عندما تُسَد القنوات الدستورية قد تلجأ بعض حركات اللاعنف إلى درجة من درجات العنف والتخريب لها طبيعة خاصة. فهي لا تتعلق بحرق المنشآت وتدمير الممتلكات العامة، كما لا ترتبط بعنف إزهاق الأرواح وإراقة الدماء؛ وإنما هو “تدخل خشن” يصحبه قدر عالٍ من التعقل والأخلاق النبيلة.
فالتدخل الخشن هدفه بناء المسار السلمي، وتزويده بأدوات تجعله محصناً بحيث لا يخترقه العمل العنيف تحت ضغط الواقع، إنه شكل من أشكال التصعيد الذي يحاصر العنف ويقلص دائرته، ويطفيء ناره.
ومن أمثلة هذا النوع من التدخل الخشن ما تقوم به حركات السلام من إيقاف الجرافات التي ستقتلع الأشجار، من خلال وضع الرمل في مخزن وقود المركبة (1). أو إتلاف ملفات محددة على الحاسوب (2).
وهنا سنجد أن المقاومين لا يوغلون في التخريب الشائع في الأذهان، والمرتبط بإشعال الحرائق في المنشآت والدمار، ولكنهم يقفون على تخومه بوعي شديد ويلجأون إلى أشكال أخرى. تضبطهم في ذلك عدة ضوابط مثل:
الرضا الشعبي: ويعني قبول نسبة كبيرة من عموم الناس – وليس قبول الحركات المقاومة (3) – بالعمل. مثل تشويه إعلان دعائي في الشارع، فهذا تخريب للإعلان ربما لا يعبأ به الناس أو يدينونه، بل قد يتعاطفون مع هذا السلوك، خاصة إن تمت معالجة الإعلان برسم مبهر وليس مجرد تشويه (4). أو مثلما يحدث حين تعترض مجموعات السلام المناهضة للتجارب النووية مسار قطار محمل بنفايات نووية، مع ضمان سلامة القطار وركابه. فالوعي الشعبي العام يقبل هذا العمل، وليس لديه تحفظات على اعتراض مسيرة قطار أو باخرة تحمل نفايات نووية، لكن هذا العمل سيكون مرفوضاً شعبياً مثلاً في حالة اعتراض مسار قطار سفر يحمل ركاباً. كذلك فإن الطريقة التي يتم بها العمل يجب الانتباه إليها، فالوعي العام قد يقبل إيقاف القطار، لكنه لا يقبل إشعال النار فيه، حتى ولو لم يكن فيه أي إنسان.
لا يُلحق الأضرار: بعموم المواطنين، أو يروع الآمنين. فنشر فيروسات على بعض المواقع الإلكترونية الحكومية والخدمية قد يضر الخصم فعلاً، ولكنه أيضاً قد يسبب الضرر لعموم المواطنين؛ بل وبالطبع سيطال هذا الضرر المنتمين للحركات المقاومة، لذلك فهي مرفوضة. بينما عندما تخفي مجموعة مهتمة بحماية الغابات أوراق مناقصة تقدمت بها شركة تقتلع الأشجار (5)؛ فهذا نوع من الفعل لا يلحق أضراراً بالناس وربما يدعمونه، خاصة إن توفرت درجة عالية من الرفض لممارسات الشركة.
التعطيل وليس التدمير: فالحركات السلمية المقاومة لتصنيع أسلحة الدمار والداعية إلى وقف التسلح لا تشعل النار في الآلات أو المصانع أو السيارات التي تنقل الأسلحة، ولكنها قد تعطلها عن العمل بنزع بعض أجزاء الآلات. وهذا يتطلب وعياً بطبيعة التعطيل المطلوبة. فإيقاف سيارة محملة بالأسلحة لا يتطلب إشعال النار فيها أو تفجيرها. يمكن لمسامير تعترض طريقها أن توقفها. والتعطيل أو التدمير هنا مقيد بالضوابط السابقة، فقطع “كابل” الهاتف الذي يمد الملايين بالخدمة، يعد تعطيلاً محدوداً، لكنه يضر الملايين لذلك فهو مرفوض. بينما قطع النور في اجتماع لحزب فاسد يخطط لتهريب أموال البلد، ربما يحظى بدعم شعبي.
لا يضر بالمسار السلمي العام: ولا يتسبب في توليد مسار عنيف، ولكنه يحاصر بهذا التدخل المدروس اندلاع العنف. خاصة حين يضيق الناس بالسبل السلمية التقليدية، ويتشكل مزاج عام متجه للعنف. فـ”التدخل الخشن” في هذه الحالة أقرب ما يكون لاستراتيجية إطفاء بركان بنار صغيرة، وهي الاستراتيجية التي تتطلب عقلاً واعياً، وذهناً حاضراً، وحرفية وخبرة عاليتين. وأي خطأ فيها ولو بسيط قد يزيد النار اشتعالاً ويزيد الوضع تأزماً ومأساويةً. واستراتيجية وتكتيكات “التدخل الخشن” إن لم تُضبط وتمارس بعقل واعٍ وأخلاق عالية ومسؤولية كاملة، وفي إطار استراتيجية لاعنيفة شاملة قد تودي بالمسار السلمي كليةً، أو على الأقل تجعل العنف هو الطابع الغالب لمشروع التغيير.
رمزي لا تحريضي: أي أن القائمين عليه لا يقومون بتحريض الحركات والمجموعات المقاومة الأخرى على انتهاجه، ولا تُدعى عموم الجماهير للمشاركة فيه، لأن الحماس قد يجرفها فتندفع لأعمال عنف. وإنما هو نشاط تقوم به مجموعة متخصصة (6)، وفي بعض الحالات تعلن مسئوليتها وتسلم نفسها للشرطة، لتؤكد أنها كسرت قانوناً جائراً يحمي الفساد. لكنها ليست ضد فكرة سيادة القانون، وأنها مستعدة لتحمل العقوبة. فهي تريد فقط إبراز الجانب الجائر في القانون. كما أنها تؤكد بذلك أن الفاعلين ليسوا مخربين مأجورين. أما الجماهير فلا تُستدعى إلا في حالات تتعلق بممتلكاتهم الشخصية، مثل دعوتهم لحرق الفواتير الشخصية، وهي تشبه دعوة غاندي في جنوب أفريقيا، حين طالب الهنود بحرق تصاريحهم الخاصة، التي كانت تُطلب منهم دون الأوربيين، والتي تعتبر وثيقة حكومية.
لا يفوق عنف الخصم: وهذا ينطبق على أي رد فعل وليس فقط العنف، فإن سَبَّك جارك أصبحت مظلوماً، فإن رددت عليه بمنع الطعام والشراب عنه حتى الموت أصبحت ظالماً. وحينها يقف الناس ضدك، وينكرون فعلتك. أنت تريد أن تنير عقل المجتمع وعقل خصومك. ووسائلك المميزة كفيلة بذلك. كونك مظلوماً لا يمنحك حق فعل أي شيء، والضرر لا يُدفع بضرر أكبر منه.
ويقاس الموقف من العنف بصفة عامة بناء على ما سبق، سواء كان عنفاً لفظياً أو بدنياً أو مادياً، فالضوابط السابقة هي التي تحدد درجة الاقتراب منه، لذلك قد يكون العنف اللفظي أحياناً مداناً لأنه سيعزل قطاعات واسعة من الناس التي لا تنسجم ثقافتها مع ذلك السلوك، أو أنه سيكون مقدمة لاندلاع عنف بدني نظراً لاستفزاز الطرف الآخر. في حين يكون العنف البدني المحدود في إطار حماية فتاة من اعتداء مجموعة من مثيري الشغب أمراً مقبولاً. فالمعيار هنا سيكون القدر المقبول لإطفاء نار العنف وليس إشعالها.
لذلك صُنفت انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين في عداد الحركات اللاعنيفة(7) من عدة أوجه:
اعتبار طبيعة الخصم: محتل يجيز القانون الدولي قتاله. (وهنا فالتعاطف العام مع الفعل موجود).
اعتبار السلاح المضاد: رصاص حي ودبابات ومدرعات .. الخ (فلا يوجد وجه مقارنة بين الحجارة من جهة والرصاص والقذائف من جهة أخرى).
اعتبار الفاعل: حيث نُسبت الانتفاضة لصبية ينحتون في الأرض لطرد المحتل. هذا السلوك الذي أكسبهم دعماً كبيراً.
المساحة التي احتلها عنف الحجارة: فقد شملت الانتفاضة أعمالاً كثيرة مثل الإضرابات، والدعوة إلى قيام مؤسسات بديلة، ومقاطعة بعض السلع، وتقديم الاستقالات….الخ (8)
وبالتالي ما تعتبره هنا “حرب اللاعنف” ضمن حدودها (من تدخل خشن ليس من أدواته الأسلحة القاتلة كالأسلحة البيضاء أو العسكرية) قد تلفظه تماماً في حالات أخرى لا تتوفر فيها الضوابط السابقة، فربما تقبل عنف الحجارة في حالة، بينما ترفض مجرد العنف اللفظي في حالة أخرى.
وعندما نجد الشعب اليمني المسلح بطبعه يضع سلاحه ويتظاهر، ومع شدة القمع يكتفي بتوفير حماية للتظاهرات؛ فهذا تقدم كبير من أجل الحفاظ على المسار السلمي في شعب مسلح. يصعب قياس الحالة ودعوة شعب أعزل بطبيعته إلى التسلح من أجل حماية التظاهرات لمجرد أن قوات القمع تستخدم أسلحة مكافحة الشغب. فالوعي العام يقبل الحالة الأولى ويعتبر هذا التكتيك الدفاعي هو قمة التحضر في هذا البلد. بينما الوعي العام في الحالة الثانية قد يؤدي إلى عزوف كامل عن المشاركة، بل وربما اتهام المسلحين بالإرهاب وتمني القضاء عليهم.
لذلك تخطيء بعض الحركات والأفراد الذين لديهم نزوع للعنف، حين تقيس استخدام العنف على ممارسات سابقة كان يؤيدها فيها الناس، ولا تراعي في قياسها سوى عنصر “الأداة”.. فتقول على سبيل المثال..”لقد استخدمنا الحجارة من قبل ولم يستنكر أحد. فلماذا تنكرون علينا اليوم”. وهنا يجب الانتباه إلى أن الرضا الشعبي أشبه بتصويت عام على حالة كاملة وليس فقط على وسيلة، فهو أقر الوسيلة في ظل ظروف محددة، بكراس شروط خاص، وليس إقراراً عاماً باستخدام الوسيلة في كل حالة. ويدخل في المعطيات المتغيرة عدة عناصر، مثل القضية التي يُكافَح من أجلها، ووجود مسارات بديلة، وتوقيت الكفاح، وطبيعة الخصم، وطبيعة المقاوم. ولا ينسحب ذلك على أدوات العنف فحسب، بل قد يبارك الشعب اعتصاماً في حالة محددة، ويرفضه في حالات أخرى ويعتبره تعطيلاً للعمل. لذلك فالتفكير من منظور الوسيلة فقط لا يسعفنا في إطلاق أحكام صحيحة، لأنه يشوش الرؤية ويضلل التفكير.
ليس السؤال الصحيح هل اللاعنف هو ضد للعنف؟ ولكن السؤال هو كيف يتمكن المؤمنون بالمسار السلمي من مواجهة تحديات العنف دون أن ينحرفوا عن المسار الأساسي؟! كيف تتجه وسائلهم بالمجتمع نحو الوصول إلى المسار السلمي الخالص، لا الوصول إلى العنف المدمر.
شكل 1 : حركة اللاعنف تتجه في مسارها نحو النضال السلمي الخالص، وهي إن اضطرت للتدخل الخشن فهي تقف على حدود العنف وفق ضوابط صارمة، يأتي على رأسها التعاطف والرضا الشعبي وعدم إزهاق الأرواح أو تدمير الممتلكات العامة، وعدم الانجراف في مسار العنف. وهو ما يميزه عن مسار العنف الذي يتجه نحو تطوير العنف والاعتماد عليه حتى يصل إلى حدوده القصوي.
إن المقاومين في حرب اللاعنف يؤمنون بحرمة الدم، وجرم الإفساد في الأرض، ويعلمون أن دورهم هو حصار العنف لا توليده، وهو ما يميز أسلوبهم عن الأساليب التي تتغذى بالعنف وتنمو من خلاله. لذلك حين يضطرون لمثل هذه الوسائل في الصراعات الحادة ضد الديكتاتوريات، أو في القضايا المصيرية التي تغلق فيها كافة السبل الدستورية؛ فإنهم يقومون بها بفن بالغ، وبحذر شديد، وبصورة حضارية يصعب أن تكون محل إنكار.
إن “حرب اللاعنف” تقف أحياناً على شاطيء “التخريب والعنف” دون أن تبحر في محيطه فتغرقها أمواجه، وتفتك بالمجتمع دواماته، فهي كمن يجمع ملح البحر على الشاطيء دون أن يلج في عمق البحر. لأن التوسع في طبيعة وحدود وملابسات العنف قد تؤدي إلى دمار وترويع وعزوف جماهيري عن المشاركة، والحركات اللاعنيفة تسعى منذ البدايات لتأكيد سلميتها حتى لا تُخترق بمن يقومون بأعمال عنف وتخريب غير منضبط تُنسب لها.
حالات استخدام التدخل الخشن
إظهار قضية بشكل واضح وملفت.
القمع الشديد في النظم الديكتاتورية، وانسداد كل المسارات الدستورية.
وجود نزوع للعنف لدى المحتجين، وهنا تأتي هذه الأعمال بهدف وقائي يحول دون اندلاعه، وتساعد في ترشيد مساره.
وعلى الصعيد العملي نجد الكثير من حركات اللاعنف ترفض كلية الاقتراب من هذه المساحة حتى لو تمت مراعاة تلك الضوابط، خشية التوسع وعدم إمكان السيطرة عليها. فهي تعتبر فكرة “التدخل الخشن” ثغرة يمكن أن ينفذ من خلالها أي مخرب. وترى أن قليلاً من العنف المرفوض قد يفسد مسارهم بالكامل.
أما القليل من الحركات فترى أن كل حالة تدرس على حدة، وأن الحركات التي تتمتع بقدر من المركزية والسيطرة على أعضائها يمكنها أن تدخل هذه المساحة بحذر وتعقل شديدين.
أحمد عادل عبد الحكيم
وائل عادل
12/2/2013
http://aoc.fm/site/node/1092