إنتخابات “الخطيئة” الكبرى في الجزائر

بعد قليل، سيسدل الستار على أول انتخابات تشريعية حرة و نزيهة، ليس فقط في الجزائر و إنما في العالم العربي كله.
و غدا، الجمعة، ستُعلن النتائج من طرف وزير الداخلية، الجنرال العربي بلخير، سيُصاب عندها الجمع والجميع بالصدمة والذهول.

فقد انتخب الشعب الجزائري، في مثل هذا اليوم، الخميس 26 ديسمبر من عام 1991، قوى إسلامية راديكالية، كما توصف، بنسبة فاقت الـ 82 بالمئة من المقاعد (188 من أصل 232 مقعد)، حُسمت في الدور الأول، و جاءت جبهة القوى الإشتراكية، وهي حزب علماني يساري في الرتبة الثانية بـ 25 مقعدا، و تلاها حزب جبهة التحرير الوطني، و هو الحزب الواحد سابقا، الذي ظل حاكما و لو شكليا، في الرتبة الثالثة بـ 16 مقعدا، كما فاز مستقلون بـ 3 مقاعد في منطقة غرداية.

و أشارت النتائج أن الدور الثاني سيكون مُشابها، إن لم يكن أكبر، بالنسبة لفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، و لم يفز أي من الأحزاب الإسلامية الأخرى مثل حزب النهضة للشيخ عبد الله جاب الله، أو حزب حماس للشيخ محفوظ نحناح، كما لم تفز قوى يسارية راديكالية ممثلة في حزب العمال التروتسكي لصاحبته لويزة حنون، أو الحزب الشيوعي لصاحبه الهاشمي شريف، أوحزب التجمع من أجل الثقافة و الديموقراطية لصاحبه سعيد سعدي.

كانت هذه النتائج صدمة، ليس فقط، لخصوم الجبهة الإسلامية و لكن لأنصارها وقادتها أيضا، فلم يكن أحد يتوقع أن الجبهة التي تعرضت لحملة تشويه إعلامي غير مسبوق قبل ذلك، و تعرضت لاتهامات بأنها “تُناصر و تدعم الإرهاب” خاصة بعد عملية قُمار بمنطقة واد سوف، في نهاية نوفمبر 1991، و التي قتل فيها عدد من المجندين، و نسبت الى جماعة إسلامية على علاقة بالجبهة الإسلامية، كما تعرض بعض كبار قادتها للإعتقال و على رأسهم الشيخ عباسي مدني، رئيس الجبهة و نائبه الشيخ على بلحاج، لم يكن أحد يتوقع في هذه الظروف و الأوضاع، أن يفوز حزب أنشئ قبل سنتين بهذه النسبة من المقاعد.

لذلك تساءل الكثيرون، إذا كان الجزائريون قد اختاروا الإسلام السياسي فلماذا لم يفز أي من الأحزاب الإسلامية الأخرى و لو بمقعد واحد؟

أما إذا أختيرت الجبهة الإسلامية لأنها كانت تريد قطيعة شاملة مع النظام، فلماذا لم ينتخِب و لو شخصا واحدا من الأحزاب التي تدعوا الى القطيعة الكاملة و الشاملة مع النظام كالحزب الشيوعي والحزب التروتسكي؟

في إعتقادي، أن الشعب الجزائري كان يريد من يدعو للقطيعة الشاملة و التغيير الجذري و الكامل، و هو ما دعت إليه مثلا هذه الأحزاب اليسارية، و أن يكون البديل هو المرجعية الإسلامية، و هو ما دعت إليه الأحزاب الإسلامية الإصلاحية مثل حزب النهضة وحماس.
الوحيد الذي جمع الأمرين معا ، القطيعة الجذرية و المرجعية الإسلامية، كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
و كان ما تعرضت له الجبهة من تشويه إعلامي و من ضغط أمني عسكري، قد أكسبها تعاطفا آخرا من طرف الشعب الجزائري، الذي كثيرا ما يبني مواقفه على الدفاع عن المظلوم حتى ولو اختلف معه.

كانت هذه الإنتخابات زلزالا سياسيا صادما و مخيفا لكل خصوم الإسلاميين و خاصة كبار قادة الجيش، و بعض كبار الساسة و الوزراء المدنيين، فاجتمع هؤلاء وهؤلاء ليقرروا مصير الجزائر ومصيرهم، هم بالأخص، إذا ما كُتب “لأصحاب اللحى” أن يتولوا السلطة عبر صناديق الإنتخابات هذه و وفق إرادة الشعب الجزائري الصريحة و الصحيحة.
فتوالت الصرخات و الصيحات، لضرورة إيقاف هذه الإنتخابات بأي شكل، و نُودي على الرئيس الشاذلي بن جديد أن يمارس صلاحياته و يلغي هذه الإنتخابات، و لكن الرجل أكد مرة أخرى، و هو الذي كان قد تحدث عن ذلك قبل أيام، أنه سيختار إرادة الشعب أيا كان الفائز و سيتعامل و يتعاون مع أي حكومة تأتي بها الصناديق.
قبل أن تتكرر الدعوات الى إلغاء هذه الانتخابات، شنت وسائل الإعلام الغربية، و الفرنسية على الأخص، حملة تشويه مست الكثير من قادة الجبهة الإسلامية و نُسب لهؤلاء الكثير بما فيها أنهم ” طالبوا الشعب الجزائري أن يغير ملبسه ومأكله و طريقة عيشه إبتداءا من الآن “.

ما هي إلا أيام و يدعو حسين آيت أحمد، أحد قادة ثورة 54، ورئيس حزب القوى الإشتراكية، الذي جاء ثانيا و لكن بفارق كبير، الى مظاهرة رُفع فيها شعار “لا للدولة البوليسية، لا للدولة الأصولية”.
وقيل أنها ضمت مئات الآلاف من الجزائريين، و دعت الى مواصلة الانتخابات و الى اختيار معارضي الجبهة الإسلامية في الدور الثاني، سواءا كانوا من جبهة التحرير أو من جبهة القوى الاشتراكية أو ممن بقي من الأحزاب الأخرى في حلبة السباق في الدور الثاني.
و لكن هذه المظاهرة بالذات، ستُستغل أيضا للقول من أن “حتى حزب جبهة القوى الإشتراكية يريد إلغاء الإنتخابات”، و هو ما لم يكن صحيحا، وسيُثبَت ذلك في الأيام الموالية عندما يرفض رئيس حزب جبهة القوى الإشتراكية إلغاء المسار الإنتخابي، و يرفض طلب الجنرالات أن يكون جزءا من هيئة رئاسية خماسية كان يُرتب لها بعد إقالة الشاذلي بن جديد.
كما أن أكبر الخاسرين و هو حزب جبهة التحرير الوطني بقيادة عبد الحميد مهري، أحد وزراء الحكومة المؤقتة للثورة، رفض رفضا قطعيا التلاعب بإرادة الشعب، و دعا الى تمكين الجزائريين من التعبير عن رأيهم، و أن فوز إسلاميي الجبهة الإسلامية للإنقاذ ليس خطرا على الجزائر كما يُشاع، و إنما هو بداية مسيرة ديموقراطية في الجزائر.
إنضم الى الداعين الى الغاء هذه الانتخابات عدد مما سُمي آن ذاك بوجوه المجتمع المدني و على رأس هؤلاء بعض المسؤولين فيما كان يُعرف آن ذاك بالمنظمات الجماهيرية، بما فيها منظمة إتحاد النساء، منظمة المجاهدين، منظمة أبناء الشهداء، منظمة اتحاد الفلاحين وآخرين، و لكن أهم هؤلاء كان رئيس النقابة العمالية الوحيدة المعترف بها و هوعبد الحق بن حمودة (سيُغتال في 1996 و يُنسب اغتياله الى جماعة إسلامية). هؤلاء، مع شخصيات حزبية يسارية، يمينية وبربرية شديدة التطرف … شكلوا، و بدعم كبير من جنرالات الجيش، ما عُرف بـ” جبهة إنقاذ الجزائر” و هي التي ستُنادي، باعتبارها قوى مدنية، بإلغاء الإنتخابات.

الواقع ان الجنرالات كانوا في ذات الوقت يجتمعون في لقاءات وُصفت بالماراتونية لاتخاذ القرار، أو بالأحرى مجموعة من القرارات.
فلقد أرغموا الرئيس الشاذلي بن جديد على الرحيل، و قرروا إلغاء الإنتخابات وحل المجلس الشعبي الوطني السابق، البرلمان، حتى لا يتمكن رئيسه من رئاسة الجزائر لفترة الـ 45 يوم كما ينص على ذلك دستور 1989، وأقاموا، على حين عجل، مجلسا رئاسيا أعلى مكونا من 5 شخصيات، و اتصلوا بالمعارض محمد بوضياف، و هو أحد قادة الثورة، بل وأحد مفجريها، ليرأس المجلس الأعلى للدولة، و هو الذي ظل لاجئا، بإعتباره خائن، في المغرب لما يقارب 28 عاما، بعد خلافات على السلطة نشبت مع مجموعة وجدة، و أهم أعضائها بن بلة، و بومدين، و عبد العزيز بوتفليقة، الذين استولوا على الحكم بدبابات جيش الحدود.

أستُقدم بوضياف على عجل، سرا في الحقيقة يوم 11 يناير، قبل أن يُستقدم رسميا في 16 يناير، وهو التاريخ الذي كان محددا للدورة الثانية للإنتخابات التي أعلِن عن إلغائها رسميا، من طرف جهاز إستشاري في الأصل، هوالمجلس الوطني الأعلى للأمن، كما أعلِن عن استقالة الشاذلي بن جديد يوم السبت 11 يناير 1992.

سيستتبع ذلك فتح أبواب الجحيم على الجزائريين ويؤدي ذلك الى مقتل العشرات من الآلاف، حيث تُقدر الإحصاءات الرسمية أن عدد الذين قُتلوا يزيد عن الـ 200 ألف، أكثرهم مدنيون قُتل بعضهم في مجازر مروعة و بشعة، و سيمر على السجون مئات الآلاف يختفي منهم الآلاف الى الأبد، و سيُهجر الملايين داخليا و خارجيا، و سيصاب الملايين بأمراض مزمنة سببها الرعب و القلق، كما سيؤدي ذلك الى دمار هائل للإقتصاد و للسياسة و للثقافة و للمجتمع و لبلد المليون شهيد، و يستمر هذا الخراب بعد 22 عاما من تلك الإنتخابات، التى أعتبرت خطيئة كبرى إقترفها الشعب الجزائري وها هويدفع، و لايزال، ثمنا باهضا “لسوء” إختياره .

محمد العربي زيتوت

https://www.mohamedzitout.com/wp-content/uploads/2012/12/algerie_journal_officiel_04_01_1992.pdf

Comments (4)
Add Comment
  • omar

    فعلا..لقدأنقذوا البلد..

  • ابو صفوان

    السلام عليكم اخي الكريم

    لقد التف الشعب حول الجبهة الاسلامية للانقاذ لانها كانت تحمل مشروعا حضاريا يعبر بصدق عن اصالة الجزائر وتشبثها بثوابتها وعقيدتها. لقد تم الزج بهذا الشعب في مشاكل كارثية تمثلت في انقلابات واغتيالات واستيراد لافكار واديولوجيات دخيلة لم يكن يظن انها كانت موجودة قبل الاستقلال. بعد مؤتمر طرابلس في عام 63 تم تبني النظام الاشتراكي كبديل لما جاء في بيان اول نوفمبر كمشروع حضاري يحافظ على هوية الشعب ويمكن تطبيقه على واقع الدولة والمجتمع. بهذا تمت مصادرة الاستقلال ومكاسب الثورة التي دفع الشعب الجزائري غاليا ثمنها. وهكذا سيسير القطار في الاتجاه الذي يخدم مصلحة الاقلية اليسارية التقدمية على حساب الاغلبية التي كان ينظر اليها حكام الجزائر بانها ظلامية رجعية والتي تمثلت في السواد الاعظم من الشعب الذي وقف مقاوما لفرنسا دفاعا عن هويته واصالته الاسلامية لاكثر من قرن.
    لقد حكم هذا الشعب من طرف جماعة وجدة التي فرضت نفسها بانقلاب عسكري وبخنق كل صوت معارض حر دون ان تفتح المجال للشعب حتى يعبر عن رأيه ويعطي وجهة نظره فيما يتعلق برعاية شؤونه وتسيير كل اموره. هذا بالرغم من ان اسم الدولة كان يحمل شعار الديمقراطية والذي كان يتناقض جملة وتفصيلا مع الواقع. لم يتسنى لهذا الشعب ان يختار حكامه ولا دستوره ولا نظام الحكم الذي يرغب في ايجاده وما كان له ان يفعل وقد صودر اختياره منذ الوهلة الاولى للاستقلال وقد انهكته حربا دامية اخذت منه كل جهد.
    بعد احداث اكتوبر دخلت الجزائر منعطفا جديدا في حياتها وسنت دستورا يؤسس للتعددية الحزبية والتي دفعت كل الاطياف السياسية للتنافس من اجل ابراز ما تحمله من برنامج ومشروع حضاري يؤدي الى تغيير الواقع. كانت حصة الاسد لحزب فتي لم تمر عليه سنتين حتى احدث المفاجأة في انتخابات بلدية ثم تشريعية صفعت النظام القائم وكرست القطيعة التامة مع سياسة دولة همشت كل القوى الخيرة في بناء مستقبل مشرف لكل الاجيال. ورغم قلة الخبرة وضعف الهياكل وندرة الزاد الثقافي الحزبي استطاعت الجبهة الاسلامية للانقاذ ان تحصد اصوات الغالبية العظمى من الناخبين.
    ورغم النقائص الكثيرة التي ميزت مسيرة الجبهة الاسلامية في نضالها السياسي بسبب الاختراقات وعدم وضوح الرؤية وقلة زادها الفقهي في امور الحكم وادارة شؤون الدولة، تبقى تجربتها في العمل السياسي من التجارب النادرة التي تحتاج الى المزيد من البحث والدراسة المعمقة في عالمنا العربي والاسلامي. ورغم بصيص الضوء فيما يتعلق بالفكرة المعبرة عن المشروع الحضاري الاسلامي التي نادت به تبقى طريقة تنفيذ هذه الفكرة غامضة تكاد لا تستقر على رأي، غير ان دعوة الجبهة الى اقامة دولة اسلامية تتعدى الحدود والقوميات جعل الغرب وفرنسا بالاخص تتكالب عليها مما دفع هذه الاخيرة الى دفع عملائها في الجزائر لاجهاض هذه الولادة بكل الوسائل والادوات ومهما كلف الثمن. مرة اخرى سيحدث زلزالا انقلابيا عنيفا ويكون ضد ارادة الامة وسيدفع الشعب ثمنه غاليا وغاليا جدا لانه وبكل بساطة اختيار البديل الحضاري الذي يؤمن به. اذا فالصراع هو صراع بين مشروع اصيل يصنع مجد الامة ومشروع دخيل غربي يؤصل للاستلاب الحضاري والتبعية.
    فالقضية ليست صراعا بين السلطة والعصابة الحاكمة في الجزائر وبين الجبهة الاسلامية للانقاذ بقدر ما هي صراعا حضاريا حول مشروعين متناقضين في الشكل والمضمون. وحتى وان سلمنا بانه لم يكن للانقلابيين على ارادة الشعب اي برنامج او مشروع بديل تبقى فرنسا هي الحاكم والآمر الناهي لهذه الطغمة وهي تعرف بان عودة الشعب لجذوره واصالته هو نهاية لنفوذها وغطرستها وبالتالي فهي تمنع والغرب كله معها عودة المشروع الحضاري الاسلامي للوجود لانه وببساطة هو الكفيل باحداث الطفرة النوعية التي تنهض بالامة وتبوؤها المكانة اللائقة بها بين الامم.
    مهما قيل في الجبهة الاسلامية للانقاذ وحتى وان اختلفنا معها في الكثير من الامور تبقى تجربتها بحلوها ومرها من ابرز التجارب التي خاضها حزبا اسلاميا على مستوى العالم العربي والاسلامي. واذا لم نأخذ العبر ونفهم الدروس ونتحرى الواقع الكوني بكل ملابساته ونبلور الفكرة الحضارية ونبعد عنها كل شبهة وغموض فلا يمكن لنا ان ندخل التاريخ ونركب قطار الحضارة من جديد. وبدون رؤية استشرافية للمستقبل والاخذ بسنن التغيير لا يمكن ان نفهم لماذا تأخرنا نحن وتقدم غيرنا. وشكرا

    • انا

      تعليق جامع ماتع مختصر مفيد ، بارك الله فيك ، اثبتت تجربة الجبهة الاسلامية للانقاذ ممثل الشعب انذاك ان الجزائر لم تحصل على استقلالها و انها العدو الاول و ان ابناءها يكملون ما بدأه الحركى اثناء الاحتلال الفرنسي. كما اثبتت من ناحية اخرى ان الشعب في ترك المرحلة كان ذا توجه اسلامي بغالبيته العظمى على عكس شعوب اخرى بالكاد وصلت فيها الاحزاب الاسلامية الى الفوز باغلبية طفيفة ، لذلك عوقب هذا الشعب على اختياره كما عوقب من طرف فرنسا على رفضه للاحتلال الفرنسي

  • la vendetta di civitas dei

    و ستغلق القضية كملف المفقودين في انتظار وصول المهدي المنتظر او المحكمة النهائية التي بيد الله سبحانه وتعالى فقط …و اتركونا نرحل فقط بسلام يا حرس السواحل و يا حكام