الروحُ البشريةُ منطلقُ الطريقِ نحوَ الحرية
يبدأُ المستضعفُ طريقه نحو الحريةِ عندما يُدركُ قوته الداخلية، فأنْ نكونَ أقوياءَ شيءٌ وأنْ ندركَ ذلكَ شيءٌ آخر.
لا يرى المستضعفُ الأمورَ على حقيقتها، بل يراها من خلالِ ثُقبِ بابٍ ثابتٍ شيّده داخلَ تفكيره الخاص.
لو أخذنا فيلًا أسيرًا في السيرك ،على سبيل المثال، وربطناه منذ صغره بحبلٍ متينٍ مشدودٍ بوتدٍ راسخٍ في الأرض، لَحاولَ الفيلُ التحرَّرَ جاهدًا، فتراه يشُدُّ الحبلَ، يحاولُ قَضْمهُ، يَنْهَمُهُ، ثم يشدّ الحبل ثانيةً دون أن يؤثر ذلك على الحبل.
بعد ذلك يصلُ الفيلُ الصغيرُ إلى مرحلةِ يأسٍ يدركُ فيها أن لا جدوى من المحاولة فالحبلُ أقوى منه، ثم يصرفُ النظَرَ عن الأمر نهائيًا.
يكبُر الفيلُ الصغير وفي ذاكرته أنّه أراد الخلاص من شيءٍ ما منذُ مُدّةٍ وفشل في ذلك. هو اليومَ قادرٌ على اقتلاع جذور شجرةٍ أو تخريب السيرك بكل سهولة، ومع ذلك يمكن تقييده بحبلٍ رفيعٍ مثبتٍ في عمود مكنسة، ولن يحاول التحرر منه.
لأنّ هناكَ حبلًا وهميًا يسكن فكرَه وروحَه، يمنعه من رؤية حقيقة قوته ومن التحرر.
كذلك لا يدركُ الشعبُ المستضعفُ حقيقةَ قوتِه كما هي في الواقع، بل يراها من خلال الإيديولوجيات السياسيةِ للدكتاتورية الخانقةِ التي تحكم عليه بالعجز والتبعية.
في ظلّ نظامٍ جائر، يتمّ تلقينُ الشعب بكل الطرق أنّ السلطةَ والقوّةَ تكمنُ في قمّة الدكتاتورية، وبأنّ بناءها متينٌ غير قابلٍ للهدم، وبأنّها تُطبّق بصفةٍ نازلةٍ من الأعلى إلى الأسفل، وبأنّ الشعب لا يملك من أمرِه شيئًا، لا سلطةَ ولا قوّة، ويتوجّبُ عليه الطاعةُ والرضوخ.
تنشر الدكتاتورية مفهومًا متآلفًا للقوة والسلطة داخل أرواح هؤلاء المستضعفين.
عندما يرى الشعب رأس الدكتاتورية عبر التلفزة يسير على بساطٍ أحمر بينما يسير البقيةُ على الأرض، وحين يراه يتفقّد الجندَ بينما حرابُ ماسوراتهم القاتلة منتصبةٌ نحو الأعلى تحيةً له، وحين يرى إطراءَ الوزراءِ الرسميين والصحفيين، عندها تترسّخُ في ذهنه فكرةُ أنّ السلطةَ تكمُن في قمّة الديكتاتورية.
كما أنّ سجنَ واغتيالَ المعارضين السياسيين من جهة، والعفوَ الموسمي عن المجرمين والمحكوم عليهم بالإعدام من جهة أخرى، تنحُتُ في الأذهان أنّ قمة الديكتاتورية تُحيي وتميت تماما كما إدعى النمرودُ منذ آلاف السنين: “ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت”.
حين يرى الشعب أيضا العروضَ العسكريةَ ويرى الشرطة في كل الأمكنة، وحين يقال له أنّ المخابرات حتى وإن كانت غير ظاهرة للعيان فإنّ لها آذانًا وأعينًا في كل مكان.
حين يشهد الشعب أيضًا “هُبَلْ” وكذا ركائَزَ البنايات الحكومية أو حتى المشاريعَ الهندسيةِ الكبرى، كالطرق السيارة، والملاعب، الخ. حين يرى الشعبُ مظاهراتٍ ضخمة يتمّ تفريقها بالعصا والقزولة.. عندها تقذف في ذهنه صورةٌ يُبطِنُها بأنّ السلطةَ ثابتةٌ متينةٌ ودائمة.
عندما يشهد الشعب أيضا نتائجَ الانتخابات الحرة تُرفض بانقلاب، وأنّ الانتخاباتَ المزوّرةَ غالبًا ما تتعارض مع إرادته، حين يعاني مرارًا من عجزه عن إصلاح الفساد الذي يراه أو يعاني منه يوميًا، حينها يتمّ تلقينه أن لا حول ولا قوة له، فيُغرسُ في داخله الإحساسُ بالعجز.
حين يُدرك الشعب أنّ ثمنَ المعارضة هو السجنُ أو التعذيبُ أو القتلُ أو الإفقارُ أو العزلُ والنفي، وحين تُفهمه الديكتاتورية أنّ الصمتَ والخضوعَ هما البديلُ الوحيدُ للحفاظ على سلامته ورزقه، فإنه يتعلّمُ وينشأُ تمامًا مثل الفيل على الطاعة والانقياد.
إنّ المفهومَ المتآلفَ للسلطة الذي تُروّجه الدكتاتورية يَحولُ دون رؤيةِ الشعب لقوته الحقيقة، ومن ثَمّ يتقاعس عن الانتفاض.
في حقيقة الأمر ليست السلطةُ أحاديةً بل هي متعدّدة، وليست مركّزةً في قمة الهرم ولا جوهريةً أصليةً في الدكتاتوريين، بل هي متفرّقةٌ ومصدرها الشعب على الخصوص.
ليست السلطةُ متينةً دائمةً، بل هشّةً ومؤقّتة.
في الواقع ليس الشعبُ عاجزًا، فهو يملك قوةً هائلةً. يكفي أن يُدرك ذلك، حتى يتمكّن من الإطاحة بالدكتاتورية.
وبالفعل فإنّ الشعب هو مصدر السلطة. وكما يقول غاندي: لا تستطيع أكثر الدكتاتوريات استبدادًا وقساوةً الاستمرارَ دون تعاونِ وموافقةِ الشعب.
ليس المستضعف ضعيفًا في الأصل بل لديه شيءٌ من القوة والسلطة، وإلّا لما كلّفه الله سبحانه بمسؤولية حالته:
“إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا: الم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها”
“وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ”
إذن هناك دومًا فضاءٌ للحرية والوعي والعمل حتى في ظلِّ الأنظمةِ الأكثر استبدادًا.
تتراءى سلطةُ النخبة الدكتاتورية للمستضعف في شكل بُنيةٍ متمركزةٍ عمودية، غير قابلة للكسر ومنتظمة.
في الواقع هذه الصورة تجريدية وبعيدة كلّ البعد عن الحقيقة، فقمةُ الدكتاتورية تتكوّنُ في الغالب من شبكة مجموعات تتشكّلُ من عدد من الأفراد بلحمهم وشحمهم، يقرّرُ كلّ واحدٍ منهم حسبَ مصالحِه وأهدافِه وانتمائِه الأُسريِ أو القبليِ أو الجهويِ أو الأيديولوجي.
وبالمقابل فإنّ السلطةَ موزّعةٌ بشكل أوسع، فالنخبة الدكتاتورية لا يمكن لها استخراجُ البترول، وجبايةُ الضرائب وتوزيعُ المواد الغذائية، وتوفيرُ الماء والكهرباء، وتسييرُ المدارس والمستشفيات، وكذا بناء وتعبيد الطرق وتنظيمُ المواصلات، وإدارةُ البنوك ومراكز البريد، وإقامةُ المحكمات ومراقبةُ الحدود، وحتى تمثيل البلاد في منافسات كأس العالم، الخ.
وحدهُ الشعب قادرٌ على تقديم هذه الخدمات عن طريق هيئاتٍ متعدّدةٍ تابعة للدولة، من جيشٍ وشرطةٍ وموظفينَ وعمالٍ اقتصاديين وماليين، وأنظمةٍ تربويةٍ صحيةٍ وإعلاميةٍ وجمعيات، الخ.
لو قرّرَ المواطنون وقف تقديم هذه الخدمات، عصيانًا للسلطة، فلن يتبقّى للنظام الجائر أية سلطة.
اتضح الآن أنّ النخبة الدكتاتورية لا يمكنها الوصولُ والسيطرةُ على الموارد البشرية والمهارات وكذا الموارد الماليةِ لبلدٍ ما، دون موافقة الشعب، فالتحايلُ في الانتخابات مثلا يعدّ تناقضًا، حيث يتمُّ الاستعانةُ بالشعب ونكرانه في نفس الوقت، لكن الدكتاتوريين ينظمون الانتخاباتَ الصوريةَ على وجه الخصوص، فهم بحاجة إلى شرعية الشعب، وفي هذا اعتراف للشعب بأنه مصدر السلطة.
السلطةُ هشة ومؤقتة، كونها تعتمدُ على التوازن المضطربِ للعلاقاتِ بين شبكاتِ وعصاباتِ النخبةِ الدكتاتورية، لكنها تعتمد بشكل أكبر وأهمّ على طاعةِ وتعاونِ مختلفِ المؤسساتِ والمنظماتِ سواءً التابعة لإدارة النظام أو المستقلة عنها ولا سيّما طاعة وتعاون السكّان أيضًا.
يمكن للنظامِ الديكتاتوري أن ينهاَر فجأةً عندما يجعل الشعب من الوصول إلى مصادر السلطة أو السيطرةِ عليها متذبذبًا أو مقطوعا.
لقد تمّ انتخابُ الدكتاتور الأندونيسي سوهارتوSuhartu رئيسًا مدى الحياة، لكن تمّت تنحيته في وقتٍ قصير.
وكلّفَ غضبُ تاجرٍ متجوّلٍ مهضومِ الحقوقِ دكتاتورَ تونس عرشَه.
أمّا حسني مبارك وعلي صالح، اللذان حَكَمَا على امتداد أربعةِ عقودٍ فقد أُطيحَ بهما على يدِ المستضعفين الغاضبين.
كذلك لاقى شاه إيران قبلهم نفسَ المصير رغم شَرعيتِه المفبركةِ التي ربطته بالسلالة الأخمينية العريقة، وتحصّنِه بحماية الآلافِ من الحرسِ الملكي، إضافةً إلى تأييدِ ودعمِ اسرائيل والغرب.
لا تستطيعُ أيّ دكتاتوريةٍ إخضاعَ شعبٍ ما دونَ موافقةِ هذا الأخير.
حين يرفضُ الشعبُ طاعةَ الدكتاتورية والتعاونَ معها، فإنها تصبحُ مجرّدةً من السلطة ويكون بالتالي مآلها الانهيار.
إنّ رفضَ الدكتاتورية يهدمها لأنه يجفّفُ مصادرَ قوتها.
لو لزم كل المواطنين منازلَهم يوم الانتخابات الصورية، فلن يكون للدكتاتورية انتخاباتٌ مزيّفةٌ تسمح لها بالحكم، ولو أنّ العلماءَ والأئمةَ والمثقفين والصحفيين استنكروا جورَ وظلمَ الدكتاتورية، فلن تستطيع هذه الأخيرة الاحتجاجَ بالدينِ أو التاريخِ أو الأساطيرِ أو حججٍ أخرى للبقاء في الحكم.
لو قرّر عمّالُ الوظيفِ العمومي والمدارسِ والمصانعِ والخدماتِ القيامَ بإضرابٍ وطنيٍ متزامنٍ لشُلّت حركة الدكتاتورية.
ولو أضرب عمال البترولِ والماليةِ والبنوكِ ومراكزِ البريدِ والمواصلاتِ والنقلِ لما بقي للدكتاتورية مواردُ مادية تحت تصرّفها للتحرّك.
كما لو أنّ المدّعين العامّين والقضاةَ والشرطةَ قرّروا عدم الانصياعِ للدكتاتورية، لفقدت هذه الأخيرة قدرتها على انتزاعِ إذعان الشعب عنوةً تحتَ طائل العقوبة.
إنّ المبدأَ الأساسيَ الذي يسيّر كل استراتيجيةِ تغييرٍ لاعنفي هو أنَّ الطاعةَ شرطٌ مسبقٌ وجوهريٌ للسلطة، فعدم الرضوخ يحولُ بين النظام المستبدّ وبين الوصولِ ثم التحكّمِ في الموارد البشرية والشرعيةِ والقدرةِ على المعاقبة , و هذا ما يمكّنُه من ممارسة السلطة.
ليست الغايةُ من الكفاحِ اللاعنفي محاولةُ كسرِ الركائزِ التي تستند عليها الدكتاتوريةُ من جيشٍ وشرطةٍ على وجه الخصوص، لأنّ هذه الركائزَ تتشكّلُ أساسًا من أفرادٍ قابلين للتأثّر، بل الهدف هو سحبُ هذه الركائز من تحتِ النخبة الدكتاتورية دون كسرها، والأهمُّ هو استمالتها إلى صفّ الشعب.
يعتبرُ منهجُ التغيير اللاعنفي أنّ الكفاحَ المسلّحَ يتمركزُ حول مشكلٍ وهميٍ، فليس الإشكال في امتلاك الدكتاتوريةِ للمواردِ الأمنيةِ والعسكريةِ لانتزاع الطاعة من الشعب، بل المشكلُ الحقيقي يكمنُ في العبودية الفكريةِ للشعب القانعِ بالدكتاتورية على الرغمِ من جَوْرِها وظُلمها.
هناك من يتقبّل الدكتاتورية كوجهٍ من أوجهِ الالتزام الشرعي، فالأئمةُ المضللون يدعون لذلك.
البعض الآخر يُذعِنُ من أجل مصلحةٍ ما: المحافظةِ على العمل، أو منحةِ التقاعد أو حتى الحصولِ على نفوذٍ أو ترقيةٍ أو بعض المزايا المادية.
وصنف آخر من الناس يفعل ذلك بدافع التعوّدٍ ببساطة أو اللامبالاة. (من باب أخطونا يا العرب، رانا ملاح).
وهناك من يقوم بذلك بدافعِ الضغطِ الاجتماعي، كأغلب الناس، خوفًا من العقاب (اللّي خاف سلم)، أو حتى لأنهم فقدوا الثقة في أنفسهم وفي قراراتهم وآرائهم (مسلّمين مكتّفين).
إذن فالإشكال الفعليُ يكمُن في الحالة النفسية لتلك العبوديةِ الطوعية، وما يجبُ التخلّصُ منه هو ذلك الحبل النفسي:
“إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”
هذه إذن هي أرض المعركةِ الحقيقية التي لا مفرّ من الانتصارِ فيها في درب الصراع من أجل الحرية.