توفيق رباحي: حرب نفسية شاملة تـُشنّ على الجزائريين

انفردت الجزائر بأخبار الفساد المالي والسياسي تتفوق بها إقليميا وتنافس بها عالميا. والفضل للعصابة الحاكمة منذ 1992 التي تعززت بدماء جديدة في 1999 أكملت مهمة تركيع البلد بإتقان.
بالمقابل، ولأنها تدرك حجم وخطورة ما اقترفت يداها، تعمل هذه العصابة بقوة، لكن في صمت، على نشر ثقافة الإحباط بكل أنواعه تجاه شعب كامل حتى يضيع بين الحقائق والأوهام، ويفقد القدرة على التفريق بين الصح والخطأ. هذا إلى جانب تكريس نظرية المؤامرة بمفهومها التقليدي والمنتشرة في كل البلدان. في هذا السياق:
يعلن رئيس الحكومة السابق أحمد بن بيتور اعتزامه الترشح للانتخابات الرئاسية (خلفا للرئيس الذي ‘طاب جنانو’، لكنه لا يتخلى عن الكرسي)، فتنتشر إشاعات وكلام عن أن: ‘الجماعة’ ـ أو جناح منها ـ وراءه.
والمقصود بالجماعة هنا، تلك المجموعة من الأشباح (من مدراء أجهزة المخابرات والأمن ومساعديهم ولوردات المال الوسخ ولصوص السياسة وغيرهم) التي سطت على البلاد وقذفت بها إلى هذا القاع السحيق الذي لا مخرج منه إلا بمعجزة إلهية.
ويُعلن معارض جزائري موقفا معينا أو يكشف عن معلومة حساسة، فينتشر عقب ذلك كلام من نوع: ‘الجماعة’ (العصابة ذاتها) حركوه بغرض ضرب فلان أو علان.
يعلن دبلوماسي أو ضابط رفيع انشقاقه قرفاً من دسائس قيادته ومسؤوليه، فيخرج للناس رجل اسمه خالد نزار ـ مطلوب للعدالة الدولية بتهمة ارتكاب تعذيب وجرائم حرب في حق أبناء شعبه ـ ليكذب عليهم بلا حياء: لقد فرّ لأننا رفضنا التمديد له للبقاء في الخارج.
تسأل عن شخص اختار أن يبقى بعيداً عن نظام الحكم البائس هذا ويتمسك انتقاده باستمرار، وتبدو عليه الكثير من شروط النزاهة والاستقلالية، فيرد عليك أحدهم: لا، إنه على صلة بالجماعة عن طريق وسيط اسمه كذا ودوره كذا، وأنا أعرفه شخصياً!
تثار قضايا فساد تشكل وصمة عار على ما تبقى من الدولة الجزائرية ومن يسيّرونها، فتصل بشق الأنفس إلى مكاتب القضاة (مجرد وصول ولا شيء يضمن أنها ستـُعالج وينال اللصوص جزاءهم) فتـُـسرق الملفات بسهولة شديدة ذات ليل من المجلس القضائي (إحدى البنايات التي يـُفترض أنها الأكثر تحصينا في المدينة) وينتهي كل شيء (راجع صحيفة الخبر الجزائرية السبت 30 مارس الماضي).
تجري بقايا أجهزة الدولة تحقيقات في قضايا فساد وتلاعب في عمل إدارات الجمارك في الموانئ والمطارات، وتتوصل إلى فضائح تقشعر لها الأبدان أطرافها حيتان الحكم وزبانيتهم، فتُـحرق المخازن بليل وبسهولة مثيرة للاستغراب.
وبدلاً من حديث نزيه عن مضمون الوثائق والملفات التي أُتلفت أو سُرقت، يبدأ نقاش ـ عقيم في أغلب الأحوال ـ عمّن سرق وكيف ولماذا. ولا تصل التحقيقات، كما هي العادة، إلى نتيجة، إذ سرعان ما ينسى الرأي العام وينشغل بقضية أخرى.. ففي الجزائر من الفساد وأخباره ما يكفي لشغل الناس خمسين عاما دون أن يُحاسب واحد من مصاصي دماء الجزائريين (عدا تماسيح صغيرة نالت الفتات، تُرمى في السجون عند الضرورة).
يرد اسم وزير النفط السابق، شكيب خليل، غارقا حتى أذنيه في رشاوى وفساد مالي عابر للقارات، أقل وأبسط ما يـتطلبه مصادرة جواز سفره، فتصدر الصحف معلنة أن خليل باع كل ممتلكاته وغادر الى خارج البلاد (هكذا ببساطة) ولا أحد يعرف مكان وجوده. ولإضافة ملح على الجرح، تـُعلن المديرية العامة للأمن أنه غادر بطريقة نظامية من مطار العاصمة الدولي لأن القضاء لم يطلب ـ منها ـ إدراجه في قوائم الممنوعين من السفر.
هذه أمثلة سريعة على سبيل المثال لا الحصر.
إذا كان هناك من عنوان يجوز إطلاقه على هذه اللوحة المأساوية، فهي أنها حرب نفسية شاملة على الشعب الجزائري. رسالتها إلى الجزائريين: أخبطوا رؤوسكم على الحيط! لا أحد يحاسبنا. لا أحد أقوى منّا. كلكم تحت أحذيتنا. لا تستبشروا عندما تقرؤون في الصحف أخبارا عن تحقيقات في الفساد. لا أحد يحاسب أحد. الكل فاسدون. لا تحقيق يصل إلى مبتغاه. لا لصّ من الكبار يـُسجن.
وأيضاً: لا أحد ممن تشاهدون على الشاشات المعارضة نزيه. لا أحد خارج السيطرة. لا شخص جدير بالثقة. لا أحد يملك الحل. لم تلده أمه بعد من سيزعزع عروشنا. نستطيع الوصول إلى سمعة أطهركم وتلطيخها كيفما نشاء.
إنها سياسة تخريبية خطيرة استمرت سنوات طويلة فكانت نتيجتها قتل ما تبقى من ثقة لدى الناس وأمل في رؤية الحق والعدل ينموان في تلك البلاد.
وقد تحقق الهدف. فلا غرابة أن الجزائريين لا يصدّقون اليوم أحداً، ولا يثقون في شيء. ولا غرابة أن ترى حالة اليأس واللامبالاة وقد استشرت بينهم ورمتهم بعيداً عن الشأن العام.. من صغيره إلى كبيره، كلُ مهموم بنفسه ومصيره، ينظف شقته ولا يهمه لو تراكمت أطنان القاذورات في مدخل عمارته. يضمن راتبه ولا يهمه لو احترقت الجهة التي توظفه. يأمن على أولاده ولا يهمه لو انحرف المجتمع بإسره إلى الشرور والأمراض النفسية والاجتماعية. غياب فادح للشجاعة الأدبية وروح المسؤولية، وحالة من الاستسلام لم يصلها المجتمع الجزائري حتى أثناء أحلك فترات الاحتلال الفرنسي، كما يقول شيخ مخضرم اقترب به العمر من التسعين.
لو كرست هذه العصابة هذا المجهود الشرير وما يصحبه من فاتورة مالية في خير الشعب والبلاد، لكانت الجزائر اليوم يشار لها بالبنان، لا كدولة فاسدة يستحي بها أبناؤها، بل نموذجاً يُحتذى.
إنها حصيلة أخرى تضاف إلى سجل من انقضّوا على الجزائر المسكينة واتخذوها رهينة. سجلّ أسود يجب أن يـُحاسَبوا عليه… ولو في قبورهم.

2013-04-01
توفيق رباحي
‘ إعلامي جزائري

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\01qpt698.htm

Comments (1)
Add Comment
  • youcef

    اصلا الجزائر لا يوجد فيها احد وطني يحب وطنه اخر واد مجيف الكونتور انتاع التريسيتي ،بالنسبة لي واحد يسرق دولته ماهوش وطني ما كانش واحد يبدا ينظر علينا ،شكرا استاذ توفيق