بمناسبة تحطم طائرة عسكرية جزائرية هذه الظهيرة، تذكرت طائرة أخرى تحطمت قبل 21 عاما، وبالضبط يوم 22 ديسمبرصباحا بالقرب من طرابلس وكانت قادمة من بنغازي وعلى متنها 157 راكبا.
يومها، وبعد أقل من ساعة من “الحادث”، كتبت وكالة الأنباء الرسمية الليبية جانا، مقالا هاجمت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، وأتهمت “وكالة المخابرات سي آي أي، بأنها هي التي أسقطت الطائرة إنتقاما من الجماهيرية العظمى، التي تتهمها أمريكا ظلما وعدوانا بإسقاط طائرة لوكربي”.
بعد ساعات عادت الوكالة، بعد أن سحبت مقالها الأول، وقالت في الواقع أن “الطائرة سقطت لأتها كانت تحتاج لقطع غيار رئيسية ولكن بسبب الحظر المفروض على ليبيا فإنها لم تتمكن من صيانتها وبالتالي فإن المسؤولية غير المباشرة تقع على عاتق الولايات المتحدة في كافة الأحوال”.
كان من بين القتلى 6 جزائريين إضافة إلى حوالي 20 أجنبيا آخرا، أما البقية فكانو ليبيون وأغلبهم من بنغازي.
وجود جزائريين من بين القتلى جلعنا، كديبلوماسيين جزائريين، نهتم بشكل إضافي بقضية الطائرة، خاصة وأن توقيت سقوطها تصادف بشكل غريب جدا مع سقوط طائرة لوكربي أربعة أعوام بالضبط قبل ذلك.
بعد يومين أو ثلاث من الحادثة، إلتقيت القائم بالأعمال السويسري وسألته إن كان لديه معلومات عن الطائرة التي سقطت، ردً أن ما يعرفه بكل تأكيد، هو أن اللبيين الذين إتهموا الولايات المتحة بادئ الأمر بإسقاط الطائرة تراجعوا عن ذلك تحت التهديد الأمريكي، لأنه هو، بإعتباربلده ترعى المصالح الأمريكية في ليبيا، الذي نقل التهديد الأمريكي للخارجية اللبية وكان مفاده “إذا أصر القذافي على إتهام السي آي أي بحادثة الطائرة فإن الولايات المتحدة لن تتوانى عن قصف قصوره بما فيها باب العزيزية”.
هذا يفسر، إذا، لماذا تراجعت وكالة ليبيا الرسمية عن إتهام الأمريكيين مباشرة.
بضعة أيام بعد ذلك، إستدعاني السفير محمد صباغ على عجل لمكتبه، وكان في حالة من الغضب والإستياء، ليبلغني بأن نرسل بأسرع ما يمكن برقية مشفرة للخارجية الجزائرية مفادها،”قبل قليل كنت عند أحد أصدقاء الثورة الجزائرية وأخبرني أن الطائرة قد أسقطها صاروخ ليبي من طائرة ميغ والذي أبلغه بالأمر هو أحد أقاربه وهو طيار في سلاح الجو الليبي”.
بدأ ذلك الخبر ينتشر ويحدث ضجيجا في ليبيا، فتغيرت الرواية الرسمية لتقول أن “الطائرة سقطت بعد أن إصطدمت بطائرة ميغ عسكرية”.
بدأت تسري شائعات في الوسط الديبلوماسي، أن وزير الداخلية وأسمه بكار و هو أصيل مدينة بنغازي، غاضب جدا من واقعة الطائرة وأن أقارب له ربما قتلوا في “الحادثة”.
أسابيع بعد ذلك مات الوزير بكار في “حادث مرور” بعد أن سحقت شاحنة سيارته وهو عائد لطرابلس من تونس.
نعته الدولة الليبية بكل أجهزتها وإعلامها بحرارة شديدة وبكته “…ولكنه القضاء و القدر”
محمد العربي زيتوت
إذا كان أمر العطل المحتمل بعيد الوقوع، وفرضيّة الاعتداء الخارجيّ غير واردة تبقى الرّواية الرّسميّة موضع تكذيب فقد تعوّدنا على أنّ السلطة كاذبة في كلّ شيءٍ. فهل يكون الحادث مدبّراً من جهة داخليّة ؟ هذا هو الأمر المحتمل ويرجح هذه الفرضية رغبة أطراف من داخل النظام في توجيه الأنظار بعيداً عن حلبة الصراع بين المتسابّين والمتصارعين داخل أجهزة النظام ، وتبقى طريقتهم في إدارة التوازنات بينهم في الجريمة والقتل العشوائيّ : في السبعينات والثمانينات بالاختطافات والاغتيال ، وفي التسعينات بالجريمة والتطهير الانتخابيّ، وفي أيّام الناس هذه بكل وسيلة متاحة لمواجهة حركة التغيير والتحرر تارة بندرة المواد الغذائية الأساسية وتارة أخرى بحوادث سقوط الطائرات وهلمّ جراً. وهل فقدان الآلاف وقتل الأبرياء والمحاكمات الجائرة أقلّ شأناً من إسقاط طائرة مثلاً ؟ وماذا يمثّل سقوط طائرة بألف راكب أمام ربع مليون ضحيّة النظام الطاغوتي الفاجر؟ إنّ الذي حرّم قتل نفس واحدة هو من جعل إحياء نفس واحدة إحياءً للبشريّة جميعاً والاعتداء على نفسٍ معصومة اعتداء على الجنس البشريّ كلّه.
عوّدنا نظام الطاغوت على فتح التحقيقات وغلق الملفات ودفع الرشاوى لإسكات الضحايا وتصفية الشهود المزعجين، ولم نتعوّد من أنسال الشهادة والشهداء الرضى بالضيم والحرص على حياة الهوان والاستجداء.
رحم الله تعالى الأنفس المهدرة الدمّ وهو سبحانه بها أعلم ، ولا رحم ولا عفا عن الجناة فقد استحقوا القصاص ولا توبة لهم. فإن استكبروا واستقووا على الضعفاء فإنّ أولياء الدمّ منصورون في الدنيا إمّا بالقود حقاً أو بخلود الجناة في النار إن سبقوا الاقتصاص بالموت ولا فرار لهم بالموت من قصاص الجبار الذي جعل الدنيا ومت عليها أهون من قطرة دم مسلم تسفح ظلماً وعدواناً.
ليهن الأموات شهادة وقضاء من الله تعالى أمضاه بحكمة، وما أرى الجناة بالعيش بعد ذا منتفعون، فإنّ الملك منحة يأخذها جبّار السماوات والأرض من الظالم فيجعل دم المستضعفين لعنة ماحقة على رؤوس الطغاة إلى يوم يلقونه وما أعظم عقاب من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
عندما تسقط طائرة في دولة من الدول المتمدنة ، تقوم الأجهزة المختصة بتحركات تحدد على اثرها أسباب الحادث فيتقبل الناس النتيجة . عندما تسقط طائرة في الوطن العربي تبدأ على التوّ استفسارات واتهامات واستنتاجات وتهبط وتضارب التصريحات وذلك قبل بدء أي تحقيق والسبب أن غيرنا تربى على المصداقية ويضع الأمور في نصابها ويحكم بناء على الوقائع والحقائق بينما نحن نرى المؤامرة في كل وجه واتجاه لأننا نؤمن بانعدام المصداقية في حركاتها وسكناتنا بل نهوى تسخير الآلام التي قد نحدثها لخدمة مصالح وأهداف لا قيمة لها إلا بالنسبة لمن صدرت عنه