أخي الفاضل سي الطيب
لقد اطلعت على مقالتك القيمة التي أشاطرك جل ما ذهبت إليه وبقدر تقديري لشعورك النبيل إزاء فاجعة المرحوم المغدور به العالم البوطي، الذي يرجح أن يكون ذهب ضحية النظام نفسه الذي لا يؤتمن، خاصة وأن الكثير من الدلائل تعزز هذا الطرح ( ليس هذا غرض هذه الكلمة، مجرد استطراد)، كما أعتبر أن ما استخلصته من سنن ودروس محكمة في اغتيال البوطي يوضح جزءًا كبيرا من مأساة الأمة الإسلامية، لكن في الوقت نفسه أرى من الضروري الوقوف عند بعض المحطات التي لا تتعلق بأمور هامشية (وإلا ما كنت لأخوض فيها) بل أعتبرها مفصلية ويقوم على أساسها منهج قائم بذاته. إن مكانة الشيخ البوطي رحمه الله، لا ينبغي أن تحجب عنا بعض الجوانب الأخرى التي وإن كنت أنت قد ذكرتها في مقالتك، أعتبر أنك لم تعطها حقها الواجب، وهذا دون أن يمس ذلك لا بجوهر مقالتك ولا بمقام وشموخ المرحوم، كما أنه ليس من باب “التطاول” أو غمط الناس (والعلماء على وجه الخصوص) حقهم وفضلهم علينا وعلى الأمة جمعاء، ليس انتقاصا إذن أن يثير المرء مسائل الخلاف، لا العلمية، التي لا يحق إلا لأقرانه المناظرين له علما ومكانة الخوض فيها، وإنما في التطرق إلى خيارات العالم بصفته شخصا اجتهد في مجال السياسة، قد يعتبرها البعض موفقة، وقد يعترض عليه البعض الآخر، ليس من باب الاعتراض وإنما من باب استقصاء الصورة الكاملة.
إذن مكانة العالم لا يجب أن تكون حائلا ولا عائقا دون الحديث في ما هو محل جدل، ومن باب الأمانة، لا بد من التعرض إليه، لأن هذا الشق من المسألة أراه محوريا وينطوي على جانب خطير ينبني عليه عمل، بل ويحدد نمطا من المسارات ويؤسس لها.
أن يكون الشيخ البوطي قد رجح سلوكا في تعاطيه مع الشأن السوري وفضل بما يملك من رؤية ثاقبة، أن يلتزم بما وصفته كما جاء في مقالتك “كان الشيخ البوطي تغمده الله برحمته الواسعة، من هؤلاء الذين خبروا الحقيقة والطبيعة الاستبدادية الدموية غير العادية للنظام ، فعملوا على مهادنته وافتكاك بعض المساحات البسيطة للحرية الدعوية والتربوية والاجتماعية منه من ناحية، والبعد عن المثيرات المباشرة المستفزة لطبيعته الدموية التي قد تأتي على الأخضر واليابس، إذا ما شعر بأن هناك شيئا ما يهدد سلطانه ووجوده “، لو اقتصر الأمر على عدم الدخول في صدام مع أركان هذا النظام الدموي وعدم إبداء أي معارضة له، ناهيك عن مساندة مناوئيه، لكان هذا النهج معقولا وربما حتى ناجعا، لكن الأمر غير ذلك، لأنه “اختار” طرف الجلاد وسايره إلى أبعد حد، في وجه ضحاياه الذين لم يتأخر الشيخ عن تجريمهم وإدانتهم، مما يرقى إلى “شرعنة” وتأصيل سلوك الطاغية وإسناده بما هو يحتاج إليه، ومن ثم دعم أركانه، وهذا التوجه أعتقد أنه يختلف جذريا عن المبرر الذي ذكرته في هذا الشأن.
كما هناك أمر آخر أذكرك به، وهو، إذا افترضنا جدلا أن تفضيله هذا النهج كان من باب أخف الضررين، باعتباره يوجد تحت “رحمة” وتأثير الطاغية بشار، الأب والابن، وكان تصرفه من باب اتقاء شرهما وضمان مساحة من الحرية للاضطلاع بمهامه الجسام (وهل يمكن للطاغية أصلا أن يفسح مجالا للحرية الحقيقية)، فأين مبرراته في الجهر بموقفه الداعم المطلق للاستئصال وجرائم الطغمة في الجزائر التي انقلبت على خيار الشعب وسامته سوء العذاب وأوغلت في قتله بما لا يرقى إليه شك إذا استثنينا المجرمين والمتزلفين والدائرين في فلك الانقلابيين، ولا ينسى أحد تدخلاته التلفزيونية في تلك الحقبة الدامية، ليقدم المبرر الشرعي لجرائم الطغمة، التي بسطت له بكرم حاتمي كامل الوسائل لمخاطبة الشعب الجزائري وتسويقه لرواية الانقلابيين، باعتبار أن ما أقدم عليه اليناريون إنقاذ للبلاد وتحصين لها من المتطرفين الظلاميين الأصوليين الدمويين، وغيرها من التهم التي ألصقت بضحايا الجزارين الحقيقيين، وهي ذات المبررات التي كان يقدمها على نفس “البلاتو” أمثال برنار هنري ليفي وغلوكسمان ومن لف لفهم، في تجريم الضحية وتقديس الجلاد، بينما الصوت الآخر لم يكن ليجد مجرد متنفس ليعبر من خلاله عن آهاته ناهيك عن تقديم حججه. إذن الحق يقال، الأمر يتعدى “اتقاء شر الطاغية”، لأنه لم يكن هناك في واقع الأمر ما يخشاه من طغاة الجزائر ليجود عليهم بمثل ذلك الإطراء وتجريم ضحاياه، ولم يكن هناك ما يبرر به ضرورة صنيعه ليرسخ دعائم عمله الدعوي.
وعند هذه النقطة بالذات، فلا أخالك تجهل أن كافة من آثروا الاقتراب من باب السلطان، من العلماء، كانت دائما هذه حججهم في تبرير اختياراتهم، بدلا من أن يكونوا المصباح التي ينيرون بها الطريق للأمة في مسارها على نهج التغيير ووقف شر الاستبداد، لا أن يشرعنوا للاستبداد بمقتطفات شرعية يلجمون بها أفواه كل من يأبى الذل والهوان، باسم الحكمة والتريث وتجنب الفتنةّ!
وهناك نقطة أخرى جديرة بالاهتمام: هل يمكن حقا أن يحدث تغيير حقيقي في كنف وبرضا الاستبداد إذا كان هذا المستبد يجد من يسوّغ له “شرعا وعلما” ما يقوم به في حق الشعوب المطحونة، حتى يعتقد المرء أنه بإمكانه “افتكاك” مساحات من الحرية، ليقوم بعمله الدعوي والإصلاحي؟
وطالما أن الأستاذ سي الطيب قد تخصص في منهج التغيير وسننه وله باع طويل في هذا المجال تعززه أعماله الرصينة في هذا الباب، لا شك أنني لن أضيف له جديدا إذا قلت أن المستبد لا يمكن أن يكون مستبدا إلا إذا توفرت شروط القابلية للاستبداد، من انصياع طاقات الأمة، ناهيك إذا كانت هذه الطاقات تقبل طواعية أن توظف لخدمة هذا الطاغية، وفي هذا الباب يرى باحثون في مجال التغيير وسننه أن الأنظمة الدكتاتورية بحاجة إلى مصادر تدعم بها تحكمها، بل وتقوم عليها والتي بدونها لا تستطيع أن تبقي على مصادر قوتها السياسية، أما مصادر القوة السياسية فهي تشتمل على:
المصادر البشرية: الأشخاص والمجموعات التي تنصاع إلى أوامر الحكام وتتعاون معهم وتساندهم
المهارات والمعرفة (في مقدمتها العلماء): التي يحتاجها نظام الحكم ويقدمها الأفراد والمجموعات المتعاونة.
العوامل غير الملموسة: مثل العوامل النفسية والفكرية التي قد تشتمل على الأشخاص الذين
يطيعون ويعينون الحكام.
المصادر المادية: الممتلكات والمصادر الطبيعية والمصادر المالية والنظام الاقتصادي
ووسائل الاتصال والمواصلات.
العقوبات: التي يهدد الحكام باستخدامها لضمان خضوع الناس وتعاونهم وهم الأمران
الضروريان اللذان يحتاج النظام إليهما لاستمرايته واستمرارية سياسته.
هذه المصادر جميعا تعتمد على قبول الجماهير لنظام الحكم (والعلماء جزء مهم في تحقيق ذلك القبول، ومن ثم يتعاظم دورهم وخطورته) وعلى خضوع وطاعة هؤلاء الجماهير، وعلى التعاون الذي يقدمه المجتمع ومؤسساته. وبالتالي فإن القوة السياسية لا تنفك تعتمد في وجودها وقوتها على مصادر يعززها التعاون الذي تقدمه الجماهير والمؤسسات.
وما يمكن أن يتنشفه المرء في عالمنا العربي تلك النقلة النوعية على كل الأصعدة، لأنها تحقق نقط رئيسية ثلاثة، أولها: حركية الشعوب العربية تمكنت من إسقاط حاجز الخوف الذي لطالما كبل قدراتها وشلّ حركاتها، ثانيا، أشعرتهم هذه الحركية الواعية بقدرتهم على التغيير الفعال، ونسخت تلك الصورة السلبية العالقة بالذاكرة الجماعية عن المواطن العربي، باعتباره “خارج نطاق التاريخ، وثالثا، تحقق كل ذلك بطرق لم يعهدها عالمنا العربي منذ فترة غير قليلة، سلمية مدنية لا عنفية. وكل ذلك ليذكرنا بإحدى البديهيات التي غالبا ما نسهى عنها، وهي أن الحكومات، والأنظمة القائمة، مهما بدا جبروتها هي بحاجة إلى المواطنين أكثر من حاجة المواطنين إلى الحكومات، إذا كانت الحكومات تحتاج، مثلما تم الإشارة إليه، إلى ولاء المؤسسات الرئيسية لتسيير شؤونها، مثل القوات المسلحة والموظفين المدنيين والإداريين، فهي تحتاج أيضا إلى تعاون، أو على الأقل امتثال، غالبية المواطنين، وقبولهم بشرعيتها كسلطة حاكمة، ومن هنا تكتسي مسألة حرمانها من مصدر سلطتها وشرعيتها، المتمثلان في تعاون مؤسسات المجتمع والدولة، بالغ الأهمية.
عندما ترفض الجماهير مثلا شرعية الحكام يفقد هؤلاء الحكام طاعة الناس لهم وهذا يخلق مشاكل كبيرة أمامهم، من قبيل الإضرابات الشاملة التي تشل الاقتصاد وعدم التعاون الإداري الذي يعيق العمليات الحكومية، وفي حال تمرد الشرطة والجيش على الخصم فإنه يفقده القدرة على ممارسة القمع ضد المحتجين من أجل الحفاظ على نظام الحكم. إذن هذه الحقيقة الساطعة تبين لنا أن حتى الدكتاتوريات الاستبدادية تعتمد على دعم الجماهير والمجتمعات لكي تستمر في حكمها، وهنا أيضا يبرز دور العلماء، سواء الذين يسوّغون للجلاد ما يقوم به ويثبطون الشعوب في الانعتاق من الاستبداد بالحجج التي سلف ذكرها، أو دور الربانين من العلماء الذين ينأون بأنفسهم عن مخالطة الطاغية الذي لا محال سينقلب عليهم، وهذا دأبه، كما انقلب على المرحوم وقبله أمثلة كثيرة.
ويرى خبراء التغيير السلمي (المقاومة المدنية أو اللا عنف) أنه ما من قوة سياسية أو اقتصادية إلا وتعتمد بالأساس على موافقة وتعاون المحكومين، وفي حالة امتنع هذا الأخير عن الاعتراف بالسلطة الحاكمة، وأنهى من جانب واحد قبوله بها وموافقته لها، على الرغم مما قد يواجهه من تهديد أو قمع، فلا سبيل أمام هذه السلطة ولا خيار آخر أمامها، سوى الامتثال لمتطلبات المتمردين عليها، وإلا كان مآلها السقوط المحتوم
ثم هناك نقطة أخيرة لا تقل أهمية وخطورة، أثرتها أخي سي الطيب، وهي متداولة بشكل واسع، خاصة بين أصحاب “الحفاظ على الأمر الواقع”، ودعاة ضرورة الأمن والسلم (طالما هم من يمسك بمقاليد الحكم والتسلط في رقاب الناس، ومن ثم لا يريدون من يقلب عليهم الطاولة، خاصة إذا كان ذلك بطرق سلمية تفقدهم جبروتهم وتوازنهم وحججهم لاستعمال العنف)، أقصد ما أوردته تحت ما يعرف (“سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم” كما نسب ذلك إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه ! في سياق منطق درء الفتنة والمحافظة على الأمن الاجتماعي العام…) ألا تخشى أن يكون العض بالنواجذ على هذا النهج هو عين التثبيط لإرادة التغيير وتكريسا للأمر الواقع بل تجريما لقوى التغيير بحجة أن مناكفة الاستبداد قد يثير “مساوئ وأضرارًا أكبر؟ خاصة وأنك ذكرت بأن ” حركة تغيير الأوضاع الاستبدادية، وعدم منح القوى الاستبدادية المتخلفة، أمانا وراحة واطمئنانا، يزيدها قوة ونفوذا وتوحشا وغطرسة، وإمعانا في احتقار الأفراد والمجتمع والأمة، وانتهاكا لحقوقها”، كما لا يخفى عنك أن وصفة “”سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم” هي ذات المبررات التي تسوغها كافة الأنظمة المستبدة المتحكمة في رقاب الناس، لاستدامة حكمها عبر حشد هائل من أدوات التضليل والتوهيم، من وسائل إعلام ومثقفين ممن باعوا ضمائرهم لقاء دراهم معدودات وغيرها من جحافل الاسترزاق، ممن تحولوا إلى منابر وعظ لإلقاء الدروس حول الاتعاظ من تجربة تونس ومصر في إشارة إلى ما كانت هذه البلدان “تنعم” به من سلم وأمان، وتريد أن يتحسر المرء على ذلك الزمن الساطع، ويندم على انفلاته، وهم يقصدون سلم القبور والسجون والذل والهوان.
وختاما جزاك الله خيرا على مقالتك وأرجو أن تجد في تعقيبي هذا مجرد وجهة نظر تكميلية، تتفق في الكثير مما ذهبت إليه وتختلف في بعض منه دون ان يمس في ذلك من جوهر الموضوع
إضغط هنا لقراءة مقال د. الطيب برغوث | السنن أو القوانين الثلاثة في وفاة الشيخ سعيد رمضان البوطي