الفاعلية والصدق بين المنهج الإسلامي والمنهج الغربي..؟

الأحد 03 نوفمبر 2013

في صبيحةالخميس واحد وثلاثين أكتوبر يكون مالك بن نبي رحمه الله، قد قضى تحت الثرى وفي عالم الخلد أربعين سنة، وإذا كنا في هذا الحديث والذي قبله قد واصلنا ما كنا قد قمنا به منذ سنوات إحياء لذكراه وتعريفا ببعض كتبه.

فإن ما قمنا به اليوم في هذين الحديثين يفرضه علينا واجب الوفاء لهذه الشخصية وأمثاله في ذكر مناقبه والثناء عليه نظرا لما أسداه للفكر الإسلامي من خدمات وما بذله من جهد وعرق في سبيل النهضة العربية الإسلامية بصفة خاصة ونهضة العالم الثالث بصفة عامة.

وما بذله من جهد في سبيل حرية الإنسان وكرامته، إذ من أجل تحقيق هذا سخر قلمه ومواهبه الفكرية خدمة للشعوب المستضعفة وشكل في هذا الباب مدرسة خاصة تأثر به الكثير من الأدباء والمفكرين على امتداد رقعة العالم الإسلامي الذي كان مالك يرى ضرورة وحدته وتنسيق نشاط حكوماته وقادته وزعمائه، فكتب من أجل هذه الوحدة الفكرية كتابه الرائد (فكرة الإفريقية الأسيوية) ثم كتب بعد ذلك (كومنويلت إسلامي)، ولذلك فإن السؤال التقليدي الذي يطرحه بعض النقاد حول بعض المفكرين بعد وفاتهم حيث يتساءلون مثلا ماذا بقي من طه حسين أو الحكيم أو محفوظ أو غيرهم.

إن هذا السؤال إذا طرحناه وتساءلنا ماذا بقي من مالك بن نبي حيا بعد وفاته؟

لن يكون الجواب جوابا واحدا ولكنه أجوبة كثيرة بقدر ما ناضل وبقدر ما كتب وحاضر وبقدر ما أنتج من فكر وما قدمه من توجيه للأمة الإسلامية منذ انطلق قلمه للكتابة ولسانه للمحاضرة، فقد بقي منه الكثير والأكثر من ذلك بقي منه روحه الإسلامية الفياضة وقدرته على تأسيس النقد والتوجيه انطلاقا من هذه الفكرة مع رفضه المجاملة على حساب الحقيقة.

إننا عندما نقول هذا عن هذا الإنسان فإننا ندرك أنه إنسان يصيب ويخطئ وأن الحقيقة كانت رائده دائما ولكنه قد يبني بعض الأحكام على تصرفات قائد ما أو تصريحات قائد آخر، ولكن سرعان ما تتحول هذه المواقف لدى هذه الشخصيات، ويكون الحكم المنطلق بناءا عليها في غير محله، وقد فطن هو نفسه إلى ذلك فنبه عنه في أحد كتبه

وعلى أي حال فإن ذكراه في هذه المرحلة التي تعيشها الأمة الإسلامية تعود بنا إلى الواقع المرير الذي كان ينتقده والذي لا يزال كما هو بل ازداد ولكن مع كل المرارة والآلام فإن ذكرى هذا الرجل وأمثاله تقوي الأمل في النفوس أن بزوغ فجر الحرية الحقيقية في الأوطان الإسلامية آت لا ريب فيه، وأن النهضة التي تصل الماضي بالحاضر وتشيد مستقبلا أفضل وأكثر عدلا في المجتمعات الإسلامية ستتحقق لأنه لا يمكن لكل التضحيات والجهود والدماء التي أسيلت في سبيل تحرير الأمة والحفاظ على هويتها وأصالتها أن تضيع.
**********

تخريب وعرقلة

في الحديث الأخير الذي تحدثنا فيه عن المفكر الجزائري المسلم الإسلامي مالك بن نبي تناولنا جانبا من جوانب تشخيصية للمرحلة التاريخية التي اعتبر أنها تؤرخ لبداية مسلسل التخلف والانحطاط اللذين أصابا العالم الإسلامي، وذلك من أجل التذكير بهذا المعطى التاريخي الذي يسقطه بعض الناس من اعتبارهم عندما يتم الحديث عن الدور التخريبي الذي قام به الاستعمار لعرقلة التقدم الذي سعى الكثير من المسؤولين في البلدان الإسلامية وبصفة خاصة في الدول التي كانت قائمة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وذلك حيث يرى هذا البعض في الظروف التي كانت تعيشها البلاد الإسلامية والتي لا يزال البعض منها إن لم يكن الكل يعيشها…

الامتيازات والتدخل

ولاشك أن تشخيص الأوضاع الإسلامية في تلك المراحل الأولى من بداية النهاية للحضارة الإسلامية، كان هاجس الكثير من دعاة النهضة في الشرق وفي الغرب، بل كانت هناك مبادرات متعددة من لدن بعض الحكومات لتجاوز بعض النقص والإطلالة على عالم التطور التكنولوجي والتقدم الحضاري، بل إن هذه المحاولة استغلت من لدن الأوساط الاستعمارية لبث السموم والسعي لجعلها منفذا لإثارة الفتن بين الأغلبية والأقليات في بعض البلدان الإسلامية كما حصل في الدولة العثمانية حيث تم إجهاض ما سمي بالتنظيمات في الدولة للمطالبة بالامتيازات وحماية الأقليات.

خلق أقليات

كما تم محاولة استغلال مبادرة الحسن الأول في المغرب باستغلال نظام لحماية بعض المواطنين الذين يتعاملون مع بعض الدول وخلق ما سمي بالامتيازات القضائية تماشيا مع التوسع في منح هذه الحمايات لبعض المواطنين وذلك حيث ينعدم في المغرب ما سمي الأقليات الدينية كما في الشرق والتي يمكن التدخل لادعاء حمايتها والدفاع عن مصالحها كما هو حاصل في عموم الأقطار التابعة للدولة العثمانية، وهذا موضوع يمكن معالجته بشيء من التفصيل وهو بالفعل قد عالجه الكثير من الأساتذة والباحثين في هذه المرحلة، والتطورات التي تفاعلت في المجتمعات الإسلامية وهي تقاوم وتصارع من أجل درء الاستعمار والسيطرة الأجنبية على البلدان الإسلامية.

فلسفة الحضارة

وإذا كان مالك بن نبي قد عالج ظروف التخلف تحت مسمى القابلية للاستعمار، فإنه حاول من وجهة نظره وهو يسعى من أجل خلق ظروف نهضة جديدة في العالم الإسلامي أن يحصر مشاكل الحضارة وشروط النهضة حتى تكون النهضة مستوفية للشروط الضرورية لقيام الحضارات وبنائها، فهو في هذا الأمر لا يقتصر على ذكر أسباب التخلف وسردها كما فعل الكثيرون مثلا، وهو ليس مؤرخا ولكنه محلل للتاريخ وفلسفته ويسعى إلى بناء فكري متكامل للنهوض وتجاوز القابلية للاستعمار.

البناء الفكري

إن هذا البناء الفكري الذي أراد مالك بن نبي أن يكون أساس العمل من أجل عودة العالم الإسلامي إلى عالم الحضارة، ومشاركة أبنائه في تواصل ما قام به أسلافهم، لا من حيث وقفوا ولكن من حيث يقف العالم اليوم، وحيث يوجد هذا البناء الشامخ من التقنيات المختلفة، والتي تغطي الحياة الإنسانية.

العيش الكريم

غير أن اكتساب هذه المهارات والعلوم التقنية والعملية، وما توفره من فرص للعيش الكريم للإنسان المكرم ينبغي ألا تكون على حساب الروح، لأن ما تتوفر عليه الحضارة الإسلامية عندما تحتل مكان الصدارة بين الناس هو أنها لا تبقي الإنسان مجردا من قيمه ومبادئه الدينية والخلقية، فالعالم الذي عاش فيه مالك بن نبي ولا نزال نعيش فيه الآن لا يبالي كثيرا ولا قليلا بالجانب الأخلاقي إذا تعارض مع المصالح المادية للدول والأفراد.

الصراع الفكري

ومالك بن نبي يرى في معالجة هذه الحالة صعوبات كبيرة ومتنوعة جمعها في مقولتين اثنتين وخص كل واحدة منهما بكتاب وهاتان المعضلتان هما إهمال الأفكار في البلاد المستعمرة، ويجب أن نميز هنا بين الصراع الفكري الإيجابي وهو مقبول ومطلوب والصراع الفكري المفتعل والذي يسعى إلى القتل الفكري بداية بالإرهاب الفكري الذي يمارسه البعض لقتل الخصوم الفكريين في المهد، ويستمد الأفكار التي ضمنها كتابه عن الصراع الفكري من تجربته الشخصية وما عاناه وهو يؤسس لمقولاته الحضارية سواء وهو في الجزائر أو في الشرق أو في الغرب، ويحدد من خلال مجموعة من التجارب الأساليب التي استعملها ويستعملها الاستعمار في صراعه ضد خصومه.

المبدآن

وفي مقدمتها أمران اثنان أو مبدآن اثنان فالمبدأ الأول يقضي بأن لا يكشف الاستعمار النقاب عن وجهه في المعركة إلا إذا لم تترك له الظروف حيلة فهو دائما يستخدم قناع القابلية للاستعمار، والمبدأ الثاني ناتج عن الأول في حيز التطبيق، إذ أن هدف الاستعمار لا يتعلق في الأساس بذات شخص معين ولكنه بأفكار معينة يريد تحطيمها أو كفها حتى لا تؤدي مفعولها في توجيه الطاقات الاجتماعية في البلاد المستعمرة» الصراع الفكري … (ص62-63).

حيرة وبلبلة

ولاشك أن الاستعمار بشكلية القديم والجديد لا يزال يتوفر على نفس الخطة المدروسة لتحييد الأفكار والخصوم على السواء وفسح المجال أمام ما يريده هو أن يسود من الأفكار، وهي كلها أفكار تزيد الواقع الفكري وحتى السياسي في البلاد الإسلامية بلبلة وغموضا، ولنأخذ الآن ما يجري على الساحة الإسلامية ونحاول أن نسقط عليه تلك المقولة التي عبر عنها مالك بن نبي في هذه الفقرة، ان المجتمعات الإسلامية اليوم حائرة ومترددة ولا تدري ما هي الخطوات التي ينبغي أن تخطوها وما هي الأفكار التي يجب أن تأخذ بها، مع بروز أكثر من رأي وأكثر من جماعة في سياق تاريخي يتسم بالحدة وتشابك المواقف وكثرة المتدخلين.

الرفض الممنهج

ولكن يبرز من بين كل هذا أمر أساس وهو رفض الجهات الاستعمارية القديمة والجديدة لبروز قوة إسلامية ملتزمة وذات برنامج من شأنه أن يغير المعادلة التي يريد الاستعمار الجديد أن يفرضها على الواقع الإسلامي، وهي المعادلة التي تقول لا مجال لحكم يتمسك بالإسلام الذي لا يرضى عنه الاستعمار، فالإسلام الذي يدعي أنه يملك برنامجا وتصورا مغايرا هو المرفوض، اما إذا كان الإسلام التقليدي الذي يساير السياسة المتبعة ولا يقلق الغرب على مصالحه غير المشروعة المبنية على نهب الثروات واستغلال الشعوب، وتركها فريسة الأمراض والبطالة والجوع وما يتبع ذلك من انعدام الحريات الديمقراطية.

التقاء المصالح

وهذا هو الإسلام الذي يرضى عنه الغرب ولا مانع عنده ان يتبناه من أراد، ويشاركه في هذا الطرح مجموعة من الناس الذين يئسوا من أن يجدوا لهم مكانا في وضع ديمقراطي سليم، لأن فلسفتهم جزء من فلسفة الغرب المرفوضة، ولأنهم منذ ما يزيد عن قرن في بلاد الإسلام والأمور بين أيديهم ولا تزال الأحوال كما هي، بل لا تزداد إلا سوء إذا قيست بما أنجزته دول وشعوب كانت في نفس الوضع أو ربما أقل في مرحلة معينة من التاريخ.

أمة مبدعة

وعلى أي حال فإن الهدف عند مالك بن نبي هو الوصول إلى تجاوز هذه الحالة ولكن على أساس لا يخرج بالأمة عن أصالتها وحضارتها، لأنه ككل القادة الموجهين يريدون للأمة أن تبقى متميزة ومبدعة ومبتكرة وأن لا تكون عالة على غيرها من الوجهة الفكرية والروحية وذلك لأصالة وقوة ومتانة التراث الحضاري لديها، وفي نفس الوقت تكون سيدة على مواردها وثرواتها وأن تستغل كل ذلك لإنتاج الثروات وإسعاد الشعوب ماديا وروحيا من خلال كل ذلك.

المنهج

ومالك بن نبي في هذا الصدد حاول أن ينتج بناء فكريا منتظما في هذا التوجه واشرنا في الحديث السابق إلى ذلك، حيث قلنا أنه انطلق من أساس الإيمان لأنه بدون هذا الأساس لا يمكن لمشروعه أن يؤتي ثماره المرجوة وكان الأساس الذي أطلقه في مشروعه منذ البداية حيث وضع في كتابه “الظاهرة القرآنية” أساس الفلسفة الإيمانية واتجه في هذا بالدرجة الأولى إلى الشبيبة المسلمة التي تتلقى تعليمها ودراستها في الغرب وعلى يد أساتذة متخصصين ليس في المادة العلمية فقط، ولكنهم متخصصون كذلك في التوجيه الاستعماري وفي التعمق في نفسية الإنسان المستعمَر بالفتح ولذلك نجده يقول في مدخل الظاهرة القرآنية عن المنهج الذي اتبعه والهدف من هذا المنهج الاهتمام بتحقيق منهج تحليلي في دراسة الظاهرة القرآنية.

فرصة التأمل

فمن الناحية العلمية يحقق هذا المنهج هدفا مزدوجا هو: أنه يتيح للشبيبة الإسلامية فرصة التأمل الناضج في الدين، وأنه يوحي إصلاحا مناسبا لمنهج التفسير القديم للقرآن، وينبغي أن ندرك أن التطور الثقافي في العالم الإسلامي يمر بمرحلة خطيرة، إذ تتلقى النهضة الإسلامية كل أفكارها واتجاهاتها الفنية عن الثقافة الغربية، وبخاصة عن طريق مصر، هذه الأفكار الفنية لا تقتصر على أشياء الحياة الجديدة التي يتعودها الشباب المسلم شيئا فشيئا، بل إنها تمس أيضا بطريقة غامضة ما يتصل بالفكر، وما يتصل بالنفس، وفي كلمة واحدة ما يتصل بالحياة الروحية.

توجيه مغشوش

يطرح مالك بن نبي في الفقرة التالية أسلوب الدراسة والمناهج التي كان يخضع لها المسلمون في تكوينهم، ولاشك أن الشبيبة المسلمة تتلقى اليوم التعليم في أوطانها في الغالب الواقع أنه عوض أن يتلقى الطالب هذا التوجيه المغرب والمستهدف للروح الدينية الحق على يد أساتذة أجانب يتلقاه على يد أساتذة أطروا من طرف الأساتذة التابعين للمدرسة الاستعمارية فكان الأمر أصعب وأكشف لأنك اليوم تجده هذا يحدث على يد من يحظون بالاطمئنان أكثر لأنهم مواطنون وحتى مسلمين ولا يمكن الطعن في وطنيتهم أو إسلامهم، وقد لاحظ المتتبعون حالات كثيرة لأساتذة كانوا مخلصين للروح وللمنهج الاستعماري هذا المنهج الذي يقول عنه مالك بن نبي:

الروح المشبوهة

وإنه لما يثير العجب أن نرى كثيرين من الشباب المسلم المثقف يتلقون اليوم معتقداتهم الدينية، وأحيانا دوافعهم الروحية نفسها من خلال كتابات المتخصصين الأوروبيين. إن الدراسات الإسلامية التي تظهر في أوروبا بأقلام كبار المستشرقين واقع في الحركة الفكرية الحديثة في البلاد الإسلامية؟

ويعالج مالك بن نبي هذه الروح المشبوهة التي فرض سلوكها على المؤسسات والكليات من خلال أساتذة معنيين ويورد هذا في حادثة عرفتها البلاد العربية وفي مصر بالذات حيث يقول:

أعمال خطيرة

إن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين قد بلغت في الواقع درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها، وحسبنا دليلا على ذلك أن يضم مجمع اللغة العربية في مصر بين أعضائه عالما فرنسيا، وربما أمكننا أن ندرك ذلك إذا لاحظنا عدد رسالات الدكتوراه، وطبيعة هذه الرسالات التي يقدمها الطلبة السوريون والمصريون كل عام إلى جامعة باريس وحدها، وفي هذه الرسالات كلها يصر أساتذة الثقافة العربية في الغد، أولئك الذين سيكونون عما قريب باعثي النهضة الإسلامية، يصرون –كما أوجبوا على أنفسهم- على ترديد الأفكار التي زكاها أساتذتهم الغربيون.

وعن هذا الطريق أوغل الاستشراق في الحياة العقلية للبلاد الإسلامية محددا لها بذلك اتجاهها التاريخي إلى درجة كبيرة».

أسلوب مستمر

ولاشك أنه رغم مرور أزيد من ستين سنة على تقديم هذه الرؤية فهي في نظري وربما في نظر الكثيرين لا تزال مستمرة وبشكل قوي من حيث ما نشاهده وما نقرأه من أبحاث ودراسات وما نقرأه من مقالات في الصحف والدوريات.

إن مالك بن نبي يريد للشبيبة الإسلامية أن تستمر في البحث والدراسة حيث تصل إلى الدرجة التي كانت عليها العبقرية الإسلام إذ كانت العبقرية الإسلامية تقدم روائع في مجال الفكر فهذا الغزالي وابن رشد وهما من العصر الذي بدأت فيه الشمس في الغروب، ثم غابت الشمس في بغداد، بينما سطع فجر مزيف في سمرقند مع مآثر تيمور لنك.
الصدق والفعالية

ولا يفوت مالك بن نبي وهو يتحدث في كتابيه عن مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي و (الصراع في البلاد الإسلامية) أن يسجل للتاريخ أنه رغم ظروف التحول الذي طرأ على الحضارة الإسلامية بدء من حقبة ما بعد الموحدين فإن شعوبا بأكملها التحقت بالإسلام وبالحضارة الإسلامية، وهذا في الواقع يدل على صدق الفكرة الإسلامية، ومع هذا فإن الفاعلية واصلت هبوطها يقول:

ولقد بلغ صدق الفكرة الإسلامية من القوة ما جعلها تستمر في كسب أتباع جدد وإسلام شعوب بأكملها ولاسيما في أوروبا بعد سقوط القسطنطينية في عام 1453 ولكن فعاليتها كانت تتدرج في النقصان طوال عصر ما بعد الموحدين وحتى الوقت الذي دق فيه ناقوس الاستعمار في العالم .

لقد كان الاحتكاك العنيف مع الحضارة الجديدة في اشد ظروف المسلمين سوء. فلقد رجحت أوربا قيمة الفعالية غلى قيمة الصدق والأصالة في نظامها الاستعماري وأصبح عالمها الثقافي ذا وجهين. ووجه ينظر إلى الدنيا ولا يعنى بشيء آخر سوى الفعالية.

الوجه المختفي

ومن تم لاحظ مالك بن نبي ما تعرضت له الشبيبة المسلمة وبصفة خاصة الصفوة منها هي تعيش وفي وسط لا يملك الفاعلية، ولكنه يملك الصدق، ويتعلم ويلاحظ في وسط يملك الفاعلية ولا يملك الصدق وهي حيرة أفضت في نظره، وهذه الحالة هي التي بنيت عليها دسائس الاستعمار التي يستعملها في الصراع الفكري الدائر في البلاد المسلمة.
الصفوة والوجه الوحيد

أما الصفوة المسلمة التي تربت في الجامعات الأوروبية فلم تكن ترى ألا وجها واحدا، إذ روي عنها الوجه الآخر، كما يوارى وجه القمر المظلم عن سكان الأرض فأصبح في تكوينها التربوي خلط بين مظهرين متمايزين للفكرة الواحدة: صدفها وفعاليتها ويعتبر هذا اللبس المفروش في أعماق نفسية هذه الصفوة المسلمة المعاصرة هو النواة التي تدور حولها جميع دسائس الصراع الفكري ومناوراته وكبار القادة الذين يملكون بين أيديهم أسرار هذا الصراع وسائلة يعرفون تماما كيفية الاستفادة من هذا اللبس عندما يلوحون أمام أنظار شبابنا الجامعي بما يسلب الفكرة الإسلامية قيمتها التاريخية ويصبح موضوع الدخل السنوي المتوسط للفرد من أقوى حجج منطق الفعالية المستخدمة اليوم للقضاء على صدق الفكرة الإسلامية في عقل المفكر الجامعي المسلم. هذه الخدعة مستخدمة اليوم بكثرة ولاسيما في الدراسات التي تقدم لشباب المفكرين المسلمين والموجهين من قريب أو بعيد من جانب ” أستاتذة” الجامعات الأوربية.

حجة اليوم والأمس

ويضع مالك بن نبي أصبحنا على الوضع الذي يؤدي اليوم أكبر خدمة لخصوم الفكرة الإسلامية، والدعوة إلى إعادة الاعتبار لهذه الفكرة ومكانتها في تقديم الشعوب الإسلامية، وبناء اقتصادها، فالصدق عن الخصوم يوازي ما يتحقق في المجال الاقتصادي ومدى ما تحققه الدول من النمو في كل سنة، ويلاحظ في نفس الوقت إن هذه المقولة تفطن لها أحد الاصلاحين القدامى ويورد هذا في الفقرة التالية.

أما يقظة المسلمين تجاه هذه الأساليب فليست بنث الأمس. ففي القرن الماضي أثبت عبد الله النديم سفسطة منطق الفعالية الذي يعتمد عليه المعمرون لفرض مركب النقص في نفوس المسلمين عندما قال: إذا كنتم مثلنا، لتصرفتم كما نتصرف.

الصدق والإنتاجية

وعندما وضع عبد الله النديم هذه العبارة في فم أوربا كان قد نفى الإنتاجية لا يكفي أن تقول الصدق لكي نكون على حق وليس من الحكمة اليوم أن نقول اثنان زائد اثنان تساوي 4 وان نموت جوعا، والى جوارنا شخص آخر يقول أنها تساوي 3 ومع ذلك يضمن لنفسه لقمة العيش أن روح التلقين التي تسود هذا العصر ستؤكد خطأ الأول وصدق الثاني. لان الدليل على صدق الأفكار اليوم لا نجده في مجال الفلسفة أو الأخلاق وإنما في المجال العملي: أي أن الأفكار تكون صادقة إذا حالفها النجاح. يقول احد قادة السياسة في الاتحاد السوفيتي: “إن أحسن دليل على صدق أفكارنا هو نجاحها في المجال الاقتصادي.

إقصاء الغرور

وقد تسأل بماذا يواجه صاحب الفكرة هذا الاعتراض فيجيب مالك بقوله:

وليس على المجتمع الإسلامي أن يقبل هذه النزعة العملية أو يرفضها، وإنما عليه أن يدافع عن عالمه الثقافي ضد روح التلقين السائدة في هذا العصر. ولا يكفي أن نعلن عن قدسية القيم الإسلامية وإنما يجب أن نعطيها ما يجعلها تستطيع أن تواجه به روح العصر وليس معنى ذلك أن نتسامح مع اللاديني على حساب الدين وإنما أن نقصي عن الدين بعض جوانب الغرور التي تقضي عليه ما دامت ملصقة به نفوس ذويه».

الأجر للمفطرين

إن مالك بن نبي في هذه الحالة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية يجب عليها أن تمارس نقدا ذاتيا لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وأن تغير النفسية والأساليب التي تنتج هذه النفسية المتغذية بالغرور وأن تقتدي في ذلك بما كان يفعله الرسول، وهو هنا يستعير الحديث النبوي الذي فضل فيه المفطرين على الصائمين وقال الحديث المعروف ذهب اليوم بالأجر المفطرون.

عودة الروح

والخلاصة انه ينبغي أن نعيد روح الإسلامية ذاتها إلى الوجود والرسول عليه السلام لم يترك فرصة واحدة تمر من غير أن يحذرنا من مثل هذا الغرور الذي نعرف اليوم آثاره المعوقة للنمو الاقتصادي في المجتمع الإسلامي الحالي، فبعد عودة الرسول من إحدى الغزوات في شهر رمضان بينما كان الصوم قاسيا في ذلك اليوم على الذين صاموا، ولم يفته التنويه عن أجر المفطرين في هذا اليوم (إذ تبيح الشريعة الإفطار في مثل هذه الظروف) لأنهم قاموا بتوفير وإعداد ما تحتاج إليه القافلة. واليوم نحن أحوج ما نكون إلى التذكير بمثل هذا المبدأ الإسلامي الذي يقدم أحيانا فضيلة الفاعلية على فضيلة الأصالة فمن الأوفق أن نعلن عن هذا الطابع الذي تقرره السنة الإسلامية في الوقت الذي تجابه به بخبث من جانب القيم العملية في البلاد الصناعية التي تسعى لإثبات عدم ملائمة الإسلام للقرن العشرين. وعلى المجتمع الإسلامي أن يستعيد مبادئ سنته السامية فيسترد معها فاعليته.

محمد السوسي
أستاذ الفكر الإسلامي