التعامل مع القمع المفرط

يتبادر سؤال في الأذهان حول حالات القمع المفرط التي لا يستخدم فيها النظام إلا الأساليب الدموية لمحاولة وأد مقاومة شعب أعزل، كأن يستخدم مرتزقة تنتهك الحرمات، فتقتل وتروع، أو يوظف قوات الجيش بكل آلياتها البرية، والبحرية والجوية، في حرب شاملة على الشعب، يقتل فيها العزل فيقصف المنازل ويدمر الأحياء، ليقتل الرضع، والأطفال، والنساء، والرجال، بل وأحيانا الحيوانات بلا هوادة في مجازر بشعة للحفاظ على العرش…!! هل يمكن لللاعنف بصورته النموذجية السلمية أن يتصدى لهذه الجريمة؟ وما الذي يملك شعب أن يقوم به إزاء محاولات الإبادة الجماعية والتهجير والتطهير العرقي؟
هذا المقال مخصص لهذا المستوى المفرط من العنف، مثلما حدث في كوسوفو ضد القرويين الألبان في عام 1998، ولاينطبق على قوات مكافحة الشغب التي تتبنى إرشادات علمية، محددة، مقننة محلياً، وعالمياً، وأخلاقياً لفض تظاهرات أو احتجاجات.
وإجابة السؤال تتطلب الإشارة للمستويين الأوليين لحرب اللاعنف: الفلسفة والاستراتيجية، قبل الاستفاضة في الحديث عن المستوى الثالث “مستوى التكتيكات”.
على مستوى الفلسفة لابد للتعرض إلى سؤال: ماهو الشكل النهائي للمجتمع الذي يريده المقاومون؟
وعلى مستوى الاستراتيجية: ما المسار الأفضل لتحقيق هذا المجتمع؟
وأما على مستوى التكتيك: ما هي التكتيكات المناسبة لإنجاح هذا المسار؟
أولاً: مستوى الفلسفة
الهدف النهائي من أي صراع سياسي صحي، هو بناء مجتمع قوي، حر، متماسك، منتج، يحترم التعددية، يدور الصراع السياسي فيه عبر وسائل مدنية، وليس مغلوباً على أمره بالقوة العسكرية، أو الأمنية التي غالباً ماتحتكرها أجهزة النظام.
أما عن موقفه من الحكومة فهو ليس معتمداً عليها بقدر ما هي معتمدة عليه، فهو الذي يملك القدرة على دعمها أو معارضتها أو تغييرها، متخذاً من اللاعنف مساراً لضمان توزيع القوة بشكلها الصحيح داخل المجتمع.
ثانياً: مستوى الاستراتيجية
يطرح المسار اللاعنيف نفسه كأحد أقوى المسارت التي تؤدي إلى إعادة توزيع القوة في المجتمعات، وإعادة تعريفها، وتحديد موقع القوة العسكرية من المجتمع كوسيلة لحماية حدوده، لا يسمح المجتمع باستخدامها من أي طرف في إدارة الصراع السياسي الداخلي، ذي الطبيعة المدنية الصرفة.
وعلى المستوى الاستراتيجي تأتي القاعدة: إن كل ما يدعم بناء المجتمع القوي يصبح صحيحاً، وكل مايؤدي إلى ضعفه يصبح مرفوضاً. وينبغي فهم كيفية التعامل مع القمع في هذا السياق. فإجابة سؤال كيفية التعامل مع القمع لا تنفصل عن إجابة سؤال أساسي في مسار التغيير: إلى أين نريد أن نصل بالمجتمع؟ يجب أن نحدد، هل نريد مجتمعاً متماسكاً أم مفتتاً؟ الكلمة العليا فيه لمن يستند إلى السلاح أم لمن ينحاز إلى الشعب؟
ثالثاً: مستوى التكتيك
أما على المستوى التكتيكي، فمع الحفاظ الدائم على تقوية حراك اللاعنف، ووضع ذلك كمعيار دائم تقاس عليه صحة المسارات التكتيكية، يتم تحليل استراتيجية النظام، ومراده من القمع؟ هل تخويف الناس؟ هل حصد المجموعة الجريئة واستنزاف الحراك الشعبي؟ هل يهدف إلى جر المجتمع إلى دوامة العنف؟ وإبعاده عن مركز قوته (اللاعنف)، فيقتل المقاومة من جهة، ويمرر لها السلاح من جهة أخرى ليجرها إلى الساحة التي يتفوق فيها عليها، ويخدعها كي تظن أنها تقاتله؟!
وهنا يجدر على المقاومة أن تعي جيداً، أن الانجرار غير الواعي إلى العنف، يضعف الحركة المقاومة ولا يقويها، وإن الضابط الأساسي لاستخدام بعض التكتيكات العنيفة إن لزم الأمر، هو الدفاع عن المسار اللاعنيف، في مقابل عمليات قصف وإبادة وحشية يمارسها النظام، حتى لا يفقد المقاومون مصدر قوتهم، ولا يستنزف عنف النظام مواردهم. فمثلاً جنوح عقل الجموع إلى أن الحل الوحيد المتبقي هو العنف المضاد، خطأ قاتل، حيث أن الناتج النهائي لهذا الجنوح هو انتقال القوة العنيفة من يد مجموعة أو طائفة تحكم، إلى مجموعة أخرى قادمة متحكمة في أداة الحسم الخاطئة “العنف”. وهو ما يعد انقلاباً على الأهداف التي انطلقت المقاومة لأجلها.
بعد تحديد مراد النظام من القمع يكون الهدف التكتيكي هو قطع الطريق على القمع كي لا يحقق أهدافه. وهذا يتطلب دراسة أكثر من مسار من خلال طرح التالي:
ما هو المسار المقاوم المقترح سلوكه؟
ما تكلفته على المقاومة؟ هل يقع ضمن حدود قدرتها الاستراتيجية، أم يفوقها؟
هل يقوي مسار اللاعنف أو يضعفه؟
ما ردود الفعل المتوقعة عليه (من الجماهير والنظام والعالم)؟
كيف يمكن زيادة التكلفة على الخصم في حالة تصديه لهذا المسار المقاوم الجديد؟
كيف سيضع المسار المختار الخصم في معضلة؟
كيف ستستثمر ردود الفعل المتوقعة من النظام على هذا المسلك الجديد (الجماهير والنظام والعالم) لصالح المقاومة؟

وبعد دراسة كل مسار (بإجابة الأسئلة السابقة) يتم اختيار المسار عن وعي لا تحيز مسبق، وعن تقدير استراتيجي لموزاين القوى وبناء قدرات المقاومة لانتهاج هذا المسار، وتسديد فاتورة تكلفته المتوقعة.
ونضرب هنا نموذجاً لتوضيح الصورة.
مسار الاستسلام: قد يفكر المقاومون في مسار الاستسلام، وفي هذه الحالة يُتوقع أن يزيد القمع، لا أن يقل وأن يتم وأد المقاومة بشكل متسارع.
مسار العنف غير المدروس: قد يفكر المقاومون في انتهاج مسار الرد العنيف غير المدروس، كحمل مسدس في وجه مدفع، أو بندقية مقابل طائرة، أو جيش غير مؤهل أمام جيش نظامي مجهز، وفي هذه الحالة سيكون النظام هو أول ممول وداعم للمقاومة بالسلاح، ليجرها إلى لعبته التي يجيدها، ويحول القضية إلى اقتتال يصرح فيه الإعلام العالمي بأن انتهاك الحقوق البشرية متبادل بين الطرفين، ويطالب فقط بوقف إطلاق النار. وتكون النتيجة النهائية هي الوأد البطئ للمقاومة، عبر انحسار المشاركة الشعبية، ظناً خاطئاً من البعض أن الحسم أصبح للطرف الأعنف.
مسار اللاعنف المطلق: قد يفكر المقاومون في مسار اللاعنف المطلق ويراهنون على استعدادهم للموت باعتبار ذلك خطة لا استسلاماً، فلن يقتل النظام مئات الآلاف ممن يتلقون الموت بصدور عارية، وفي هذه الحالة لن يستمر القمع إلى ما لانهاية وسيزداد التصدع في معسكر الخصم، ويتم إحراج الدول الداعمة للنظام الديكتاتوري، وسيزداد تعاطف الجماهير، وهذا المسار يتطلب استعداداً نفسياً عالياً على المقاومة أن تعد نفسها له جيداً إن اختارته.
مسار العنف المدروس: قد يفكر المقاومون في العنف المدروس مثل حماية التظاهرات، والهدف هنا هو التصدي لإحدى العقد الاستراتيجية، كمعالجة الخوف لدى المقاومة، أو رفع الأمل والجرأة على المشاركة، أو إلقاء الرعب في قلوب من يقمعون…الخ، بحسب ما يحدده استراتيجيو المقاومة اللاعنيفة. وفي هذا المسار تطرح الكثير من الأسئلة؟ ما طبيعة العنف المستخدم؟ وما أقصى حدود له؟ ومن سيستهدف؟ وهل هو عنف هجومي أم مجرد دفاعي؟ ومن الذي سيقوم به؟ ما ضمان أن يقوم بهذا العنف المدروس أناس معروفون، مؤهلون، كالمنشقون من أفراد الجيش مثلاً، أو بعض القبائل التي يمكن تحميلها مسئولية التصدي لأي جريمة تنحرف بالمسار، كيف يمكن أن توكل مسئولية الحماية لمن لا يمكن اختراقهم، او توظيفهم في عنف غير مدروس، فالهدف هنا سيكون حماية المسار اللاعنيف، حتى لا يضطر الناس للانخراط في العنف الجاهل الذي لا يبقي ولا يذر. الهدف هو حصار العنف حتى لا يندلع بشكل هيستيري، والحفاظ على مسار اللاعنف الذي يكفل تقوية المجتمع.
وهكذا تتعدد المسارات، ويتم دراسة كل مسار وتكلفته وإمكانية القيام به. فقد يكون المسار الأفضل هو اللاعنف المطلق، لكن إمكانية تحقيقه غير متوفرة، فلا زالت الجموع تخشى الموت فلا تخرج بصدور عارية، وهذا مسار وإن كان هو الأفضل يتطلب خدمة وتقديم نموذج بارز، وقل مثل ذلك في مسار العنف المدروس، فربما كانت حماية المسار السلمي هي الأفضل، لكن لا توجد تلك الجهة أو المجموعة المؤتمنة على هذه المهمة. وبالتالي يمكن الاستغناء عن المسار والاكتفاء بحماية كل شخص لنفسه بما يستطيع توفيره من أدوات ردع. وتظل العبرة النهائية بالهدف، فإن كان الهدف مجتمعاً قوياً يخوض الصراع السياسي بوسائل مدنية، فعليه أن ينتصر لتلك الوسائل، وألا يضن على ذلك بأي تكلفة مطلوبة. ليست هذه هي المسارات الوحيدة المحتملة، ولكنها نماذج، والاستراتيجيون بارعون في تصميم استراتيجية مكافئة للواقع.
في النهاية وبعد اختيار المسار المناسب تبدأ عملية اختيار التكتيكات المناسبة، التي من شأنها أن تضمن سلامة المسار وتحقيقه لأهدافه. حتى أولئك الذين يجدون ضرورة أن يحموا نشاطهم من قمع مفرط، عليهم أن يختاروا التكتيكات التي تقول نعم سندخل في المسار الذي درسناه، وخططنا له جيداً، وسنظل دائما في مربع الفعل، ولن ننجر إلى رد الفعل عن جهل أبداً، كل ذلك وفق شروطنا، وبناء على معاييرنا العلمية، ليجد الخصم نفسه في النهاية في مسارنا نحن، يلعب وفق القواعد التي وضعها المقاومون لتقوية المجتمع. فيقاوم الإضراب مثلاً بحشد عمالي من الموالين له، وهذا في حد ذاته انتصار للمجتمع، حيث تمكن من الحفاظ على مسار اللاعنف، وفرضه على خصمه لتصبح السلمية لغة الحوار بدلاً من الرصاص، كما يتم حقن دماء المجتمع، وتوحيد صفه، وعدم تكريس القوة العسكرية لدى أي فصيل فيه.
هشام مرسي
21/5/2012

http://aoc.fm/site/node/820