شاب سوري مسيحي، ملحد كما يصف نفسه، درس الإخراج التلفزيوني، يلقي نكتة في إحدى السهرات مع أصدقاءله و هو في باريس.
سنوات بعد تلك السهرة يعود لوطنه الذي كان يهيم بحبه…
كان الوطن يشهد سحقا للإخوان في بدايات الثمانينات…
ولتبدأ حياة أخرى…
“طلب مني الموظف الإنتظار، قرأ جواز السفر، رجع الى أوراق عنده، بعدها طلب مني الإنتظار، فانتظرت.
إثنان من رجال الأمن استلما جواز السفر، وبلطف مبالغ فيه طلبا مني مرافقتهما.
أنا وحقيبتي ورحلة في سيارة الأمن على طريق المطار الطويل، أرقب الأضواء على جانبي الطريق، أرقب أضواء مدينتي تقترب، إلتفتالى رجل الأمن الجالس الى جواري، أسأله خير إنشاء الله؟..لماذا هذه الإجراءات؟..
يصالب سبابته على شفتيه، لاينطق بأي حرف، يطلب مني السكوت، فأسكت.
رحلة من المطار الى ذلك المبنى الكئيب وسط العاصمة، رحلة في المكان.
ومنذ تلك اللحظة ولثلاثة عشر عاما قادمة …رحلة في الزمان…
“…بينما كنت مذهولا من رؤية الكابل الأسود يرتفع ثم يهوي على قدمي الشاب المحشور في دولاب السيارة الأسود، ثم يرتفع ناثرا معه نقاط الدم ونتف الحم الآدمي، جمّدني صوت زاعق، إلتفت مرغما الى مصدره، في زاوية الغرفة رجل محتقن الوجه، محمرّ والزّبد يرغي على زاويتي فمه:
-طمّش عيونه ولا حمار…
قفز أحد مرافقي قفزتين، واحدة الى الأمام والأخرى الى الوراء، وإذا بشئ يوضع على عيني ويُربط بمطاط خلف رأسي، ولم أعد أرى شيئا.
_ وقفوه على الحائط…
دفعة على ظهري، صفعة على رقبتي، يداي الى الخلف، أسير مرغما، يرتطم رأسي بالجدار، أقف.
_ إرفع إديك لفوق…ولك كلب..
أرفعهما…”
“…ولكن رغم ذلك صرخت:
بس سيدي أنا مسيحي..انا مسيحي..
_ شو ولا؟؟ عم تقول مسيحي؟…العمى بعيونك ولا.. ليش ما حكيت ؟…ليش جايبينك لكان؟…أكيد..أكيدعامل شغلة كبيرة….مسيحي؟….
_ إنتو ما سألتوني ياسيدي…ومو بس مسيحي..أنا رجل ملحد…أنا ما بأمن بالله…..
“الى الآن لم أجد تفسيرا لفذلكتي هذه، فما الغاية من إعلان إلحادي أمام هذا المحقق؟…لا أعرف؟..
_ وملحد كمان؟..
سألها بصوت عليه مسحة من تفكير…”
“…كالعادة اخرجونا اليوم الى الساحة، أوقفونا أمام مهجعنا، وهكذا بقيت المهاجع ، إذاعة السجن تصدح منذ الصباح بالأغاني التي تمجّد رئيس الدولة وتتغنى بحكمته وشجاعته وبطولاته، أعطوا ورقة مكتوبة الى بعض السجناء بها بعض الشعارات والهتافات يصرخ بها ونردّد نحن وراءه: سنفدي الرئيس بالروح والدم، يسقط الإخوان المسلمون عملاء الإمبريالية….
لم يكن السجناء يرون أي غضاضة بالهتاف ضد انفسهم، أو على الأقل لم تبدر منهم اي إشارة أو ممانعة تدل على ذلك، كانوا يهتفون بأصوات عالية جدّا لا يُستشف منها أي شيء من هذا.
هذه الإحتفالات تجري في كل عام مرتين أو ثلاث مرّات، واحتفالات هذا العام تختلف عن غيرها في أن السجناء اليوم كانوا لا ينفكّون يحُكّون ويهرشون أجسادهم : إنذه الجرب، بين تصفيق وتصفيق ، بين هتاف وآخر، يمد السجين يده ليحك جسمه…”
أهوال منسية
أنهيت بالأمس ، الرابع والعشرون من شهر أفريل 2015، قراءة كتاب القوقعة للكاتب والمخرج السنمائي السوري مصطفى خليفة. بدا لي أن كلمة الوحشية قاصرة عن التعبير عن أن أنواع التنكيل التي تعرّض لها المعتقلون السياسيون في السجون السورية في عهد الرئيس حافظ الأسد وتحديدا في السجن الصحرواي. الوحشية دركات بعضها تحت بعض ولا قاع لها. وشاية رخيصة تُلقي بمصطفى خليفة المسيحي في مجاهيل التوحش ليقضي فيها ثلاثة عشرة سنة مع المعتقلين من الإخوان المسلمين. يتعرض فيها لأبشع أنواع التعذيب والإهانة والتدمير النفسي للذات الإنسانية حيث يُجبر المعتقل على شرب ماء المجاري والسياط تنهال على كل جزء من بدنه. حارس السجن يريد أن يتسلى، فيلجأ إلى رفس فأر من الفئران التي تعودت العيش مع الآدميين المعتقلين ويأمر أول من يلقى منهم بمضغه وابتلاعه ويأمر آخر بالمشي على أربع نابحا مثل الكلب وهو يتسلم حصته مما يشبه الطعام. ذاك الطعام الذي كان يُقدم تحت ضرب السياط فيتطوع مجموعة من الشباب المعتقلين سمّوهم بالفدائيين لتلقي هذه المفتحات الغريبة فمات العديد منهم وهم يتلقون مضاعفة هذه الوجبات الخاصة جدا، صور أخرى كثيرة من التعذيب والتنكيل مما فاضت به عبقرية الانحطاط الإنساني يرويها مصطفي خليفة في كتابه. صور، أصبحت أمامها وحشية داعش وأمثالها ” لعب عيال ” كما يقول إخواننا المصريون. كنت دائما أتساءل : كيف يسمح رئيس دولة لنفسه بضرب شعبه بالبراميل المتفجرة؟ و الأمر في الحقيقة من مأتاه لا يُستغرب فعندما عرفت ماذا كان يفعل السلف لم يعد يثير عجبي ما يفعله الخلف. ألهذا الحد تنحط الإنسانية؟ رداءة من تحتها رداءة ومن فوقها رداءة وما خفي أعظم.
عندما رايت صمود الشعب السوري امام وحشية النظام و صبره على القتل و الترويع والتشريد و التعذيب و و و …….اسستغربت و خطر ببالي انه سياتي يوم و يندمون على المطالبة بالحرية المنقوعة في الاهوال ….لكن عندما قرات الرواية زال عجبي و عرفت ان السوريون كانوا يموتون كل يوم دون رحمة ….فمن باب أولى صارت تضحياتهم اليوم بهدف القضاء على هذا النظام الطاغي المجرم …..