الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لا يخفى على أحد أن أمتنا تمرُّ بمنعطف كبير في تاريخها، وتعاني تحوُّلاً هائلاً في مسيرتها، وتنظر إلى المستقبل نظرة ملؤها الأمل المشوب بالحذر، وإن كان بعض الناس ينظر إليه نظرة معكوسة مِلؤها الحذر المشوب بالأمل.
والواقع أننا – سواء غلب علينا الأمل أو الحذر – نعيش تحولاً لا خيار لأحد فيه، ولا مناص من حتميته. وفي ما يبدو أن المسألة كونية قبل أن تكون شرعية، وأن التغيير الذي يضرب الأمة الآن بزلازل الثورات هو جزء من سنة الله – تعالى – في الأمم والشعوب والحضارات، وهذا ما يجب ألا نغفل عنه ونحن نتناول قضية كهذه تناولاً شرعياً؛ لأن فهم السنن الإلهية في المجتمعات وفي العمران الإنساني جزء لا يتجزأ من فهم الواقع الذي لا غنى عنه في تنزيل الأحكام.
فسُنة التداول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، وسنة التدافع: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}[الحج: 40]، وسنة الأخذ للظالمين بعد الإملاء لهم: {وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183]، «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، وغيرها من السنن التي تحكم العمران البشري: لا يصح ألا تكون مراعاة في النظر إلى الواقع الذي ينزل عليه الحكم الفقهي.
ومن المؤكد – ما دام المصدر واحداً – ألا يكون هناك تنافر بين السنن الإلهية والشريعة الربانية، وهذا أحد المنطلقات التي ننطلق منها إلى معالجة الموضوع.
ولقد بلغ الظلم والبغي والاستبداد والقهر حدّاً ليس من طبيعة الأمور أن تظل الشعوب صابرة عليه وساكتة عنه أكثر من ذلك، وهذا هو الذي غفلت عنه الأنظمة التي ركبت ظهور الشعوب الإسلامية دهراً طويلاً، ولعل غفلتها هذه من مكر الله – تعالى – بها {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْـمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً 15 وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15-16]، فكان أخْذُ الله لهم من حيث لم يحتسبوا، من جهة الشعوب لا من جهة التنظيمات التي كانت الشعوب تجافيها خوفاً من بطش الحكام.
ولم تكن الشعوب تفهم أن الظلم الذي وقع عليها من نوع ظلم أهل القبلة بعضهم بعضاً؛ وإنما فهمت بفطرتها أنه ظلم يمارَس عليها من غير أهل ملتها؛ ولكن بأيدي أقوام من جلدتهم ويتحدثون بألسنتهم، ولم تكن تفهم إلا أنه امتداد للاستعمار الأجنبي ولكن في صورة مقنَّعة؛ ومن هنا انطلقتْ للتغيير الذي بدا أنه أمر حتمي لا مناص منه مهما كانت التضحيات.
هذا هو الواقع الذي لا يختلف عليه اثنان في رقعتنا الإسلامية الممتدة من شرق الأرض إلى غربها، ما لم يكن العمى أو التعامي قد أصاب بعض الناس، وهذا البعض على أيِّ حال لا يقدِّم ولا يؤخِّر في حسم ما يقضي العقلاء بحسمه، وإذا كان هذا هو الواقع فقد اكتسبنا منطلقاً ثانياً ذا أثر كبير في إحراز الصواب في هذا الموضوع.
ولقد تناول البعض هذه المسألة تناولاً تجاهل الواقع فيه وتغافل عن السنن الإلهية، وضم إلى ذلك التجاهل والتغافل دواهي كباراً متعلقة بأسلوب البحث العلمي وقواعده، كان منها النظرة الجـزئية والتناول الناقص من خـلال إعمـال بعض النصوص وإهمـال بعضـها الآخـر، وكـان منهـا التعميـم الـذي لا يفرق بين وضع وآخر من الأوضاع المتباينة والمتباعدة زماناً أو مكاناً أو حالاً، وكان منها وضع النص في غير موضعه وحمله على غير ما يُحمَل عليه، إضافة إلى تهمة المجاملة من بعضهم لبعض الأنظمة دلت عليها قرائن إن اجتمعت ارتقت إلى مرتبة القطعيات؛ كل هذا نتج عنه فتاوى اصطدمت بشكل مباشر وصريح مع بدهيات آمنت بها الشعوب إيماناً يُعَد من العبث محاولة زحزحتها عنها؛ أعني تلك الفتاوى التي حرَّمت الثورات واعتبرتها من قبيل الخروج على الحكام.
ينبغي قبل أن نصدر ذلك الحكم المتهور بأن ثورات الشعوب هذه هي خروج على الحكام: أن نحرر مصطلحاتنا أولاً؛ فَمَن هم الحكام الذين يحرُم الخروج عليهم؟ وما هو الخروج الذي نهى عنه سلف هذه الامة؟
إن الحاكم الذي يَحرُم الخروج عليه وتجب له الطاعة وتتنزل النصوص المحدِّدة لواجباته تجاه الأمة ولحقوقه عليها: هو الحاكم الذي يكتسب شرعيته من مصدرين لا غنى عنهما: الأول: أن يُختار من الأمة وأن يُولَّى عليها بطريق شرعي، والثاني: أن يحكم في الأمة بكتاب الله وشريعته، فهذان شرطان لشرعية الحاكم، وإذا كانت مصلحة جمع الكلمة وحقن الدماء تُسقِط في بعض الأحيان الشرط الأول، وتقتضي الكف عن الحاكم والسمع والطاعة له وتحريم الخروج عليه إن تأمَّر بطريق التغلب، فإن ذلك مشروط بإقامته لكتاب الله، وهذا واضح في حديث عبادة؛ فعن جنادة بن أبي أمية قال: «دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِي مَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»[1]. أما أن ينهار الشرطان فلا يمكن أن ينال الحاكم ذلك الوضع الاستثنائي؛ اللهم إلا عند عدم القدرة، فعندئذٍ يسقط واجب التغيير ويبقى واجب الإعداد لامتلاك القدرة على هذا التغير.
ومعلوم بالطبع أن هؤلاء الحكام جاؤوا بطرق غير شرعية، وأنهم لم يحكِّموا كتاب الله، بل حكَّموا – علناً – الطاغوت وتحاكموا إليه، وجعلوا السيادة لغير منهج الله، والمرجعية لغير شريعة الله، ووالوا كل الولاء من حاربها وعادَوا كل العداء من ناصرها وطالب بها، ثم كان الولاء للأعداء سنةً ماضية وطريقة مطَّردة وسلوكاً فاقوا فيه عبد الله بن أُبَي الذي أنزل الله – تعالى – فيه قوله: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} [الحشر: 11] وهذا الصنيع منهم – أعني الحكم بغير ما أنزل الله والولاء لأعداء الله – هو الكفر البواح الذي عند الأمة فيه ألف برهان.
أما الخروج الذي حرَّمه العلماء فهو الخروج المسلح من فئة تفتات على الأمة وتخرق إرادتها؛ لذلك عُرِف الخوارج في التاريخ الإسلامي بهذا الاسم؛ لأنه هـو الاسـم الموافق للحال الـذي كـانوا عليــه وهـو الحـــرب المسـلحة على الحكـام، ولا بد – لكي يكون خروجاً – أن يتحقق فيه معنى الخروج على الجماعة؛ لأن الخروج على الحكام هو في حقيقته خروج على الجماعة وافتيات على إرادتها وغصب لأمرها قبل أن يكون خروجاً على الحكام؛ لذلك جاء في بعض الأحاديث ذكر الجماعة للتعبير عن السلطان الذي لا يصح الخروج عليه، مثلما ورد عن ابن عباسٍ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَيَمُوتُ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»[2].
فالحاكم يستمد من الجماعة سلطانه وأحقيته بالحكم وبالسمع والطاعة وبالكف عن الخروج عليه، فإذا كانت الجماعة نفسها هي التي خرجت عليه بأي وسيلة رأتها مناسبة للحال ومحققة للمصلحة في المآل فلا يسمى ذلك خروجاً بالمعنى الذي ورد النهي عنه؛ سواء مارست الجماعة ذلك من خلال أهل الحل والعقد منها أو مارسته بنفسها وبسوادها الأعظم عند غياب أهل الحل والعقد وعدم اجتماعهم.
إذن فلنناقش القضية بعيداً عن مسألة الخروج على الحكام، وبعيداً كذلك عن مسألة الابتداع في الدين؛ لأن الوسائل والأساليب والأدوات ليست توقيفية؛ فالثورات والمظاهرات والاحتجاجات الجماعية والاعتصامات والإضرابات وما شابه ذلك وسائل وأدوات للتعبير أو التغيير أو الإنكار أو الضغط على المسؤولين لتحقيق مطالب عادلة، ولم يقل أحد بأن الوسائل والأدوات توقيفية؛ وإلا لكان حاكماً بتوقف عجلة الحياة، ومحال أن يكون هذا العِوَج في دين الله؛ وإنما الوضع الصحيح لها أنها اجتهادية، يشتَرَط لجوازها شرطان: الأول: ألا تصادم حكماً شرعيا، والثاني: أن تكون محقِّقَة للمصلحة في غلبة الظن.
فهذه الأمور ليست من الشعائر التعبدية حتى نتوقف في العمل بها حتى يأتي ما يدل على مشروعيتها؛ وإنما هي من العـادات، والأصـل في العادات الالتفـات إلـى ما فيها من معاني، فإن كـانت موافقـة للشريعة بمعنـى أنه ليــس فيهـا ما يخالفهـا ولا يضادها، وكان فيها مصلحة راجحة، فلا مسوغ للقول بتحريمها، وإن كانت مضادة أو مخالفة للشريعة أو كانت مفسدتها أرجح من مصلحتها فلا تردُّد في القول بتحريمها.
قال الإمام الشاطبي: (وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني فَلِأُمور:
أولها الاستقراء: فإنا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معه حيثما دار فترى الشيء الواحد يُمنَع في حالٍ لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز… والثاني: أن الشارع توسع في بيان العلل والحِكَم في تشريع باب العادات… وأكثر ما عللَّ فيها اتباع المعاني… والثالث: أن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوماً في الفترات، واعتمد عليه العقلاء حتى جرت بذلك مصالحهم وأعملوا كلياتها على الجملة فاطردت لهم… ومن هنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدية، والقسامة، والاجتماع يوم العروبة (وهي الجمعة للوعظ والتذكير)، والقراض، وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محموداً وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلُها العقول…)[3].
والتكييف الصحيح للثورات هو أنها شكل من أشكال ممارسة الأمة لسلطانها في العزل والتولية والمحاسبة والمراقبة، والصورة المثلى التي تمارس الأمة بها هذا السلطان هو قيام أهل الحل والعقد بممارسة ذلك نيابة عن الأمة، فإذا لم يكن لهيئة أهل الحل والعقد وجود أو لم يكن لهم اجتماع ولا رابطة فإن الأمة لا سبيل إلى ممارستها هذا السلطان إلا أن تمارسه بنفسها بلا إنابة ولا تمثيل؛ لأن الأصيل أحق بممارسة حقه من الوكيل، ولأن البديل هو ألا تمارس هذا الحق أصلاً أو أن يتولاه عنها من لا يمثلها، وفي كلا الحالين من الخطر والغرر والضرر ما يجعله فتنة يجب توقيها؛ وممارستها بنفسها تكون بسوادها الأعظم؛ لأن الجماعة هي السواد الأعظم كما ورد في بعض روايات أحاديث الافتراق؛ ولأن إجماع الخلق في بلد من البلدان أمر يستحيل حدوثه فيفضي تعليق الحكم عليه إلى التعطيل.
فهل لهذا السلطان أصل شرعي؟
هناك من الأدلة الشرعية ما يدل على ثبوت هذا الأصل، من أهمها:
الدليل الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته كان مهموماً بأمر الخلافة من بعده، وازداد همه وشغله وهو في مرضه الذي مات فيه. يدل على ذلك حرصه الشديد على ائتلافهم واجتماعهم، وخوفه الشديد عليهم من فتنة الفرقة وحرقة الاختلاف والتشرذم، والنصوص النبوية الدالة على هذا الحرص وهذا الخوف أكثر من أن تحصى، ويدل على ذلك أيضا أنه همَّ – وهو في اللحظات الأخيرة – أن يكتب كتاباً لئلا يضلوا بعده، وهمَّ كذلك أن يكتب لأبي بكر كتاباً.
وبرغم شغله صلى الله عليه وسلم وهمِّه الشديد، وبرغم توفر الدواعي على الوصية: من وجوب الخلافة – كما أسلفنا – ومن تربص المنافقين وغيرهم، وبرغم عدم المانع، برغم ذلك كله لم يوص، وكبار الصحابة بين يديه، لم يوص بها وهي أولى شيء بالوصية إن كان الإيصاء بها هو الصواب.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص ولم يستخلف، برغم توفر الدواعي واستفاضتها، وانتفاء الموانع واستحالتها، فهذا أكبر دليل وأوضح بيان على أن الأمة هي صاحبة السلطان، وأن الله – عز وجل – أراد لها أن تكون على هذه الدرجة من الرشد والنضج، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يربيها على ذلك، وأن يتركها لتمارس سلطانها بنفسها.
الدليل الثاني: جملة من الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته فيها التصريح بأن الأمة هي صاحبة الأمر، من هذه الأخبار ما يلي:
1- عن عَائِشَةُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – مرفوعاً: «… لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ، أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْت: يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ»[4].
فقوله صلى الله عليه وسلم: يأبى الله والمؤمنون؛ أي: يأبى الله في قدره الرحيم ويأبى المؤمنون في تصرفهم السليم، وفي هذا تصريح بأن المؤمنين هم الذين يمارسون هذا الحق، وأن هذا الأمر أمرهم.
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»[5]، فالأمر أمرهم جميعاً، فإذا جاء من يريد أن يستبد بالأمر ويذهب به بعد أن اجتمعوا عليه فلهم أن يقتلوه؛ لأنه يستلب ما ليس له من مالكه بالقوة، وهذا مما يدل على المكانة العظيمة والدور الكبير للأمة؛ وأنه يترتب على اختيارها من الأحكام ما لا يترتب إذا لم تكن هي المختارة.
3- عن علي مرفوعاً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّراً أَحَداً مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ لَأَمَّرْتُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ»[6]، وفي رواية دون مشورة منهم.
4- عن علي – رضي الله عنه – قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ يُؤَمَّرُ بَعْدَكَ؟ قَالَ: «إِنْ تُؤَمِّرُوا أَبَا بَكْرٍ تَجِدُوهُ أَمِيناً زَاهِداً فِي الدُّنْيَا رَاغِباً فِي الآخِرَةِ، وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عُمَرَ تَجِدُوهُ قَوِيّاً أَمِيناً لا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عَلِيّاً، وَلا أَرَاكُمْ فَاعِلِينَ، تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيّاً يَأْخُذُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ»[7].
فقوله صلى الله عليه وسلم: إن تؤمروا، بعد أن سألوه: من تؤمر؟ أوضح دليل على أن الأمر منوط بالأمة، وهي صاحبة السلطان ومصدر السلطات.
5- أَنَّ عَليَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ – رضي الله عنه – خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ! كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: أَصْبَحَ – بِحَمْدِ اللَّهِ – بَارِئاً. فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ – وَاللَّهِ – بَعْدَ ثَلَاثٍ عَبْدُ الْعَصَا، وَإِنِّي – وَاللَّهِ – لَأَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَوْفَ يُتَوَفَّى مِنْ وَجَعِهِ هَذَا؛ إِنِّي لَأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، اذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الْأَمْرُ ؟إِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا عَلِمْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّا – وَاللَّهِ – لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَنَاهَا لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ، وَإِنِّي – وَاللَّهِ – لَا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم[8].
فقول علي – رضي الله عنه -: لا يعطيناها الناس، دال على أن هذا الأمر للناس يعطونه من شاؤوا.
عن حميد بن عبد الرحمن الحميري حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ – رضي الله عنه – أن عمر – رضي الله عنه – قيل له: ألا تستخلف؟ فَقَال: أَيَّ ذَلِكَ أَفْعَلُ فَقَدْ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي؛ إِنْ أَدَعْ إِلَى النَّاسِ أَمْرَهُمْ فَقَدْ تَرَكَهُ نَبِيُّ اللَّهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ – وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ – رضي الله عنه – فَقُلْتُ لَه: أَبْشِرْ بِالْجَنَّة[9].
فقوله: إن أدع للناس أمرهم، صريح في أن الأمر في فهم عمر كما هو في فهم علي – وهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ورموز النظام السياسي الإسلامي – أنه للناس؛ أي للأمة الرشيدة.
عندما قال أحد الناس: «لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَاناً، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ…» وخطب خطبة طويلة ختمها بقوله: «مَنْ بَايَعَ رَجُلاً عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُبَايَعُ هُوَ: وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا»[10].
فقد صرح عمر بأن أمر المبايعة والاختيار أمرُ المسلمين، ومن افتات عليهم فيه فقد غصبهم أمرهم، وينهى أن يبايع أحد أحداً من غير مشورة، وإن وقع ألا يتابعهم أحد على ذلك؛ لأنه حق الأمة، ويُخشى أن يكون هذا من المتبايعيين تغريراً بنفسيهما، قد يفضي إلى قتلهما بما أحدثا من شقاقٍ في الصف واستلابٍ للحق من أصحابه.
الدليل الثالث: أن الخلفاء الذين ورَّثوا الحكم لأبنائهم كخلفاء بني أمية وبني العباس كانوا كلما أرادوا أن يعهدوا طلبوا من الأمة أن تبايع، وحملوها على ذلك، حتى إن معاوية قدِم المدينة وطلب البيعة ليزيد، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر: أهرقلية؟ كلما هلك قيصر خلفه قيصر؟ ورفض البيعة، وأراد معاوية أن يعطيه مالاً فرفض وقال: أبيع ديني بدنياي؟[11].
فهذا يدل على أن هؤلاء الخلفاء يعلمون أن الأمر للأمة، وإن أهل العلم فيها لا يغفلون عن هذه الحقيقة؛ وأنهم إن لم يظفروا بالبيعة بأي طريق كانت فلن يظفروا بالشرعية لدى علماء الأمة وعامتها.
الدليل الرابع: ما قرره العلماء من أن الأمَّة عند شغور الزمان من السلطان عليها أن تنتدب من يقوموا بالمهمات، «وقد قال العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قُطَّان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدِّموا من ذوي الأحلام والنهي وذوي العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره وينتهون عن مناهيه ومزاجره؛ فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات وتبلدوا عند إظلال الواقعات، ولو انتدب جماعة في قيام الإمام للغزوات وأوغلوا في مواطن المخافات تعين عليهم أن ينصِّبوا من يرجعون إلى رأيه؛ إذ لو لم يفعلوا ذلك تهووا في ورطات المخافات ولم يستمروا في شيء من الحالات»[12].
وعلى هذا فإن الثورة إذا قام بها سواد الشعب في بلد من البلدان فهي من قبيل ممارسة الأمة لحقها وسلطانها وأمرها، ويشترط فقط لمشروعية ذلك أن يغلب على الظن تحقٌّق المصلحة ولو بمفاسدَ أقل؛ لأن المصالح والمفاسد إذا تعارضت قُدِّم الراجح منها؛ فالقاعدة أنه: «إذا تعارضت المصالح والمفاسد قُدِّم الأرجح منها على المرجوح»[13].
ومن ثَمَّ فإن الحكم لا يكون واحداً ولكن ينظَر إلى الحال وإلى المآل، ويقارَن بين الحال والمآل؛ فإن كانت الثورة ستنقل الأوضاع من حال سيئ إلى مآل أسوأ لم تجز، لا لإنها خروج على الحكام، ولكن لكونها مصادِمة للمصلحة التي بُنيَت عليها الشريعة، وإن كان المآل راشداً والانتقال إليه ضروريٌّ صارت جائزة، بل وواجبة عند القدرة عليها وعند أيلولة الحكم إلى الكفر البواح.