن فِنكِلشتاين وأمِّه التي خسرت زوجَها وعائلتَها كلَّها في معسكر اعتقال آوسشفِتْس Auschwitz: لما طُلِبَتْ للشهادة على المجرمين النازيين، طلبتْ من ابنها أن يفعل بهم كلَّ شيء لأنهم رأوا الموتَ على مدار الساعة في معسكرات الاعتقال. فقالت له ابنتي الموجودة في كندا: “سوف ينشرح صدرُ والدتك، وربما أسلمتَ أنت حينما تقرأ الآية التي تقول: “قاتِلوهم يعذِّبْهم الله بأيديكم ويُخْزِهم وينصرْكم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين، ويُذهِبْ غيظَ قلوبهم” [التوبة 14-15].”

وأنا أعرف هذا الشعور من الجلادين في الفروع الأمنية الذين كسروا أسناني بقبضاتهم واحتجزوني في زنزانة إفرادية لا أتمناها لحافظ الأسد الذي وضع الشعب السوري في برَّاد لمدة أربعين سنة! أو من حفلات التعذيب في “كركون” الشيخ حسن في حي الميدان في دمشق، حيث كان الجلاد يوسف طحطوح الديري يستطيب القدومَ مع ساعات السَّحَر للتمتع بتعذيب المعتقلين! وقد رأيته بعيني، وحقق معي شخصيًّا. وطحطوح هذا عيِّنة بسيطة موجودة في كلِّ مكان (قصص حمزة البسيوني من مصر نموذج آخر). “وتلك الأمثال نضربُها للناس وما يعقِلُها إلا العالِمُون” (العنكبوت 43).

لقد حصل معي هذا لا لذنب اقترفتُه، بل من أجل أفكاري ونشاطي الفكري. واليوم أذكره وقد تحررتُ من الكراهية، فلا أحمل في صدري ضغينةً أو كراهية لأحد. وفي النهاية، كلنا ميت، كما ماتت زوجتي ليلى سعيد، داعية اللاعنف، وهي في قمة الجمال والحكمة والنشاط، فودَّعت الحياة في ساعة. والجنة ليست دار كراهية ومكرهين وإكراه: “ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخوانًا على سُرُرٍ متقابلين” (الحجر 47).

أقول: كما فرَّقنا بين الدفاع الشخصي ضد شقيٍّ لصٍّ وبين عدم الدفاع عن النفس أمام النظام السياسي في أثناء النضال المدني، كذلك يجب التفريق بين القتال في مرحلة “اللادولة” وبينه في مرحلة الدولة، لسبب بسيط، هو أن وظيفة العنف هي وظيفة الدولة. ولو تابع المسيح (ع) ما فعل محمد (ص)، فبنى دولة، لفعل الشيء نفسه من رفع الظلم عن المظلومين والمضطهَدين، كما جاء في فيلم دموع الشمس Tears of the Sun. وهذا الأمر يختلط على الناس، فيظنون أن المسيح “سلامي” ومحمد “حربي”. والصحيح أن محمد أكمل عملَه، فاعتبره مايكل هاردت الشخصيةَ الأولى من مئة شخصية غيَّرتْ وجهَ التاريخ؛ بينما المسيح لم يكمل مهمته، فخطفتْه الأحداث، مما أوقع المسيحيين في حيرة، فذهبوا مذاهب في تأويل الاختفاء، كما فعل الشيعة مع الإمام الثاني عشر، الذي اختفى في السرداب، فقالوا بأنه سيعود في آخر الزمان، فـ”يملأ الأرض عدلاً بعد أن امتلأت جورًا” – وهو مذهب استخدمه كثيرٌ من السياسيين الدهاة لإقناع العامة بخروج المهدي ليقضي على الدجال، بِمَن فيهم مَن اقتحم الكعبة في مطلع القرن الخامس عشر الهجري في أول أيامه. أما المسيحيون فقالوا بتأليه المسيح – وهو بشر ممَّن خُلِقَ – الذي لم يكمل عمله، وبشَّر بأن هناك مَن سيكمل عمله (إنجيل يوحنا 14: 16-17، 26) كما بشَّر يوحنا المعمدان بالمسيح وقال عنه إنه ليس أهلاً لأن يفك رباط حذائه (إنجيل يوحنا 1: 27).

بذلك يعلِّمنا الأنبياء دروسًا في التواضع، كما فعل المسيح حينما غسل أقدام تلاميذه ليلة العشاء الرباني (إنجيل يوحنا 13: 4-15)، وقال: “أوصيكم وصية جديدة: […] كما أحببتكم، أحبوا أنتم بعضكم بعضًا. إذا أحبَّ بعضُكم بعضًا عرف الناسُ جميعًا أنكم تلاميذي.” (13: 34-35)

الدولة بيدها العنف وتحتكر العنف. بينما الأنبياء لهم طريقتهم في بناء دولتهم الخاصة، فلا يغيِّرون الطغيانَ بطغيان، بل الطاغوت بالرشد. ولكن بني أمية المجرمين رجعوا فقلبوا الآية، وحولوا “دولة الرشد” إلى “دولة طاغوت”: إن مات هرقل جاء هرقل، فجعلوها “هرقلية” تلبس عباءة النبي، مثل مسجد الضرار. وهكذا توقفت مسيرة الإسلام قبل أن يبدأ رحلته، وبدأت الفتوحات الاستعمارية زورًا باسم الإسلام! لكن الإسلام لا ينتشر بالسيف، لسبب بسيط هو أن العقل لا يؤمن بالإكراه، ولا يُعتبَر الإيمانُ إيمانًا ولا الكفرُ كفرًا بالإكراه.

ومع كلِّ هذا الإعلان من الأنبياء أن العنف لا يحل مشكلة، انطلاقًا من الخلفية الأخلاقية لفكرة اللاعنف، لم تتوضح أهميةُ هذه الأفكار ويُبرهَن عليها إلا صباح يوم 16 تموز/يوليو 1945، بتجربة انفجار أول سلاح نووي في صحراء نيومكسيكو، حين ألغت القوةُ القوةَ بعد أن وضع البشرُ أيديهم على سقف القوة.

العنف يعني تعطيل العقل. والعنف يعني اللاديموقراطية. والعنف يقتضي الإكراه. والعنف لا يحل المشكلات، بل يعقِّدها. والعنف قد يطوِّع الإنسان، ولكنه يأخذ الطاعةَ مع الكراهية. وبذلك تنغلق حلقةُ العنف على نفسها، بين الكراهية والإكراه والسلاح واغتيال الحرية بالطغيان السياسي والعقل بالكبت الديني.

المجتمعات نوعان: مَن دار حول الفكرة، ومَن عبد القوة. والمجتمعات العربية تعبد القوة، فتخر لها الجباهُ ساجدة! بينما الغرب حلَّ مشكلةَ الطغيان السياسي، فأصبح فيه انتقالُ السلطة سلميًّا. أما عندنا، فمنذ جيل الصحابة الذين ضاع “الرشد” على أيديهم لم نعرف الرشد حتى اليوم!

كيف نفهم “الجهاد” في ضوء اللاعنف؟

في علم النفس، حينما تكون القوةُ مركزيةً تولِّد الإكراهَ تلقائيًّا، كما يقول الفوضويون anarchists. وتسمية “فوضويين” خاطئة وترجمة غير دقيقة؛ والأفضل أن تُسمَّى الجماعات التي لا تؤمن بالدولة: فهم يرون أن الدولة الحالية تمثل الإكراه، وأن كلَّ إكراه خطأ؛ وقليل من السلطة يعني القليل من الفساد، والسلطة المطلقة، بالتالي، تعني الفساد مطلقًا. وحين تُستخَدم القوةُ للإكراه يمكن أخذ الطاعة من الناس، كما في دول المخابرات “الثورية” في العالم العربي؛ ولكنها طاعة ممزوجة بالخوف والكره. وهكذا فالإكراه يولد الكراهية؛ وهذه تقود تلقائيًّا إلى محاولة إعادة الاعتبار للذات المسحوقة، فتتلمَّظ هذه بالقوة. وهكذا فالقوة دخلت في حلقة معيبة، معكوسة، متواصلة، مترابطة المفاصل، على النحو التالي:

قوة ß إكراه ß خوف ß طاعة ß كراهية ß قوة ß إكراه

وهكذا دواليك… وعبادة القوة تقود تلقائيًّا إلى عدم إمكانية ولادة مجتمع ديموقراطي يؤمن بتداول السلطة السِّلمي. وهي مشكلة الثقافة العربية الحالية.

والآن، إلى الدليل العلمي – وهو بحث يجب أن يوسَّع أيضًا. لكن خلاصته هي أن القوة عِبْرَ التاريخ كانت في رحلة تضخيم دون توقف. فمذهب ابن آدم الأول، الذي بدأ رحلة القتل بالحجر، تطوَّر ليصل في النهاية إلى سقف القوة: أوجد على الأرض القنبلة الهدروجينية المحمولة على صاروخ التي ترفع درجة الحرارة، كما يحدث في باطن الشمس، إلى مئة مليون درجة! وهذا التطور المرعب قاد إلى مفارقة عجيبة: لم يعد في الإمكان حلُّ المشكلات بالقوة لأنها نهاية اللاعبين جميعًا: لم يعد هناك من منتصر في الحرب! وهذا التطور في القوة كان عجيبًا غريبًا، أدى إلى لَجْم القوة. فقد أنهت القوةُ القوةَ على غير ميعاد! وبذلك تحقق حلمُ الأنبياء النظري حاليًّا، إذ لم تنفع الكتب المقدسة والمواعظ كلها في البرهنة على هذه الحقيقة، تمامًا كما في نظرية “الانفجار العظيم” Big Bang: فقد تعب الفلاسفة في تفسير الكون، حتى جاءت نظريةُ الانفجار العظيم وأعطت الجواب بأن الكون بدأ قبل 15 مليار سنة. وهذا الكلام هو الشعار الذي أرفعه: العلم = السلم. ومن الغريب أن يأتي السلم من أتون القوة! ولكن هكذا يتطور التاريخ: “[…] وأمَّا ما ينفعُ الناسَ فيمكث في الأرض كذلك يضربُ الله الأمثال” (الرعد 17).

بذلك انتهتِ الحربُ من التاريخ، وماتت مؤسَّسةُ الحرب، ولم تعد الحربُ تُشَنُّ إلا بين المتخلِّفين أو لتأديب المتخلفين! وفي حرب العراق وإيران، التي امتدت أكثر من الحرب العالمية الثانية، كانت تمد الطرفين ثلاثون دولة! وأدرك الجميع أن الحرب يمكن لك أن تبدأها، ولكن نهايتها ليست في يدك. ومَن بدأ الحرب فقد باع نفسَه لعالم الكبار، الذين يملكون التقنيات ولا يستعملونها فيما بينهم. وهو أمر عجيب يحدث في العالم، ويشي بعمق الأزمة الأخلاقية التي تمارسها الدولُ الصناعية فيه. لم تعد الحرب تقع بين دول الشمال الأوروبي بعد أن جربوا أنواع الحروب الدينية والقومية والعالمية كافة وخاضوا فيها. لقد حاول بوناپرت توحيد القارة بالمدفعية، وهتلر بدبابة الپانزر، لكنها لم تتوحد إلا بشعار السواء، من دون “ألمانيا فوق الجميع” Deutsch über Alles، بل بـ”ألمانيا مثل الجميع”، ومات نابليون في جزيرة تذكِّر بجهنم، مسمومًا بالزرنيخ، ومات هتلر في قبوه البرليني منتحرًا انتحارًا مضاعفًا – بالرصاص والسيانيد – مع عشيقته إيفا براون.

وفي الختام، سوف أحاول ضغط الأفكار ملخَّصة مرة أخرى على شكل كبسولات صغيرة: الإسلام يبني المجتمع ويصنع الدولة بطريقة سِلمية من دون عنف. فهذه طريقة الأنبياء، وهي تختلف عن طريق الثورات، الفرنسية أو البلشفية أو الأمريكية. وبعد قيام المجتمع والدولة، يصبح في إمكان الدولة وضعُ يدها على آلة العنف، فتمارس وظيفتَها الأساسية في توفير الأمن للأفراد من دون طغيان داخلي، بحيث يكون دور العنف الذي تمارسه الشرطة وأسلحة المؤسَّسات مثل دور فِرَق الإطفاء في المدينة. وليس الجهاد بيد فرد أو تنظيم. كما أن الجهاد، بمعنى القتال المسلح، ليس لنشر الدعوة، بل لرفع الظلم عن البشر. ومَن يحق له أن يمارس الجهاد هي وحدها دولةٌ راشدية وصلت إلى الحكم برضا الناس. وهذا يعني أن الجهاد، بمعنى القتال المسلح لرفع الظلم عن الناس، إذا حُقَّ أن يمارَس في مكان في العالم، فمعظمه يجب أن يكون في الكثير من الدول التي تُسمَّى “إسلامية”!

ليست وظيفة الدولة اضطهادَ الناس بالمخابرات، وجَلْدَ ظهور الناس، وسَلْبَ أموالهم، وبناءَ مجتمع طبقي فرعوني يجعل الناس شيعًا، يستضعف طائفةً منهم، يذبح أبناءهم ويستحل نساءهم، بل بناءُ المجتمع المتحرر من القوة داخليًّا، بخلق الإنسان الحرِّ واستيلاده. فإذا حصل هذا فإن صيانة هذا النوع من المجتمع والدولة تتم بالطريقة السِّلمية نفسها، كما فعل أبو ذر الغفاري، في الوقت الذي رفع الجميعُ السلاحَ في وجه الانحراف الأموي، بِمَنْ فيهم الحسين (كرم الله وجهه)؛ فكان عليه أن يفعل كما فعل أبو ذر، ولا يُدخِل المجتمع في أزمة لم تُحَلَّ حتى اليوم: مازال الشيعة في ذكرى عاشوراء يضربون أنفسهم بالسواطير والسلاسل، ندبًا وحزنًا على الحسين، فتحولوا في ذلك إلى “طائفة حسينية” أكثر منها “دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبراهيمَ حَنيفًا” (الأنعام 161). وهو كلام ثقيل على الشيعة، ولكن يجب أن يقال.

ويمكن لنا أن نسجِّل للإمام الخميني من الشيعة أنه قام بأعظم ثورة سلمية ضد الظلم، ليس على طريقة الحسين بالسلاح، بل على طريقة الصحابة: كان المتظاهرون يضعون الورود في فوهات بنادق الجنود، وانتصر الدم على السيف. وهي ليست طريقة “حزب الله” في لبنان التي اعتمدت القوة: فهي قد نجحت في طرد الإسرائيليين من جنوب لبنان بالتعاون مع آخرين، ولكن ليس في إمكانها ترسيخ الديموقراطية؛ وقد وجدناها في خندق واحد مع النظام السوري، حتى مَنَّ الله على اللبنانيين أن يتخلصوا من “الجاندارما” والمخابرات والذل.

وبعد قيام الدولة والمجتمع سلميًّا وصيانته سليمًا، فإن هذا المجتمع المتحرر من القوة يحاول وضع يده في يد أية قوة عالمية عادلة، من أجل رفع الظلم عن الإنسان، أينما كان ومهما دان. ونتائج هذا أننا قد نضع أيدينا مع “كافر” عادل ضد مسلم ظالم.

وتبقى زاوية مظلمة، لا بدَّ من شرحها: هناك مثال المقاومة الفلسطينية، التي لم تمشِ الخطوات الطبيعية في إنشاء المجتمع والدولة وفي استيلاد الإنسان المتحرر من القوة. فهذه القوة تصادم قوة أخرى. وهو صراع يحدث بين قوى كثيرة في العالم، مثل صراع التماسيح والسباع في الغابة! وهذا لا علاقة له بمفهوم الجهاد الذي نتحدث عنه. ولا يوجد اليوم مجتمع إسلامي متحرر من علاقات القوة، تخلَّص من مرض المستكبِرين والمستضعَفين. فيجب الانتباه إلى هذا.

ونقطة أخرى هامة، وهي أن هذا المجتمع المتحرر من القوة (على افتراض تحقُّقه) يدافع عن نفسه بقوة السلاح – إذا لزم الأمر – لدى العدوان عليه. وهو ما اختلط على الشيخ القرضاوي في تعليقه على جودت سعيد. فلا يوجد “جهاد طلب ودفع”؛ بل الجهاد هو تشكيل “فِرَق إطفاء حريق” عالمية لنجدة المضطهَدين في الأرض، من أيِّ دين أو ملَّة كانوا. وهو المشروع الذي اشتغل عليه إيمانويل كانط في كتابه نحو السلام الدائم Zum ewigen Frieden، حيث تخيل ما يحدث اليوم من قيام جمعية الأمم المتحدة – لولا أن مجلس الأمن الإجرامي يتمتع بحق الفيتو الذي فيه. ولو أن مجلس الجمعية تحوَّل إلى پرلمان دولي، يتمتع بصلاحية تنفيذ القرارات، إذن لتحقَّقتْ فكرةُ الجهاد، وتشكَّلت الدولةُ العالمية التي تفض النزاعات وتوفِّر الأمنَ للجنس البشري، “حتى تضع الحربُ أوزارها”، كما تنبأ القرآن (محمد 4)، تمامًا كما فعلت الدولةُ للأفراد، فلم تبقَ نزاعات؛ وإن حصلتْ نزاعاتٌ كهذه، تتدخل الدولة وتفضها بالقوة. فهذا هو الجهاد الداخلي، وذاك هو الجهاد العالمي.

هذا هو مجموع الأفكار في اختصار. ويجب تنزيل الآيات منجمة، على هذا القانون الداخلي للقرآن. وبذلك تُفهَم آياتُ “كفوا أيديكم” (النساء 77)، و”قاتِلوهم يُعذِّبْهم الله بأيديكم” (التوبة 14)، و”ولا تعتدوا إن الله لا يحبُّ المعتدين” (البقرة 190، المائدة 87)، و”لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرِجوكم من دياركم أن تَبَرُّوهُم وتُقسِطوا إليهم” (الممتحنة 8). وبهذه الصورة ينكشف الغطاءُ عن الوجه الإنساني للإسلام، ويُفهَم فهمًا منطقيًّا، وليس كعدوان من النوع الخطير الذي يطرحه القرضاوي وغيره، من “جهاد الطلب” وشنِّ الحروب في الأرض.

هذا الكلام منطقي ومتماسك ومتوازن، ويمكن التحدث به في أيِّ مجلس دولي والدعوة له، كما فعل الفيلسوف الألماني كانط بمشروعه للسلام العالمي (1795). وأهمية هذا الطرح تكمن في أن العالم يظن (أو يتوهم) أن الإسلام دين حرب وضرب واغتيال وقطع للرؤوس؛ كما أن الكثير من الشباب المغفَّل والجاهل تنطلي عليه أفكارُ المتطرفين، فيموت في جبهات يظن أنها تُدخِلُه الجنة، فيدخل النار التي “وَقُودها الناس والحجارة” (البقرة 24، التحريم 6)!

http://maaber.org/issue_december05/non_violence1.htm

http://maaber.org/issue_march06/non_violence1.htm