لا تهدف حرب اللاعنف إلى الإطاحة بالديكتاتور فحسب، إنها تعيد تعريف الإنسان، وتعيد تحديد دور الشعب، إنها ببساطة تعيد توزيع القوة في المجتمع، ليمتلك الشعب القرار، ويحدد برامجه ورسالته، إنها تعني أن يسترد الشعب السلطة.
إن تغيير النظام يعني تغيير مكوناته، وهي الأفراد والمؤسسات والعلاقات والقواعد الحاكمة للعلاقات داخل النظام وطبيعة توزيع القوى فيه، وبذلك فإن مشروع التغيير يشمل:
· إبعاد الأفراد الذين يشكلون عقبة أمام التغيير.
· إعادة رسم خارطة المؤسسات في المجتمع.
· إعادة بناء العلاقات الحاكمة والقواعد التي تسير النظام الجديد.
وموضوعنا في تلك الحلقات يدور حول المسارات الأساسية لإحداث تغيير في المؤسسات، فالمؤسسات هي شرايين المجتمع، بصحتها يصح المجتمع. ويعد بناء شبكة مؤسسات سليمة في المجتمع من أهم الأهداف العملياتية لحرب اللاعنف، حيث يضع الشعب يده على مؤسساته ويحسن إدارتها ليحقق برنامجه.
المؤسسات.. الذراع الضارب في حرب اللاعنف
وتقوم استراتيجية حرب اللاعنف في ذروة هجومها على الديكتاتوريات، على فكرة المؤسسات، فالتظاهرات وحدها يصعب أن تسقط أنظمة، إن كانت المؤسسات تعمل وتنتج، لذلك كان للإضرابات دور قوي في إسقاط الأنظمة الديكتاتورية في الدول الحديثة، لأنها تعني تمرد المؤسسات، وأنها غيرت ولاءها، فلم تعد تعمل لصالح النظام القديم، هنا ينتبه الشعب إلى أنه هو الذي كان يدير مؤسساته لصالح النظام. وأنه هو الذي كان يمنح الديكتاتور القوة، وأنه قادر على سلب تلك القوة منه.
المؤسسات من الوسيلة إلى الهدف
ولا تنتهي معركة المؤسسات في حرب اللاعنف بإسقاط طاغية، حيث تتحول من وسيلة حرمان الديكتاتور من مصادر قوته إلى هدف حيوي في بناء المجتمع الجديد، وإلى مشروع استعادة كاملة للمؤسسات في المجتمع، أي مشروع تحرير وسيطرة للمؤسسات. فكما تمكن الشعب في الجولة الأولى من جعل المؤسسات لا تعمل، عليه في الجولة الثانية أن يحسن إدارتها كي تعمل، ولكن في خدمة الشعب، وبالقواعد التي يحددها الشعب، ليتحكم فيها ويديرها، بعد أن أدرك مدى قوتها في تزويد النظام بشرايين الحياة.
وبسيطرة الشعب على مؤسساته يكون بذلك قد خطى خطوة كبيرة نحو مشروع “تغيير النظام”، كأفراد ومؤسسات وقواعد وعلاقات كما أسلفنا.
المؤسسات تغير القواعد والعلاقات
كذلك فإن تغيير المؤسسات يؤثر بشكل كبير في تغيير القواعد والعلاقات، والتي بها يكتمل تغيير النظام، فالمؤسسات الجديدة تفرض واقعاً جديداً، وتعيد تعريف العلاقة بين الشعب والحكومة، وإذا نظرنا في تجارب ما قبل التغيير سنجد أن مؤسسات جديدة نبتت في المجتمع، سواء كانت في شكل حركة أو مؤسسة دراسات أو تدريب أو إعلام..الخ، هذه المؤسسات نلحظ لها دوراً فعلياً في بداية التغيير في النظام القديم (مع وجود الديكتاتور)، حيث فرضت واقعاً وقواعد جديدة تتعلق بزيادة مساحة الحريات، أو بزيادة قدرة الشعب، وهو ما أحدث اختراقاً في النظام الديكتاتوري، وغير نمط بعض العلاقات.. حينها كان النظام بالفعل يتغير وتُدمر بعض قواعده التي يسيطر بها على الحكم، لتحل القواعد التي فرضتها تلك المؤسسات وترخي قبضته على السلطة، أي أنه بظهور مثل تلك المؤسسات كانت عمليات التغيير في النظام فعلياً قد بدأت، ونعني هنا عمليات إعادة توزيع القوة، وتحول طفيف في موازين القوى.
المؤسسات قبل التشريعات أحياناً
ليس بالضرورة أن كل العلاقات الجديدة تُشرع فوقياً من المؤسسات التشريعية، فالمؤسسات الجديدة المنثورة في المجتمع بإرادة شعبية هي التي ستملي بحكم “الأمر الواقع” طبيعة التشريعات الجديدة. إن تغيير الأفراد وحده لا يكفي لإجراء تغييرات جوهرية في النظام، أما إعادة رسم خارطة المؤسسات في المجتمع فهو كفيل بفرض واقع جديد، قد يسبق التشريعات المدونة. إن استعادة المؤسسات وتأسيس أخرى ليس ترفاً أو أمراً غير عاجل في مشروع التغيير، إنه جزء أصيل من بنية المشروع التغييري وعليه تقوم فلسفته.
المؤسسات والروافع
كذلك نجد أن كل مرحلة من مراحل التغيير تتطلب قدراً معيناً من المؤسسات يمكنها من بلوغ هدفها، فمؤسسات المرحلة الأولى قد لا تسعف بالضرورة في تحقيق أهداف المرحلة الثانية، لذلك كان البناء المستمر لقدرة المجتمع من الأمور المهمة لتمكنه من اجتياز المراحل. فوجود المؤسسات الإعلامية في مرحلة ما قبل سقوط الديكتاتور يخلق وعياً، لكنها وحدها غير كافية لإنجاز مرحلة لاحقة ربما تتطلب مؤسسات أخرى لها طابع مختلف كالأحزاب والحركات. فحرب اللاعنف في جميع مراحلها يمكن تعريفها بأنها بناء متواصل لقدرة المجتمع.
لذلك كانت حرب اللاعنف تحمل في فلسفتها قوة بناءة لا تقل تأثيراً عن قوتها في هدم النظام الفاسد، حيث تُبنى المؤسسات على قواعد وأسس جديدة، ويدير المجتمع شئونه، وفق اختياراته وإرادته. وهو ما يمكن أن نسميه مشروع “زراعة الشرايين”.. فالمؤسسات هي شرايين الحياة في المجتمع.
المسارات العملية
ويمكن تصنيف المسارات العملية المطلوبة تجاه مشروع “زراعة الشرايين” في المجتمع كالتالي:
· استرداد مؤسسات موجودة بالفعل: يساء إدارتها (النقابات – المجالس المحلية – مجالس الشعب – الإعلام…الخ).
· التخلص من مؤسسات لا تصلح للنظام الجديد: مثل بعض المؤسسات الأمنية التي لم تكن تعمل إلا لخدمة أشخاص في النظام.
· إعادة بناء مؤسسات موجودة ولكن على أسس جديدة: مثل مؤسسة الشرطة.
· بناء مؤسسات جديدة لم تكن موجودة من قبل: مثل مؤسسات تتعلق بالنظافة، والنظام، ومؤسسات رقابية لرصد حركة المجتمع وعلاقاته البينية، بحيث تقيه الطغيان الداخلي بين مكوناته، كرصد العلاقة بين الأحزاب وطبيعة التصريحات ونمط الممارسة السياسية، وصد أي عدوان بيني.
إن إعادة رسم خارطة المؤسسات في المجتمع من المهام الضرورية لاستكمال مشروع التغيير وبناء المجتمع القوي، فكلما نمت شبكة المؤسسات الفعالة في المجتمع كان ذلك أقرب إلى صحة المجتمع وحيويته وتحكمه في قراراته.
وسنتناول على مدار حلقات كيفية التعامل مع المؤسسات.
وائل عادل
29/09/2011
http://www.aoc.fm/site/node/653