حوارات و اتجاهات.
جريدة الشاهد الدولي
محمد العربي زيتوت لـ” الشاهد الدولي “:
التاريخ: 21 ذو الحجة 1418 الموافق لـ 25 أفريل 1998
لندن – الشاهد الدولي. أجرى الحوار لطفي بن رمضان
محمد العربي زيتوت من مواليد مدينة الأغواط سنة 1963 خريج المدرسة الوطنية للإدارة، فرع الديبلوماسية سنة 1986. حاصل على ماجستير في العلوم السياسية، فرع العلاقات الدولية سنة 1989. إشتغل في وزارة الخارجية في الإدارة المركزية من سنة 1986 الى سنة 1991 حيث عمل سكرتيرا ثانيا رئيس مكتب، ثم سكرتيرا أولا بالسفارة الجزائرية بليبيا ابتداءا من أواخر 1991 ثم نائبا للسفير برتبة مستشار منذ سنة 1994.
سنة 1995 قرر الإستقالة من العمل الديبلوماسي و اللجوء الى أوروبا ردا على رفض السلطة لاتفاق روما الذي أمضته القوى السياسية الكبرى في الجزائر. و كذلك بعدما تبين له بما لا يدع مجالا للشك أن السلطة إخترقت الجماعات المسلحة و أصبحت تستعملها لتبرير بقائها في الحكم. و في هذا الجزء من الحوار تناول الأستاذ العربي زيتوت الأوضاع الإقتصادية و الإجتماعية المتدهورة في الجزائر، و عرج على مسألة اختراق المخابرات للجماعات المسلحة و توظيفها. و قال أن العنف في السنوات الأولى من انطلاقته كان يستهدف إسقاط السلطة، لكن وجهته حُورت نحو الإنتقام من الشعب. و تحدث عن نظرية العنف المحدود التي يوظفها النظام الجزائري لتبرير إجراءاته القمعية و استدرار العطف و المعونات الغربية. كما تناول قضايا أخرى بالغة الأهمية. و في الجزء الثاني و الأخير (ينشر في العدد القادم) يتناول الأستاذ زيتوت موضوع الهدنة بين الجيش الإسلامي للإنقاذ و الجيش الجزائري، و موضوع الخلافات داخل الجبهة الإسلامية للإنقاذ… و يقدم مقترحاته فيما يخص سبل الخروج من الأزمة الراهنة في الجزائر… و قد التقى به في لندن الزميل لطفي بن رمضان و أجرى معه هذا الحوار:
“الشاهد الدولي “:
يبدو أن الوضع السياسي يتجه نحو الإستقرار بما يخدم مصالح السلطة خاصة بعد أن تم استكمال بناء المؤسسات و السيطرة النسبية على أعمال العنف و الهدنة التي أعلنها الجيش الإسلامي للإنقاذ.
زيتوت: ظاهريا يبدو ذلك، و لكن يتضح يوما بعد يوم أن المهازل الإنتخابية التي نظمتها السلطة إبتداءا من سنة 1995 لا تعني الشعب من قريب أو بعيد، إذ أن ذلك في الأساس كان موجها الى الرأي العام الخارجي، أما داخل الجزائر فإرادة المقاومة التي يتمتع بها الشعب الجزائري و رفضه للسلطة في تزايد مستمر. ربما و حسب ما يصلنا من أخبار الداخل أن الشعب الجزائري لم يعد يثق بشكل كبير في أطراف المعارضة و لكن المؤكد أن كرهه للنظام العسكري هو أضعاف ما كان عليه قبل الإنقلاب و بعده مباشرة.
“الشاهد الدولي “:
..لكن السلطة تبدو في وضع هجومي
زيتوت: صحيح أن السلطة استطاعت أن تجمع كبار المرتزقة الذين أداروا البلاد أيام الحزب الواحد في فترة السبعينيات، و في نفس الوقت تخلصت ممن يمتلكون حد أدنى من الأخلاق و المبادئ السياسية، بحيث تمحضت للشر و الإفساد. أما بالنسبة للإرهاب ففي حين يتم التركيز على الإرهاب الدموي يتم تجاهل الإرهاب الأكبر الذي تمارسه الحكومة ضد المواطنين، و هو الإرهاب الإقتصادي، ” إرهاب القفة و إرهاب الخبز “، تخيل أن سعر الخبز مثلا إرتفع من دينار واحد سنة 91 أي قبل الإنقلاب الى تسعة دنانير سنة 96 و أن سعر اللتر الواحد من الحليب إنتقل من دينار و نصف الى 24 دينار و هكذا بالنسبة لكل المواد، إرتفعت ما بين 6 مرات الى 12 مرة.
“الشاهد الدولي “:
و لكن الشعب يبدو قابلا بهذه الإجراءات كما أن السلطة نجحت في الخروج من أزمتها الإقتصادية، حيث هناك الحديث عن مئات المليارات من المدخرات من العملة الصعبة.
زيتوت: الإنطباع الذي يريد النظام تقديمه هو أن هناك قبولا من طرف الشعب. و هو أمر ليس صحيحا بالمرة، لأنه لو كان الأمر كذلك لسمح حتى للأطراف السياسية المشتركة معه في الإئتلاف الحكومي بالتظاهر. و أنت تذكر أنه لما تظاهر بعض البرلمانيين قبل ستة أو سبعة أشهر إحتجاجا على تزوير نتائج الإنتخابات البلدية الأخيرة التي تمت في أكتوبر أشبعوهم ضربا رغم أن لديهم الحصانة البرلمانية، و لو كان ذلك صحيحا لرفعت حالة الطوارئ، كما أنه لو كان هناك قبول لسمح للصحفيين و المنظمات الحقوقية الأجنبية بدخول البلاد و لرفعت القيود عن الإعلام الداخلي و الخارجي، و إذن فالنظام يريد إعطاء الإنطباع بالقبول الشعبي و لكن ذلك ليس صحيحا بالمرة. أما الحديث عن المليارات بالنسبة للخزينة، فيعتبر أمرا فضيعا و دالا على احتقار الدولة للشعب. إذ كيف يعلن ذلك في نفس الوقت الذي يطرد فيه آلاف العمال و مئات الآلاف الآخرين الذين لم يستلموا أجورهم لعدة أشهر و حتى السنة. و في الوقت الذي تشهد البلاد إرتفاعا جنونيا في الأسعار شبه أسبوعي، في نفس الوقت يتحدث النظام عن وجود 6 أو 7 مليارات في الخزينة. و الكل يعلم أن حوالي 40% من الشعب الجزائري بدون شغل، كما أن النظام ذاته يعترف بوجود نقص يقدر بمليوني وحدة سكنية أي ما بمعدل 7 أشخاص لكل وحدة سكنية، و هو ما يعني بحساب بسيط أن حوالي 14 مليون جزائري أي حوالي نصف الشعب هم في وضع سكني معدوم تماما، أو أنهم يشاركون النصف الثاني في سكنات صعبة، و إذن فإن هذه القضية موجهة بالأساس الى صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و الشركاء الغربيين ليجد النظام منهم كل التفهم، و في الحقيقة فإن هذا النظام ما كان ليبقى و لن يبقى دون هذا الدعم الغربي المتواصل و بمختلف الأشكال، و من أطراف عديدة و إن كانت فرنسا تأتي طبعا في الدرجة الأولى.
“الشاهد الدولي “:
و لكن عودة الى المستوى السياسي، السلطة نظمت إنتخابات رئاسية شاركت فيها كل الأطراف، كما ان البرلمان الآن يشهد مشاركة كل الأحزاب السياسية ما عدا جبهة الإنقاذ… يبدو المشهد السياسي مختلفا الآن و أن النظام قد استرجع جزءا أو كل الشرعية.
زيتوت: صحيح أن النظام إستطاع أن يناور بشكل يبدو موفقا لحد الآن، و هذا يعطي فكرة عن الأطراف التي شاركت معه في المناورة، و للأسف كانت تدعي أنها معارضة و فيها البعض يدعي أنه معارضة وطنية و إسلامية…إلخ. و في واقع الأمر فإن كل الذين يشاركون في هذه ” المؤسسات ” سيتفيدون من الوضع بدرجة ثانية. فإذا كان النظام العسكري يستفيد بدرجة رئيسية و هو الحفاظ على السلطة بدون مشاركة حقيقية و بدون إرادة شعبية، فإن بعض الأطراف تساهم معه لأنها تعرف أنها بوجود القوى السياسية الكبرى التي كانت موجودة سنة 1991 أي الجبهات الثلاث و على رأسها الجبهة الإسلامية للإنقاذ… تعرف أن لا وجود لها في الحقيقة. فتواجد القوى الرئيسية الثلاث: القوة الوطنية : ممثلة في جبهة التحرير، و القوة العلمانية: في جبهة القوى الإشتراكية، و القوة الإسلامية: ممثلة في الجبهة الإسلامية… عند تواجد هذه القوى الحقيقية و هي التي اختارها الشعب سنة 1991 و إن كان ذلك بتفاوت، فإن القوى التي تلعب الآن دور المساهم في اصطناع شكل ديموقراطي لا وجود له و قد كانت هذه القوى ” السياسية ” خلال انتخابات سنة 90 و 91 الحرة و الديموقراطية قزمية، ما حدث هو أن جبهة الإنقاذ ضربت و أقصيت بعد إلغاء الإنتخابات و حدوث الإنقلاب عليها و على إرادة الشعب، أما جبهة التحرير الوطني فحدث انقلاب داخلي لها حيث طردت و أبعدت كل القوى الممثلة للتيار الوطني فعلا من داخلها سواءا الإصلاحيين بقيادة حمروش أو التيار الوطني النزيه و المبدئي بقيادة عبد الحميد مهري و جيء بقيادات لا وزن لها في تاريخ الجزائر، بل إن تاريخها ملطخ بالسرقات و الإختلاسات. و بالنسبة لجبهة القوى الأشتراكية أيضا فقد أريد ضربها، و حدثت عدة محاولات لشقها من الداخل و لكن قوة هذا الحزب تكمن ربما في الزعامة الكارزماتية و التاريخية للسيد آيت أحمد. إذن فإن القوى الرئيسية أخرجت أو أبعدت أو حيدت بشكل أو بآخر، و جيء بقوى غير ممثلة للشعب الجزائري، و ثبت عبر الانتخابات السابقة 1990 و 1991 أنها غير ممثلة له، و إذا كانت تمثل فلا تكاد تمثل إلا نسبة لا تتجاوز 10%، فإذا استثنينا جبهة القوى الإشتراكية و جبهة التحرير لأن وضعهما كما حدثتك، فإن الأحزاب الأخرى لم تتجاوز أصواتها مجتمعة حوالي 6% في انتخابات 1991 مثلا، سواء حزب الـ RCD (التجمع من أجل الثقافة و الديموقراطية) أو حزب نحناح.
المظهر الذي يريده النظام موجه للخارج، و هو يعرف من حيث الداخل مرفوض بشكل كلي. ربما يستفيد النظام من أمرين: من تواطؤ خارجي، فرنسي بشكل رئيسي، و من عنف داخلي يغذيه و يوجد له كافة الظروف كي يبقى و يتجذر. إذ يدرك النظام أنه بدون وجود عنف فإن وجوده هو ذاته في خطر.
“الشاهد الدولي “:
إذا كيف تفسر العمليات الضخمة التي يقوم بها الجيش الجزائري مؤخرا و الإعلان عن الأعداد الكبيرة من القتلى في صفوف الجماعات المسلحة ؟
زيتوت: الإشكالية أن النظام يرتكز على إستراتيجية إعلامية تقدم الأمر على أن هناك جماعات إسلامية إرهابية، و أن هناك دولة بمؤسسات عسكرية و أمنية تقاوم هذا الإرهاب. و هو أمر مغلوط تماما، و لكن هذا ما يراد إبلاغه للعالم، و إلا لما كانت كثير من الشعوب و المؤسسات في الخارج لتسكت عن ست سنوات من القتل المتواصل للجزائريين الذي – باعتراف الغرب نفسه – وصل الثمانين ألفا. لكن مستشاري النظام في قضية السياسات الإعلامية يقدمون الأمر و كأنهم يحاولون إيجاد تبرير لما يحصل بالقول أن النظام الجزائري يقوم بنوع من التنظيف و من الحرب المشروعة ضد تيار ظلامي، تيار عنف، تيار إرهابي… و لكن هذا ليس صحيحا. صحيح أن التيار الإسلامي يقود المقاومة و لكن ليس هو التيار الوحيد الذي يفعل ذلك… هذا من جهة، و من جهة ثانية فإن الكثير من الجماعات التي تسمى ” إسلامية ” هي في الأخير جماعات مخترقة تديرها المخابرات، و هناك أدلة متعددة و من جهات مختلفة سواء من داخل هذه الجماعات أو من داخل شخصيات كانت في الشرطة أو الأمن أو كانت في المخابرات أثبتت و بما لا يدع مجالا للشك و في تصريحات متعددة أن أغلب هذه الجماعات إستطاعت المخابرات أن تخترقها، و قد استخدمت في ذلك عدة أساليب يطول شرحها في هذا المقام.
“الشاهد الدولي “:
و لكن كيف تفسرون سهولة اختراق السلطة لهذه الجماعات ؟
زيتوت: تمكنت السلطة من تحقيق ذلك لسببين: الأول هو أن هناك فعلا فكر متطرف موجود حقيقة، و هذا الفكر المتطرف هو الذي سهل الإختراق، و الحقيقة أن الدرس الذي يمكن أخذه من الواقع الجزائري أنه كلما زاد التطرف سهل اختراقه لأنه ببساطة يأتي من يصرخ أكثر من الآخر فيأخذ مكانه. إضافة الى أن المخابرات الجزائرية لديها خبرة كبيرة جدا في هذا منذ نهاية الثورة حيث تعلمت عن طريق الفرنسيين أسوأ الأساليب، ثم تكونت في الستينات و السبعينات في مدارس الدول الإشتراكية السابقة في المخابرات مثل المخابرات الألمانية الشرقية ” ستازي ” و الكخابرات السوفياتية KGB.
و عودة الى العنف و أطرافه، العنف في الجزائر تقوم به جماعات متعددة أغلبها و أساسها يديرها النظام بشكل أو بآخر سواء بشكل رسمي و هو عنف الجيش معلن عنه أحيانا…
“الشاهد الدولي “:
(مقاطعا) ما الهدف، لأن النظام الجزائري كما كنت تؤكد يريد تسويق نفسه و تلميع صورته لدى الغرب على أساس أنه استكمل بناء مؤسساته و استعاد شرعيته… فما الهدف من إعطاء صورة أن الجزائر ما زال فيها عنف ؟
زيتوت: أولا يجب علينا عند الحديث عن النظام أن نفهم مسلمة رئيسية و هي أن النظام في الجزائر ليس واحدا، فهناك أطراف داخل النظام، بمعنى أنه ليس هناك قيادة مركزية أحادية داخل النظام، و نحن نجد في عدة دكتاتوريات في محيط الجزائر في العالم العربي تجد أن هناك شخصية رئيسية تدير النظام و يدور حولها الباقي و هو ما يحدث مثلا في تونس و العراق و غيرهما. في الجزائر هناك أقطاب هي التي تمثل النظام، أي هناك عدد من الجنرالات هم أساس النظام. و هذا أحد الفروق التي توجد بين النظام الجزائري و الأنظمة التي تشابهه. هذا أولا.
ثانيا قلت أن مصادر العنف متعددة و إذا كانت سياسة النظام تريد أن توجه الى الخارج على أساس أن النظام بدأ يستقر. ففي نفس الوقت(و هذه هي المفارقة) يجب أن يحافظ على حد أدنى من العنف. عندما يتزايد العنف يصبح الأمر في غير صالحه و لكنه يحتاج الى حد معين من العنف (و هذه هي نظرية العنف المحدود) لكي يبرر عددا كبيرا من إجراءاته القمعية، و من حصوله على أسلحة و مساعدات. هو بدون عنف لا يستطيع أن يحصل على ذلك أصلا أو لا يستطيع على الأقل أن يقدم تبريرات لذلك، و في نفس الوقت يجب أن يثبت أن الدولة كدولة و أن النظام كنظام ليسا في خطر… لا أن العنف لا يوجد في الجزائر لا ! فهذا لا يهم كثيرا من الجهات الغربية التي يهمها ثلاثة أو أربعة أشياء: الشيء الرئيسي أن لا تمس مصادر الطاقة و النفط، و لحد الآن إستطاع النظام أن يحافظ على هذا الأمر، و الشيء الثاني أن النظام يدفع الأموال المترتبة عليه كديون و النظام يقوم بذلك و وقع مع صندوق النقد الدولي و البنك الدولي إتفاقيات مذلة للغاية بالنسبة للمنطق الجزائري و لغيره. في قمة الإذلال، الى درجة اشتراط عدم التصديق على ميزانية الدولة ما لم يصادق عليها صندوق النقد الدولي. أي أن الميزانية لا تقدم للمناقشة (الشكلية طبعا لأنهم و في الحقيقة لا يناقشون شيئا لأن صندوق النقد هو الذي يقرر) إلا بعد أن يوقع عليها القسم الخاص بشمال إفريقية في صندوق النقد الدولي – ثم يتحدثون بعد ذلك عن تدخل أجنبي و غيره !!! و هذا ما يحيل الى النفاق الرسمي الجزائري في خصوص التدخل الخارجي. ميزانية الدولة الجزائرية و الإدارة الجزائرية و المجتمع الجزائري توقع قبل أن تتم مناقشتها في أي جهة من مؤسسة في صندوق النقد الدولي…إذا تحقيق مصلحة البترول و الغاز و الحفاظ على الطاقة و دفع الديون المتخلدة بذمته و المحافظة على التجارة و التعامل القائم مع مجموعة من الشركات الغربية. و النظام إذا استطاع أن يوفر لبعض الأطراف الغربية الأمور الثلاثة السابقة فإن العنف لا يهم كثيرا. و إذا كان العنف سنوات 1993، 1994، 1995، توجه أساسا الى إسقاط الدولة، فإن العنف الآن موجه لضرب الشعب و هذا لا يثير الغرب. قد يثار الغرب أو بعض الجهات الإنسانية في دول غربية أو في المجتمعات الغربية مثل منظمة العفو الدولية، و لكن الأمر يقف عند ذلك الحد.
نشر هذا الحوار على صفحات جريدة الشاهد الدولي بتاريخ 21 ذو الحجة 1418 الموافق لـ 25 أفريل 1998
بعنوان: النظام يغذي العنف و يوجد له مبررات لكي يبرر إجراءاته القمعية و يحصل على المساعدات الغربية، و الجماعات المسلحة مخترقة بالكامل من قبل المخابرات.