في متل هذا اليوم، من عام 1988، تفجرت إنتفاضة شعبية عارمة في الجزائر، إحتجاجا على الأوضاع الإجتماعية والإقتصاديةالآخذة في التدهور، وعلى الإنسداد السياسي الخانق، الذي تعمق بصراع جناحين داخل السلطة.
الجناح الأول، و يقوده شريف مساعدية، الرجل القوى في الحزب الواحد، جبهة التحرير الوطني، و هو الحزب الذي كان، رسميا وظاهريا، يحكم البلاد و كان حوله و معه، مجموعة من كبار الشخصيات المدنية والعسكرية، بما فيهم رئيس جهاز المخابرات -المدنية- الجنرال لكحل عياط.
هذه المجموعة كانت ترفض إجراء أي نوع من الإصلاحات، على الرغم من المطالب الشعبية بذلك.
مطالب كانت قد تفجرت في عدة إحتجاجات، بدأت بما عرف بالربيع الأمازيغي في أبريل1980، مرورا بإضطرابات سيدي بالعباس والأغواط في 81، وهران و مدن أخرى في الغرب الجزائري في بداية 82، والإضطرابات الطلابية في أكتوبر-نوفمبر 82، وسطيف وقسنطينة والقصبة في 85-86 وإحتجاجات أخرى عديدة …
و الجناح الثاني، و يقوده الثنائي مولود حمروش- الجنرال العربي بلخير، وكانا أقرب شخصين للرئيس الشادلي بن جديد، وبإسمه كان يديران البلاد، وحولهما مجموعة من كبار رجال الدولة من مدنيين وعسكريين. وقد أصبح كثير منهم أثرياء في مرحلة الإنفتاح التى بدأت مع وصول الرئيس الشادلي للسلطة في فبراير 1979.
كانوا يرغبون في نوع من الليبرالية الإقتصادية التي تسمح ب”الخروج من الأزمة الإقتصادية الخانقة”، التي كانت تعيشها الجزائر بعد إنهيار أسعار البترول ووصوله إلى أقل من8 دولار في 86-87، بعد أن كان تقارب 40 دولارا في 81-82.
تفجرت تلك الإنتفاضة مساء الثلاثاء 4 أكتوبر، في بعض الأحياء الشعبية في العاصمة خاصة باش جراح، باب الواد، القصبة…ولتعم العاصمة يوم 5 أكتوبر، وهو التاريخ الذي كانت بعض الشخصيات النقايية والسياسية قد تحدثت عنه من قبل لمظاهرات ستعم الجزائر، و كانت تتويجا لعدة إضرابات كانت قد شملت المجمعات الصناعية الكبرى مثل مصنع السيارات بمنطقة الرويبة، و سلك البريد والمواصلات…
ماكان صراع داخل السلطة، دفعه أحدهما، وهو جناح حمروش-بلخير، إلى الشارع ليحسمه لصالحه، لكنه خرج عن حسابات السلطة وأصبح خطرا مرعبا يكاد يعصف بالأجنحة المتشاكسة كلية.
مما إستدعى إعلان حالة الحصار، وهي أعلى حالات الطوارئ، ظهر الخميس 6 أوكتوبر، بعد أن رُجم الموكب الرئاسي بالحجارة في منطقة حي المالكي، وهو حي يقع بين عكنون و حيدرة و هما أرقى أحياء العاصمة، وبعد أن توسعت الإنتفاضة لتشمل أغلب المدن الجزائرية خاصة الكبرى منها.
أوكل الرئيس الشادلي بن جديد الأمر لثلاثة من كبار الجنرالات، كان من أبرزهم الجنرال خالد نزار، و يساعده المقدم محمد العماري والعقيد محمد بتشين رئيس مخابرات الجيش والرائد كمال عبد الرحمان و آخرون من كبار ضباط الجيش.
قابل الجنرال نزار المحتجين بالدبابات و الرصاص الحي و الإعتقالات و التعذيب الوحشي، الذي شهدته مراكز الشرطة و الدرك و وبشكل خاص مراكز المخابرات.
قُتل المئات و جُرح الألاف و عُذب آلاف آخرون بما فيهم الأطفال… وأحرقت أغلب مقار الحزب الواحد وبعض المقار البلدبة و الولائية ناهيك عن عدد من الوزارات ومحلات الأروقة و أسواق الفلاح…
بعبارة واحدة، هاجم المحتجون كل ما أمكنهم مما يرمز “للدولة المستبدة والفاسدة”.
.بدأت الأصوات تتعالى من عدة جهات لنصح الدولة بالإستماع إلى مطالب الجماهير الغاضبة، وكان من أول هؤلاء الشيخ أحمد سحنون رحمة الله عليه، الذي كتب بيانا من بين ماجاء فيه:
” إن الأحداث الجارية في الساحة ليست مجرد طفرة أو وليدة رد فعل انتهازي فقط، بل تجد دوافعها وأسبابها من الوضع العام المتردي بسبب سياسة الترف والمباهات والتبذير المتبعة على حساب المصالح العليا للشعب.
والإصلاح –الدين ال نصيحة- لا يكمن في القمع وإسكات أصوات المتألمين من الجوع والعري والضيق الخانق، وإنما الحل يكمن في مراجعة النفس بصدق ومواجهة الحقيقة بإجراء عملي يمليه الشعور بالمسؤولية أمام الله ثم التاريخ، وهو العودة إلى الإسلام شريعة ومنهاجا بعدما فشلت النظم الوضعية المخربة، لنكون منطقيين مع ما عاهدنا الله عليه وسجل في الدستور “الإسلام دين الدولة”.
إن هذه العبارة لا تجد محتواها العملي إلا في تطبيق الإسلام بإعطائه أبعاده العملية :
– الشورى الصادقة في الحكم
– والعدالة في توزيع خيرات البلاد على فئات الشعب
– وتحقيق الكفاية مع الضروريات لكل فرد
– والمساواة أمام القانون
– الطهارة في الأخلاق
– والأمن على كل المقدسات من دين وعرض ونفس ومال
– والحرية في التفكير والنعبير…”
أحمد سحنون
الواعظ بمسجد دار الأرقم
الأربعاء 25 صفر 1409 – 6 أكتوبر 1988.
كانت هناك بيانات أخرى ومطالب من جهات متعددة، من أبرزها تلك التي وقعتها 18 شخصية سياسية وتاريخية و من أهم هؤلاء: عبد السلام بلعيد، رضا مالك، الطاهر زبيري، عبد العزيز بوتفليقة…
ومن بين ماتضمنته تلك الوثيقة التي سلمها العقيد الزبيري للشادلي، في 23 أكتوبر بعد أن هدأت الأمور:
“- استخلاص الدروس من هذه الأيام المأساوية، لتجنيب البلاد أحداثا مأساوية جديدة.
– المبادرة دون تحديد آجال بإدراج الإصلاحات الأساسية التي يفرضها الوضع الراهن، والتي يجب أن تؤسس لحياة ديمقراطية، وتسمح للمواطنين الجزائريين الاختيار بكل حرية ممثليهم.
– ولتحقيق هذه الأهداف، يجب أن تجتمع جميع شروط الحوار الوطني يتصدرها فتح المجال أمام الجميع لتحقيق الإجماع المبني على توافق جميع القوى الحية للأمة.
كما نطالب بندوة وطنية تجمع ممثلي جميع القوى الحية، تعقد لبلورة في آجال ستة أشهر الإصلاحات المؤسساتية التي تنتظرها الأمة، والتي ستعرض لاستفتاء شعبي، هذه الخطوة مع تأجيل الانتخابات الرئاسية، وجميع الإجراءات وجعلها في إطار المؤسسات المنبثقة عن الإصلاحات، وخلال المرحلة الانتقالية يجب ضمان احترام جميع الحريات الديمقراطية، كحرية التجمع، وحرية التعبير وإنشاء الجمعيات”.
سأعود للحديث عن هذا الموضوع إن شاء الله.
ولكن ما إستوقفني هو أن الجنرال خالد نزار، الذي قمع إنتفاضة أكتوبر88، هو نفس الجنرال، وقد رقي و أصبح وزيرا للدفاع، الذي سيقود إنقلاب 11 يناير1992، وهو نفس الضابط الذي كان قاد إحدى الكتائب المدرعة -ضمن جيش الحدود- الذي إنقلب على الحكومة المؤقتة في صيف 1962، وهو أحد الضباط الذين قاتلوا مع فرنسا لكي تظل الجزائر فرنسية حتى1958 على الأقل، كما فعل والده وجده من قبل، بإعترافه هو نفسه في مذكراته.
لقد كانت أحداث أكتوبر صراع على السلطة بين الذين كانوا، وظلوا، في السلطة، ولكنهم، وقد تنازعوا وتصادموا، أراد أحد الجناحين أن يدعو الشارع ليطيح بالجناح الثاني، فإذا بالشعب ينتفض ضدهما إنتفاضة عارمة ومدوية، كادت أن تسقط النظام إلى الأبد، لولا أنه خدع بالإصلاحات التي طرحها ونفذها، بحق وصدق، الرئيس الشادلي بن جديد.
إصلاحات إغتنمتها عناصر الثورة المضادة لتنظم نفسها من جديد، و تسطو بالدبابة على السلطة ذات 11 يناير92، بعد أن كان الشعب قد فصل في أمر الحكم بطريقة حضارية، وهي الإنتخابات التعددية، الحرة والنزيهة حقا.
محمد العربي زيتوت