الحالة الجزائرية.. نار بلا دخان

منذ أيام كتبت في احدى تغريداتي على تويتر أنه: ‘حينما تُتداول معلومات حول وفاة الرئيس إكلينيكيا، ويقول النظام أن الرئيس في تحسن ويخضع لفترة نقاهة، أحس بأنني أعيش في دولة مسرحية الزعيم’، وبدون أن نغوص في سيناريو المسرحية، فكلنا تابعها ويعرف المقصد من هذا الاقتباس أو التمثيل.
لكن النقطة المهمة والخطيرة التي يجب الإشارة إليها وهي لب هذا المقال، أنه من غير المعقول ولا المقبول في عهد الثورات الشعبية العربية وزمن شبكات التواصل الاجتماعي أن يعيش شعب ‘اسمه الشعب الجزائري’ على هامش الأحداث، وأن تحكمه طغمة من خارج التاريخ والجغرافيا، تعامله بنفس أساليب زمن الدكتاتوريات المقدسة، حيث لا حسيب ولا رقيب، وإنما تعتيم وفساد وتخريب.
فكأن أساليب النظام الجزائري الذي لا زال يعيش برأسين ويسيّر الجزائر برأسين (مؤسسة الرئاسة والمؤسسة الأمنية العسكرية أي المخابرات)، لم تتغير ولم تتبدل، وهي فقط تكتيكات وماكياجات لنفس المسخ الذي نشأ عشية الاستقلال واستمر في الحكم إلى اليوم مرورا بكل الكوارث السياسية من الانقلاب العسكري أو ما سُمي حينها ‘بالتصحيح الثوري’ سنة 1965، وكل الاغتيالات السياسية المصاحبة له، إلى اغتيال الرئيس محمد بوضياف، إلى توقيف المسار الانتخابي والدخول في العشرية الحمراء، إلى عملية تيقنتورين بالصحراء الجزائرية، لنصل اليوم إلى مسرحية ‘مرض الرئيس′، التي لا زالت تبحث لها عن إخراج يليق بمقام أبطالها (ونحن هنا ندعو للرئيس بالشفاء فليس من شيمنا الاستثمار في الابتلاءات)، وإنما أبطال المسرحية من يخططون في هاته الفترة المفصلية ويؤسسون لسيناريوهات متعددة تضمن لهم التخريج الذي يرضون عنه ويمنحهم الاستمرارية لسنوات قادمة.
والغريب العجيب في تسيير النظام الجزائري لهاته الفترة المتأزمة، التي تشهد غليانا شعبيا غير مسبوق من حيث الاحتجاجات والإضرابات، التي مست أغلب القطاعات التعليمية، المهنية، الصحية والإدارية، أنه يضرب كشحا عن كل ما من شأنه أن يظهر أنه في خطر أو أن استقراره بدأ يهتز، وتراه يتمظهر القوة والثقة وكأن من يحكمهم شعب ألف الاستبداد والخنوع، واستمرأ مبدأ االسكوت مقابل الخبز′، إنها الزبونية السياسية في أوضح تجلياتها، التي تجاوزت المفهوم العام الذي يقصرها في ثلة من أصحاب المصالح والسياسيين المرتبطة مصالحهم بالنظام، ليصبح كل الشعب الجزائري زبونا مميزا (VIP) للنظام الجزائري، حيث الكل منخرط في لعبة من يأكل أكثر من الكعكة الكبيرة والمغرية.
هذه الاستراتيجية التي سميتها ‘الدعاية للفساد بالفساد’، نجح فيها النظام بشكل كبير متدثرا بالريع النفطي المتدفق على الخزينة العمومية، ومتكئا على فهمه الجيد للعقل الجمعي للشعب الجزائري، الذي اكتسبه بمرور السنوات والأزمات، لكن ما يثير الاستغراب هو السؤال الذي طرحته سابقا من أن المحيط الإقليمي في تغير واضح والواقع الدولي كذلك، بيد أن الوضع في الجزائر لا ينبئ بهذا بشكل واضح على الأقل في الخمس السنوات القادمة، فما هي الأسباب يا ترى؟ إجابتي التي اقترحتها تتكون من ثلاثة محاور رئيسية:
المحور الأول: انتكاسات الوضع الإقليمي العربي: كلما تأخر التغيير ونجاح الثورات العربية أكثر، ازدادت فرص النظام الجزائري في تثبيت أقدامه في الحكم، ومع التطورات الدموية للثورة الليبية سابقا والسورية حاليا يزداد استثمار هذا الوضع، ناهيك عن الصعوبات التي تجدها كل دول الربيع العربي التي خطت الخطوات الأولى في طريق التغيير والتحول السياسي، والعجيب أن من يدعو لفوبيا الربيع العربي ليس هو النظام، وإن فعل ذلك إعلاميا بشكل ضمني في البداية، ولكنهم أزلامه والمخدوعون من الشعب بوطنية زائفة تستثمر في الظلم والزبونية المتعاظمة والمستشرية كسرطان خبيث، وبالتالي فإن النظام الجزائري الحالي لا يمكن أن نرى له موقفا إيجابيا من الثورة السورية، إلا في حدود النفاق الدبلوماسي العربي المعهود، حيث أن مصلحته في عدم سقوط نظام بشار الأسد، وقد استثمر في وقت سابق في اللاجئين السوريين حين أطلقهم في ربوع الجزائر يهيمون على رؤوسهم يطلبون سد حاجتهم في منظر يقتلع القلوب ويدميها، قاصدا أن يلقن الشعب الجزائري درسا، بأن هذا مصيرك إن أنت أردت أن تطالب بتحريرك من عبودية ‘القوت اليومي’ إلى حرية ‘المطلب السياسي’.
المحور الثاني: الحالة السوسيو- اقتصادية الداخلية: حتى نكون منصفين في حكمنا وعادلين في تحليلنا، فإن الوضع الاجتماعي والاقتصادي لأغلبية الشعب الجزائري أفضل من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لأغلب دول الثورات العربية، ذلك أن الطبقة المتوسطة كبيرة، وإن كانت تعاني من تناقص القدرة الشرائية وتطالب بوضعها الذي يليق بها فهي تنتمي لدولة بترولية وفيها من الخيرات ما يؤهلها لأن يعيش شعبها فوق الريح، ومن هذا المنطلق وضمن هذا الإطار تدور مطالب الاحتجاجات والإضرابات العمالية المتواصلة والمتزايدة، ولكن العجيب دائما أن النظام السياسي والحكومة بالخصوص تتعامل مع كل هذا الحراك بنمطية واستسهال كبيرين، الشيء الذي يحيل إلى مقاربتين إحداهما إدراكية؛ بأن النظام يدرك جيدا أن الإضرابات والاحتجاجات ذات المطالب الاجتماعية والوظائفية لا يمكن أن تؤسس للتغيير السياسي، ما دامت لم تصل إلى المطالب السياسية وتصر عليها، والمقاربة الثانية حلولية؛ بأن كل هاته الحراكات الاجتماعية والاحتجاجات المطلبية متحكم فيها، بل ومستغلة بطريقة أو أخرى من طرف النظام نفسه؛ وأنه حين يريد وضع حد لها لن يكلف نفسه إلا عناء الغرف من معين الخزينة وزيادة رواتب كل عمال هاته القطاعات المنتفضة، وبذلك ينتهي الإشكال، وهذا ما أشرت له سابقا من أن إرادة التغيير إذا ما بقيت في المطالب الاجتماعية فإن مصير أصحابها سيكون التأسيس للزبونية السياسية ونشرها لتعم كافة الشعب.
المحور الثالث: ترهل العملية السياسية وفوبيا الإسلاميين: على مدار العشرين سنة الماضية ومنذ دستور 1989 الذي أسس للتعددية السياسية وإمكانية إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي (الأحزاب)؛ عمل النظام على أن يكون ديكور التعددية والديمقراطية جذّابا ومقبولا، لدى الرأي العام الداخلي وكذا الرأي العام الدولي، ولذلك فإن العمل على تفريخ أحزاب جديدة يصب في خانة الاستثمار في الديكور الديمقراطي-التعددي، فوجود أكثر من 50 حزبا في الساحة الجزائرية لا يمكن أن يفهم منه إلا أنه تمييع للعمل السياسي، بل واستغلال إنشاء هاته الأحزاب – من طرف أصحابها- للحصول على بعض الامتيازات والمساومة بها في كل استحقاق، خاصة مع العزوف الشعبي الكبير على المشاركة السياسية بشكل عام وعلى الانتخابات بشكل خاص، فحتى الأحزاب العريقة مثل جبهة التحرير الوطني أو التجمع الوطني الديمقراطي أو حركة مجتمع السلم؛ لم تعد تجذب الناخبين لأنهم أصبحوا شبه مقتنعين بعدم جدوى هاته الانتخابات، فالحاكم الفعلي للجزائر لا يُنتخب ولم يُنتخب أساسا، ولا يمكن التخلص منه عن طريق الانتخابات، كما قال نعوم تشومسكي في مقولته الشهيرة : ‘للأسف…لا يمكن التخلص من الأوغاد عن طريق الانتخابات لأننا لم ننتخبهم أصلا’.
ثم هناك نقطة مهمة تساهم في تأخر عملية التغيير السياسي في الجزائر – من وجهة نظري- وهي فوبيا صعود الإسلاميين في دول الثورات العربية، التي انتقلت إلى الأحزاب الجزائرية العلمانية أو الشيوعية أو حتى التي تعلن عن نفسها بأنها ‘وطنية أو ديمقراطية’، فأصبحت تعمل على تخويف الجزائريين من أي تغيير سياسي يحدث بطريقة غير تقليدية ‘لأنه سيفرز صعود الإسلاميين وهم الذين كان لهم ماض ‘أسود’ في العشرية السوداء’، وبخطاب كهذا يسهمون في تجميد أي إمكانية للتغيير، ويستثمرون في ذاكرة المأساة الجزائرية بطريقة خبيثة..
وبأوضاع كهذه نستطيع أن نقول ان الجزائر اليوم تسير نحو مستقبل مجهول، فلا رئيس أخباره متوفرة، ولا حكومة أحوالها متيسرة، ولكن أحزاب أوضاعها متعسرة، وشعب نفسيته منكسرة ومتحسرّة.

بوحامد علي
‘ أستاذ العلاقات الدولية بجامعة قاصدي مرباح
ورقلة – الجزائر

 

الحالة الجزائرية.. نار بلا دخان

 

الحالة الجزائرية.. نار بلا دخان