دارين أحمد
ليس اللاعنف وليد الحاضر فقط، بل هو، كما يؤكد اللاعنفيون الكبار، قديم قدم البشرية، إلا أنه، وبدءًا من التجربة الغاندية، قد انتقل، على مستوى الواقع، من الأنساق الضيقة إلى النسق الرحب، أي تحول من حالات فردية أو جماعية، إلا أنها متفرقة وذات أثر محدود في التاريخ، إلى عامل مهم في صنع التاريخ. يمكننا القول إن التاريخ قد احتفظ بالنزاع كمحرك لمسيرته إلا أن إدارة النزاع قد أخذت بعدًا جديدًا، أكثر إنسانية، مع دخول اللاعنف كإستراتيجية فعالة للوصول إلى حل.
قبل أن نستعرض الكتاب[1]، محور المقال، سنمر على أكثر مغالطات فهم اللاعنف والتي تشكل عائقًا كبيرًا أمام انتشار هذا التجديد الفكري-الواقعي في نظرتنا إلى، وعلاقتنا مع، مشكلاتنا المحلية والعالمية. يمكن تلخيص هذه المغالطات في نقاط ثلاث:
الأولى: لافعالية اللاعنف. ما يزال يُنظر إلى اللاعنف على أنه انسحاب من الفعل، انسحاب سلبي قوامه العجز والضعف. ومن أسباب هذه الرؤية نذكر:
1 – التاريخ الذي مجَّد العنف على حساب السِّلم، والذي تسلتهمه الآن مجتمعاتنا المتهاكلة كمنبع وحيد لإحياءها.
2 – الإعلام بمنافذه كلها مساهمٌ أساسي في تأكيد العنف، وتجاهل التجارب اللاعنفية.
2 – طريقة تفكير “الأبيض-الأسود”، والتي تقسم الواقع إلى حيزين متعارضين لا يمكن الجمع بينهما، وتلصق صفات دائمة وأزلية بكل حيز بحيث يغدو من المستحيل رؤية أو فهم العلاقة بينهما إلا بعين التناحر الأبدي؛ بالترافق مع نحوها – أي طريقة التفكير – إلى الاختزال أكثر وأكثر، فالشجاعة والقوة والجسارة والإقدام قد اختزلت إلى التدميرية التي توسم بالإيجاب، والتنازل والصبر والتحمل والرقة والسِّلم قد اختزلت إلى الضعف[2]، والذي يوسم بالسلب.
3 – استبدال “الخصم” بـ”العدو”، ففي حين يعد الخصم إنسانًا، أو دولة، ذي مصالح متعارضة مع مصالحنا وتجب على كلينا محاولة الوصول إلى تسوية، يعد العدو “شيئًا” لاأخلاقيًا لا يمكن، بالمطلق، التعامل معه إلا بتدميره.
الثانية: اللاعنف والمثالية. ما يزال اللاعنف، خاصة في ثقافتنا العربية، رديف المقولة المثالية المسيحية “من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر”. ولهذا الترادف مساؤى تتمثل أساسًا في نقطتين:
– الأولى في كونه يقصر اللاعنف على دين واحد في ثقافة ما يزال فيها الدين عامل الهوية الرئيسي، وهي ثقافة ذات أغلبية ديمغرافية مسلمة، وفي واقع يعد فيه الإسلام أحد منابع العنف الفكرية. المشكلة الأساسية في هذا القصر هي في تناقضه مع أحد أهم مميزات اللاعنف: أي كونه مكانًا مفتوحًا للجميع أطفالاً وشبابًا وشيبًا، نساء ورجالاً، أقوياء وأصحاء، على العكس من العنف الذي يتغذى على شباب وصحة و”ذكورة” المنافحين عنه. بهذا المعنى يمثل اللاعنف نقلة على المستوى الإنساني، فمن الترتيب البطريركي الذي يفرضه العنف عبر الأدوار الموكلة للمنضمين إليه، إلى المساواة التي يقدمها اللاعنف للمشاركين فيه، إذ يستطيع كل شخص أن يكون فعالاً على قدر إمكانه، وفي نفس المستوى، بدون أية تمييزات جندرية أو عمرية أو ثقافية.
– الثانية في تناقض مثالية المقولة المسيحية مع واقعية اللاعنف، فاللاعنف، كما يقول ديفيد مكرينولدز، لا يُعرف إلا على محك الواقع. وهو ليس نظرية فلسفية أو أخلاقية فقط، رغم ارتباطه الوثيق بالفلسفة والأخلاق، بل هو، أيضًا، استراتيجية واقعية قد تنجح وقد تفشل حسب ظروف استخدامها، إلا أنها، وهي مميزة أساسية أيضًا من مميزات اللاعنف، توحد الغاية والوسيلة، مما يساهم، حتى في حال فشل حركة لاعنفية ما في الوصول إلى الهدف المحدد آنيًا، في تأسيس مجتمع أفضل هو الغاية النهائية للفعل الإنساني.
ثالثًا: اللاعنف والتقنية. اللاعنف ليس تقنية أو استراتيجية معزلة عن الهدف المطلوب. طبعًا يمكن استخدام تقنية اللاعنف ضمن تقنيات أخرى عنفية لكن اللاعنف هنا يفقد فعاليته الإستراتيجية. يقول جان-ماري مولَّر، أحد المفكرين اللاعنفين الذين يمكن أن نطلق عليهم صفة براغماتيين، بهذا الصدد إن “نشاطًا فيه 90 في المئة لاعنف و10 في المئة عنف هو نشاط عنيف استخدمت فيه تقنيات لاعنفية”، وهذا ما ينزع عن اللاعنف، في حال اعتماده كإستراتيجية نضال، فعالية أثره التي يفترض أن يوقعها في الخصم وفي الرأي العام وفي المشاركين كذلك.
إن تجاوز المغالطات السابقة شديد الأهمية عند الرغبة في التعرف على الفكر اللاعنفي الذي يقدم هذا الكتاب، الذي بين أيدينا الآن، بعضًا منه.
يتحدث الكتاب عن اللاعنف من منطلق تجربة حية خاضها المؤلف، مركزًا على مجمل القناعات التي تشكلت من الواقع كما من قراءات متعددة، ويبدأ من افتراض أساسي يقتضيه اللاعنف وهو نسبية رؤية الإنسان للحق، عدم قدرة أي إنسان على الوثوق ثقة مطلقة من أنه على حق ونفي هذه الثقة عن الآخر “الخصم”. الواقع في تغير دائم، وهذا التغير يتم عبر النزاع، مما يعني وجودًا دائمًا للخصم. الجديد الذي يقدمه اللاعنف هو في إدارة جديدة للنزاع، إدارة أكثر إنسانية، تأخذ بعين الاعتبار فرادة الكائن البشري – الذي هو الخصم أيضًا-.
تغيير الواقع لا يمكن أن يتم بدون ألم، لكننا، في المقابل، لن نتحول إلى ممجدين للألم حتى لو كان ذلك باسم العدالة. وهنا يتناول مكرينولدز مفهوم العدالة مميزًا بينها وبين الثأر، فالعدالة ليست هي الثأر أبدًا، وإذا كنا نريد التغيير فيجب أن نتحرك نحو الأمام لا أن ندور في حلقة الثأر المغلقة. هذا التحرك لا يمكن أن يحدث بدون تجاوز رغم أن التجاوز قد ينقض العدالة بمفهومها الأبسط. في اختصار، العدالة هي سعينا لتحقيق شروط أكثر إنسانية لحياة البشر، هي إصلاح ما أفسده غيرنا؛ وليست في إفسادٍ مقابل.
هل يتطلب اللاعنف خصمًا إنسانيًا؟ يتسأل مكرينولدز بصيغة أخرى: “ولكن ماذا عن هتلر؟”. ويجيب بأنه لا يمكن معرفة أثر اللاعنف في مواجهة مثل هذا الخصم، فاليهود لم يكونوا لاعنفيين بل سلبيين، كما أن هناك توثيقات مهمة لانتصارات لاعنفية عديدة في أوروبا ضد النازية، ففي النرويج حصل إضراب ناجح للمعلمين ضد تدريس الإيديولوجية النازية، وفي بلغاريا حالت المقاومة المدنية العفوية دون إرسال اليهود خارج البلاد. ويبين مكرينولدز أن البريطانيين والأمريكيين الجنوبيين لم يكونوا بهذا اللطف، المنقول عنهم، في صراعهم مع الهنود أو مع جماعة كينغ. صحيح أن الظروف قد ساعدت على إنجاح الثورة اللاعنفية في كلا المكانين وأفشلتها في أمكنة كثيرة أخرى، إلا أنه يجب أن يُفهَم أن اللاعنف قد يخسر أيضًا، مثل العنف تمامًا، إلا أنه يتميز بأن هدفه النهائي ليس النصر فقط بل تغيير الواقع نفسه، وهو ما ينجح فيه، حتى ولو لم يحقق غايته الآنية، عبر البرنامج البنَّاء الذي لا يكتمل النشاط اللاعنفي بدونه.
غاية النشاط اللاعنفي متضمنة في وسيلته. غاندي لم يسعَ إلى خروج البريطانيين من الهند “فقط” بل ألح وأكد وجهد في سبيل استقلال الهنود أنفسهم أولاً، مسيرة الملح ودولاب الغزل أمثلة رائعة. سيزار تشافير كان أول مؤسس لنقابة العمال الزراعيين، وقد عمل على توعية العمال بحقوقهم وبمخاطر المبيدات الحشرية بالإضافة إلى أنه أعاد إليهم الأمل بقدرتهم على إحداث أثر. كينغ فعل ذلك أيضًا من خلال فعل شديد البساطة كالمشي.
إذًا اللاعنف يبني غايته عبر أنشطته ذاتها وهو بذلك يتميز عن العنف الذي يضيف إلى الخسارات خسارات جديدة، ويرجئ الإيجابية إلى زمن مجهول غالبًا ما تضيع فيه الإيجابية ذاتها، كما يؤكد التاريخ.
*** *** ***
[1] فلسفة اللاعنف، ديڤيد مكرينولدز، ترجمة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2009.
[2] الضعيف، في هذا الفكر، عنيف كامن، إذ أن سِّلمه ليس ناتج قوته، كما يفترض اللاعنف، بل ناتج نقص إمكانيات العنف لديه، ومتى تغيرت ظروف هذه الإمكانية استبدلت الأدوار بينه وبين التدميري بسهولة لا تخفى على أحد.
http://maaber.org/issue_may09/books_and_readings3.htm