من أخطر ما يقوم به شعب أن يعود للقراءة في تاريخ الثورات ليقرر أنه يجب أن يسلك نفس الطريق، حتى يعتبر نفسه قام بثورة كاملة، دون أن ينظر لدوافع الثورات التي يقرأ فيها، وطبيعة الخصوم، والوسائل التي استخدمت للقيام بالثورة، والنتائج النهائية الفعلية لتلك الثورات..
هناك ثورات وحركات إنسانية غيرت العالم قيل في نهاياتها “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وأخرى “اشنقوا آخر قيصر بأمعاء آخر قسيس…” فعلى أي أساس يمكن أن تُختار نهايات الثورات؟!
يتوقف الأمر على هدف الثورة ووسائلها والقيم التي تصبغها، وهي القيم التي ينبغي أن تتمسك بها في كل مراحلها، لأن الحفاظ على هذه القيم يساهم بشكل كبير في صناعة المستقبل.
لو عاد الرسول صلى الله عليه وسلم ونقب في تاريخ الأنبياء من قبله واقتفى أثر النهايات لوجد نهايات من قبيل “فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا” (40: العنكبوت).. وهي نهايات تعني إبادة الخصوم.. لكنه كان على وعي أنه يؤسس لمجتمع جديد.. فكان خياره الأساس.. “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.. وأهدر دم أربعة فقط، ثم عفا عن اثنين منهم..
ومن مكة نذهب إلى جنوب أفريقيا.. حيث قرر مانديلا عدم الانتقام من البيض، واكتفى بعقد محاكمات مفتوحة هدفها إقرار البيض بخطإهم، مجرد جلسات اعتراف أقرب للتطهر النفسي، لم يعدم أحداً.. ولم ينتزع الأراضي من البيض بل تركها لهم.. حتى لا يوقع البلاد في فوضى.. كان يريد دولة جنوب أفريقيا بلا ثارات.. وكان يسعه أن يتصفح كتب الثورات ليجد ألف سبب مقنع لأن يقتل ويفتك بخصومه، لكنه ربما لم يجد سبباً واحداً مقنعاً يمكنه من بناء جمهورية التسامح.. جنوب أفريقيا. لم يفعل مثلما فعل الثوار من قبله.. لأنه ربما أراد غير ما أرداوا!!
وعلى الناحية الأخرى لدينا ثورات بالفعل كانت نهاياتها دموية.. يلخصها الشعار المشهور.. “اشنقوا آخر قيصر بأمعاء آخر قسيس”.. لتندلع الثورة في فرنسا بدموية…
يظن البعض أن كتب الثورات تعلمنا أن نسحق خصومنا، وأقول بل تعلمنا ما هو أهم.. أن ننظر إلى شكل المجتمع الجديد الذي نريد، والذي يتشكل منذ أن يبدأ الثوار التفكير في كيفية التعامل مع خصومهم وهم في قبضتهم..هل ينهون ثورتهم بحمام دماء، أم يكتفون ببضع قطرات.. أم يتجنبون ذلك قدر الإمكان؟؟! هنا تأتي مسطرة التعامل مع الخصوم لتنهي تلك الحيرة.
وتبدأ مسطرة التعامل مع الخصوم بالصفح العام وتنتهي بالإبادة دون محاكمة، وبينهما طيف من الخيارات مثل المحاكمات الاستثنائية العاجلة، والمحاكمات العادية، وتوقيع العقوبات السياسية والاجتماعية كالحرمان من ممارسة السياسية أو العمل العام لفترة محددة.. كذلك قد يتم تحديد نطاق الأفراد الذين ستوقع عليهم العقوبات، هل كل الفاسدين ستتم محاكمتهم؟ أم أن ذلك يجعل آلاف المواطنين عرضة للمحاكمة في ظل نظام كان يجعل من الفساد سيداً وقانوناً؟؟ فإلى أي مستوى يجب نبش الملفات القديمة بدعوى التطهير؟!! ماذا عمن سفكوا الدماء؟؟ هل سيتم اللجوء إلى القضاء بهدف استصدار أحكام، أم أن من يعترف بجرمه تخفف عقوبته؟؟ هل سيتم التمييز بين من استسلموا للوضع الجديد وبين من يناهضون الثورة ويسعون في الأرض فسادا؟!.. هل لمن كانوا في النظام القديم مكان ليغيروا ولاءهم أم أنهم مستبعدون تماماً؟؟ كتب التاريخ لا تقرر تلك الأجوبة.. وإنما تصورنا عن شكل مجتمعنا الجديد هو الذي يجب الإصغاء له..
لذلك تتطلب طريقة التعامل مع الخصوم رؤية وحكمة، وهي رؤية تتجاوز النظر في بنود الدستور ونصوص القوانين المكتوبة، هي نظرة إلى روح الثورة وما تريد أن تؤسس عليه عالمها الجديد!! رؤية تميز بين رموز النظام وموظفيه، وبين المناهض للوضع الجديد والمتأقلم معه، وبين مناهض نشط وآخر مكتف بإعلان الكراهية.. ليسوا سواء في ميزان العدل!! ويصعب رسم هذه الرؤية قبل رسم شكل المجتمع الجديد، ومكان المنتسبين للنظام السابق فيه، ودرجة الرغبة في الاستفادة منهم وكيفية ذلك.
إن الهدف القريب الذي وضعته كل الثورات في اعتبارها وهي تتعامل مع خصومها-سواء كان ذلك على نمط جنوب أفريقيا أو فرنسا- كان التخلص من خطر مناهضي الثورة، كل فعل ذلك بطريقته بحسب ما تمكن من إعمال عقله وتخيل المستقبل. وبحسب شراسة خصومه وإصرارهم على المواجهة المضادة لثورته. لذلك لا توجد وصفة سحرية، أو خيارات محسومة.
تتعدد الخيارات لتفتح الآفاق على شكل نهاية مختلفة عن النهايات التاريخية.. لأننا نبحث عن نهاية توصلنا إلى المستقبل، لا نهاية تؤكد لنا سيرنا على خطى الماضي الدموي لثورات عدة.. لا أرجح هنا خياراً بعينه.. وإنما أدعو للتفكير في الخيارات الأفضل وحدود تطبيقها مع كل شريحة ساهمت في فساد النظام السابق.. تلك الخيارات التي يجب أن تراعى فيها أهداف الثورة.
بعض الخيارات قد يتطلب صبراً.. والصبر على طريق نهايات الثورة لا يقل أهمية عن الصبر على طريق الإطاحة بالديكتاتور. طالما أنه صبر في طريق معلوم، لا صبر التائه الذي لا يملك من أمره شيئاً.. هو صبر من اختار ذلك الخيار تكريماً لثورته لا صبر المضطر إلى ذلك!! صبر من ينسجم مع روح ثورته لا من يضيق ذرعاً بها!!
والثورات المعاصرة في مرحلة انطلاقها كانت روحها العامة هي السلمية، ومحاصرة العنف بحيث لا يستخدم إلا في أضيق الحدود، وكذلك في مرحلة تثبيت الثورة يجب أن تكون الإجراءات الاستثنائية في أضيق الحدود، لإقرار روح الثورة، والفعل الحضاري والحرية والعدالة والقانون، حتى ينشأ مجتمع بلا ثارات وأحقاد.
إن الثورات المعاصرة يجب أن تعي أنها لا تريد إنتاج ما جاء في تجارب الثورات السابقة، اللهم إلا إن كانت تريد ذات النتائج، إنها تفتتح حقبة جديدة من حقب التاريخ، لأننا قلما نجد في التاريخ ثورة أذهلت العالم بأخلاقياتها الرفيعة، إن ثورات تقام فيها الأعراس وتنظف فيها الشوارع لا يمكن استلهام نهاياتها من وحي التاريخ البارد، وإنما من دفء المستقبل… فهي ثورات تكتب تاريخاً جديداً وتضيف نمطاً فريداً إلى أنماط الثورات، لتزيد الخيارات أمام الإنسانية، إنها ثورة تنهي عملها بناء على إجابة سؤال.. كيف نريد أن نرى بلادنا في المستقبل؟! مؤمنة أن الوسائل المتبعة ستؤثر بشكل كبير في صناعة المستقبل.
إن مشهد النهاية يجب أن يصمم بإتقان وفن، تماماً مثل مشهد الحشود التي أذهلت العالم ببسالتها وسلميتها، وكما كان مشهد البداية كأروع فيلم من إنتاج عام 2011 يجب التفكير ألف مرة قبل ترقيعه بمشهد ختام من عام 1794م
وائل عادل
18/6/2011
http://aoc.fm/site/node/626