حتى تحدد كيف تتعامل مع رجل القمع، يجب أن تحدد كيف تنظر له، وهل يمكن أن يصبح له دور في مشروعك أم لا؟ ومن هو رجل القمع؟! ولماذا يكرهك؟ وهل حقاً يكرهك؟! أم أن أحداً أقنعك بهذا تماماً مثلما فعلوا معه؟!
إن مدخل التعامل مع رجل القمع أن تفهم من هو، وكيف يراك؟ وهل قضيتك تمسه سلباً أم إيجاباً؟ وهل تحسن عرضها له أم تجعله يكفر بها؟ خاصة أنه في ظل الديكتاتوريات يكون في بيئة تجعله يكفر بكل ما حوله، باعتباره خطراً عليه.
عادة ما يُعبأ مستوى الجنود في قوات القمع ذهنياً على أن من أمامهم عدو يريد أن يفتك بهم، وبالتالي فالجندي في البداية متربص، وهو أيضاً قلق مرتبك، على عكس ما تبدو صورته في الزي الخادع، خائف من قيادته من جهة، ومن بطش المحتجين من جهة أخرى!! أضف إلى ذلك أنه ربما ترك أهله .. خطيبته.. أمه .. لعله يعيش أسوأ أيامه!! فأنت كابوس جاثم على صدره، تماماً مثلما تراه كابوساً مزعجاً.
إن المحتجين (خاصة الصفوف الأولى المواجهة) يلعبون دوراً مهماً في رسم صورة المحتجين لدى قوى القمع، إما أن يؤكدوا لهم الصورة السائدة المخيفة أو يغيروها. لذلك تبدأ معركة محلها العقل، يعمل أبطالها جاهدين على تغيير نظرة رجل القمع للمحتجين بل ومشروع التغيير برمته، مع يقينهم أن جندي القمع في النهاية سيمتثل للأمر وقتما يصدر له، لكن هذا لا يعني أن القصة انتهت بمجرد توجيه الأمر.
يشاع أن رجل القمع في النهاية يستجيب للأوامر العليا، فهو أداة، وبالتالي فمحاولة إقناعه بأي شيء غير مجدية، وإظهار الود له يدل على ضعف سيستثمره لاحقاً، لأنه فور أن يأتيه الأمر بالاشتباك سينقض كالثور الهائج. يبدو هذا الكلام مقنعاً عند النظرة الأولى، حين نقرر أن نرى البشر آلات شرسة، لكن بنظرة أدق ستجد قوات الأمن ليست آلات – وإن كان يراد لها أن تكون كذلك، هي مجتمع كامل خلف الزي الرسمي، مجتمع بشري فيه الفرح والألم، وفيه جلسات السمر والمواقف المتأزمة، فيه الكثير من العلاقات الإنسانية خاصة بين المستويات الدنيا (الجنود)، كما أن درجة رضا هذا المستوى عن القيادة المباشرة أو العليا متفاوتة، كما أن تأثرهم ببعض حاضر طول الوقت، فالتمكن من تغيير موقف رجل واحد من رجال القمع، كفيل بإحداث هزة وسط الصفوف، ولو على الصعيد النفسي، خاصة إن كان هذا الرجل محبوباً وسطهم إما لأنه شهم أو مرح أو صاحب خلق.. الخ.
تقوم فكرة اللاعنف على نزع أداة القمع من الديكتاتور، وخلق المجتمع القوي الذي يقوم فيه كل قطاع بدوره، ولا يستثنى من ذلك القطاع الأمني، حيث يحول ولاءه لخدمة المجتمع لا الديكتاتوريات. ولا يتم هذا التحول في الولاء إلا بتحرر في العقول، في نظرته الكلية لما يجري. وهذه مهمة أساسية لقوى التغيير، فكما تعمل لتحرير عقول الجماهير، فإنها تعمل على تحرير عقول قوى القمع. وهذا هدف استراتيجي في حرب اللاعنف.
وعملية تحرير عقول قوات القمع تكمن صعوبتها في أن تلك القوات في الغالب مبرمجة على النظر للمحتجين بشكل معين، في الغالب يتسم بالعداوة الشديدة، لذلك يلجأ المحتجون أحياناً إلى المبالغة في مظاهر سلميتهم، كالحوار المباشر معهم، وتقديم الطعام لهم، وتقديم الماء مع كتابة شعارات على الزجاجات من قبيل .. “أخي.. اشرب لقد تعبت من الوقوف اليوم”.. حوار مستمر يجريه المحتجون مع قوات القمع لتغيير نظرتهم أولاً، ومحاولة كسبهم من جهة ثانية. هم لا يخاطبون النظام، بل يخاطبون إخوانهم في المعسكر الآخر.
هذا النموذج تكرر في محاولات عدة، ففي الثورة الصربية عام 2000 حرص المحتجون على كسب رجال القمع، ومحاولة منهم لتقليل التوتر قدموا النساء والأطفال وكبار السن وقدامى المحاربين في الصفوف الأولى، بحيث لا تتوتر قوات القمع أو تُستفز.
هدف هذه الإجراءات هو تغيير التصور وتحرير عقل رجل القمع، وهي قد لا تؤتي ثمارها من أول مرة، فبعد كل نشاط للمحتجين يدور حوار داخلي في معسكر القمع، هذا يقول إنهم يخادعوننا، فيرد آخر هل رأيت تلك العجوز؟! هل تتصور أنها جاءت لخداعنا؟! ثم يقول ثالث.. أي عجوز ألم تر الشباب يسبنا بأسوأ الألفاظ؟! وفي خضم هذا الحوار يأتي أمر الاشتباك، فيتحرك الجنود لينفذوا للتو، فإن تأكدت لديهم الصورة حتى وهم يقمعون، يعودون أدراجهم بعد انتهاء اليوم ليتناقشوا، أو ليسترجع كل منهم ذكريات اليوم على حدة، سيبرر كل منهم لنفسه ما قام به، مستعيناً ببعض المشاهد التي رآها، هذا ألقي عليه زجاجة حارقة، وآخر سب أمه بأفظع الكلمات، لكنه في المقابل يتذكر مشاهد أخرى، عجوز يقول له “يا ابني .. أنا في عمر أبوك”.. وأم تخاطب نخوته… إنها رسائل متباينة تصل إلى قوى القمع، بعضها يؤكد النظرة العدائية، والبعض الآخر ينفيها تماماً، ومئات الرسائل بين هذه وتلك.. من يتبنون أسلوب اللاعنف يعلمون أن دورهم هو تأكيد رسائل محددة حتى لا تضيع في فوضى الرسائل، ولا يجزعون من استمرار استجابة قوى القمع للأوامر، فهم يعتبرون أن تنفيذ الأوامر يعطيهم المزيد من الفرصة للتفاعل معهم وتأكيد رسالتهم، ودورهم التفنن في ردود الأفعال التي تزيد مشاهد تألم قوى القمع مما ارتكبته، في مقابل مشاهد تبرير ما فعلوه.
تتسرع قوى التغيير أحياناً، وتقول لقد جربنا وسائل مشابهة ولم تُجْد، هؤلاء لا يشعرون ولن يتأثروا كثيراً بسلميتنا، لكن الحكم أن وسائلهم لم تؤت أكلها سابق لأوانه، فتجربة الوسائل لا تعني أن تلمس أثرها مباشرة، أنت تراه يمارس نفس السلوك، لكنك لا تدري ما يجري في عقله، ولا تدري شيئاً عن الحوارات الداخلية التي تدار في معسكر قوى القمع. وربما يأتي في اليوم التالي ليقف أمامك باحثاً عن أجوبة بعينها في سلوكك، فإما أن تؤكد له ما يدور في باله من أفكار قديمة، أو تنتصر للتصورات الجديدة التي بدأت تغزو عقله. لذلك كان كل نشاط في فلسفة اللاعنف قائم على تحرير العقول.
إن النشاط ثم القمع ثم العودة لإجراء الحوار عبر أنشطة جديدة يمكن اعتبارها سلسلة متصلة لمخاطبة قوى القمع، هدفها في النهاية أن يتحرر ذلك الجندي وينحاز بدوره للمطالب العادلة. وكلما أفرطت القيادة في توجيه أوامرها بالقمع، وأفرط المتظاهرون في التعبير السلمي وإيضاح قضيتهم ومدى عدالتها وإصرارهم على استمرار ذلك الحوار؛ شعر “مجتمع القمع” بالبون الشاسع بين سلوك القيادة وسلوك من يفترض أن يقمعهم، وحينها تتضاءل المبررات التي تسول له فعله من المشهد.. هذا ما يُحدث لاحقاً تطوراً في موقف أفراد ثم مجموعات من مجتمع القمع، قد يكون بشكل مباشر كأن تبدأ موجات الامتناع عن قمع المحتجين، أو بشكل غير مباشر كأن يأخذ شكل التباطؤ في تنفيذ المهام، أو تقديم معلومات خاطئة.
إن تحديد شكل التعامل مع قوات القمع يخضع للاستراتيجية المتبعة، ماذا تريد منهم؟ وهل يمكن إقناعهم بلعب دور غير الذي يقومون به؟! كذلك يخضع لطبيعة تلك القوات، هل هي قوات قبلية عائلية أم طائفية أم تمثل الشعب بتنوعه. فكلما كانت قوات القمع تمثل الشعب؛ كان تحرير عقلها أكثر إمكانية، لأن القضايا التي تشغل الشعب تحيط بهم في بيوتهم عبر آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم. وقوى القمع من أسر متباينة في الطبقات تمثل المجتمع العادي.
كانت ثورة الخميني من الثورات التي جسدت تلك المعاني بوضوح حين أطلق نداءه المشهود للمتظاهرين: ”لا تهاجموا الجيش في صدره، ولكن هاجموه في قلبه”، إذا صدرت إليهم الأوامر بإطلاق النار عليكم، فلتعروا صدوركم، فدماؤكم والحب الذي ستظهرونه لهم وأنتم تسلمون الروح لبارئها سوف يقنعهم؛ فدماء كل شهيد ناقوس خطر يوقظ آلافاً من الأحياء”.. هذه كانت نصيحة الخميني للثوار في إيران عام 1979… ترى هل كان الخميني جباناً أم استراتيجياً حكيماً؟؟
وائل عادل 31/1/2012
http://aoc.fm/site/node/737