حرب اللاعنف وبرامج البناء

لا تكتفي حرب اللاعنف بهدم أركان الطغيان، إذ أن هدفها الأساسي هو إيجاد المجتمع القوي، الذي يحمل رسالة حضارية يعمل من أجلها، ولديه القدرة على تأييد ومعارضة وتغيير حكومته في سبيل تحقيق هذه الرسالة. لذلك كان جوهر حرب اللاعنف بناء بامتياز، وحتى عملية الهدم فإن كانت تهدم أركان النظام الفاسد، إلا أن عملية بناء مهمة تتم فيها، حيث يستعيد الإنسان وعيه بذاته وإمكاناته، ويشيد ترسانة وسائله التي تمكنه من مجابهة الظلم، والتي يمكن استثمارها لاحقاً.

وإن تمكنت حرب اللاعنف من إزاحة العقبة الأساسية في مشروعها (ولنقل على سبيل المثال رموز الديكتاتورية)، فإنها تسعى إلى استثمار المساحة المحررة في المجتمع في عملية بناء وتأهيل للمجتمع، ونعني بالمساحة المحررة المناطق التي تم إحداث خلخلة فيها في النظام القديم، مثل حرية تأسيس الأحزاب والمؤسسات، وإطلاق الحركات، وتنظيم مجموعات العمل. بحيث يبني المجتمع قدراته ليتمكن من قطع أشواط جديدة في مشروع التغيير، تلك الأشواط التي قد تتطلب وعياً وأدوات وإمكانات غير التي بدأ بها المشروع.

وتتميز برامج البناء أنها توجه طاقة المجتمع في عمل بنائي، كما أنها تجدد فيه روح التغيير السلمي ومجابهة الفساد بحسب المجال الذي ستقوم كل مجموعة باستهدافه. فهي لا تسلب المجتمع روح المقاومة، وإنما توجهها إلى أهداف أكثر تركيزاً، ويمكن القول أن برامج البناء هي تعبير عن مشروع التغيير ولكن بلغة جديدة.

فإذا أخذنا على سبيل المثال مشروع بناء نظام تقوية المجتمع ضد التحريض الطائفي، هذا المشروع يتطلب وعياً بقضية المواطنة، والرقابة على أداء الهيئات والمؤسسات والأفراد، التي يُتوقع ضلوعها في عملية التحريض الطائفي التي تهدد استقرار المجتمع.

إن تم تطبيق المشروع في رصد الصحف ودرجة التحريض فيها، فإنه يقوم بنشر الوعي، وتقويم وتوجيه الصحف، بالإضافة إلى ممارسات حملات غير عنيفة ضد الكتاب والصحف التي تستمر في عملها دون أن تأبه بمصير المجتمع.

توضح الصورة السابقة نموذجاً لمبادرة “امسك محرض”، وهي تعرض مستويات التعامل مع التحريض، ابتداء من النصح والتوجيه وحتى الضغط الاجتماعي. سنلحظ هنا أننا نتحدث عن عمل يمزج بين عمليتي البناء والهدم، الدعم والمعارضة، وكلاهما يساهم فعلياً في بناء المجتمع.

إذا أخذنا مثالاً بمجموعة قررت الرقابة على حالة نظافة الشوارع، وإيجاد الحلول العملية لتوفير مظهر جمالي لكل حي. ويشتمل ذلك على توعية أهالي الحي وتوفير الوسائل المخصصة للنظافة. هذا هو الشق الإيجابي من المشروع.

لكن أيضاً يأتي الضغط السلمي في حالة تقاعس الحي أو الإدارة أو الشركات المسئولة عن أعمال النظافة، لتمارس الضغوط بأشكالها المختلفة بحسب الحالة. وهو ما ينمي قدرة المجتمع على البناء والمقاومة معاً، ومن أمثلة الضغط إرسال فئران إلى مكتب رئيس الحي المتقاعس عن أداء خدمته.

بنفس المنطق يمكن الحديث عن مجال الصحة ومياه الشرب النظيفة، والرقابة على جودة المياه، والمساهمة في إيجاد حلول عملية، ونشر تقارير دورية حول هذا الموضوع. فإن حدث تقاعس تبدأ حملة الضغط، حتى تصل إلى وزير الصحة، وربما تأخذ شكلاً رمزياً مثل إيصال كوب ماء غير نظيف له، ومطالبته أن يشربه كبقية الشعب في مواجهة إعلامية متلفزة.

كانت هذه أمثلة للتوضيح، ويمكن لطاقة المجتمع أن تنطلق في كل مجال في أعمال البناء، ليتحقق هدف حرب اللاعنف من بناء مجتمع قوي، لديه القدرة على خلق نظم جديدة وتطوير حلول للمشاكل، كما أنه يتمتع بالقدرة على الضغط من أجل أن تكون هذه النظم واقعاً فعالاً. فيزيح دائماً العوائق التي تعترضه بطرق سلمية، وهنا يتحول مشروع التغيير إلى روح تسري في كل مجال، تدمج بين البناء والضغط الشعبي، فيلمس الناس إنجازات البناء، ويدخل المجتمع في دورة تدريبية مكثفة حول ممارسة الضغط لينال حقوقه المباشرة، كل في المجال الذي يهتم به.

هذا النوع من برامج البناء يتطلب نوعين من الإعداد، إعداد خاص بتطوير كوادر العمل في المجال المتخصص كالرقابة الإعلامية على سبيل المثال، وإعداد في مجال التغيير السلمي وحرب اللاعنف، والضغط على المفسدين، هذا المجال الذي يمثل درعهم لحماية مكتسباتهم وإزاحة العقبات التي تعترضهم.

عندما تبدأ برامج البناء، يمكن التنبؤ بحدوث الثورة العميقة التي تتخلل جميع المجالات، ,فتصبح منهج تفكير وعمل في المجتمع لا نزوة عابرة، وتصبغ المجتمع كله بروحها. حينها حتى إن خلت الساحات التي أسقطت الديكتاتوريات من المحتجين؛ فإننا نجد الثورة تشربتها مسام المجتمع، وأصبحت جزءاً منه لا ينفصل. فلا تعود إلى الساحات إلا لأمر طاريء وحدث عظيم. ويوم أن تعود إلى الساحات ستكتشف مدى عمقها الشعبي الداعم لها بمؤسساته ومجموعاته وحركاته التي تشكلت في مشاريع البناء.

وائل عادل

27/6/2012

http://aoc.fm/site/node/843