نَصِيحَةٌ ضَارَّةٌ
يقومُ واجبُ النُّصْحِ برَأبِ صَدْعِ الفِعَالِ أوْ بتصحِيح سَقطاتِ المقال، وكمْ بينَ هَذَيْنِ مِنْ حُقُوقٍ أُضِيعَتْ تَحْتَ مُسمَّى المَصْلحَةِ تارَة، وَمَنَافِعَ آجلةٍ وَمُعَجَلَّةٍ أهدرتْ بذريعةِ الحفظ والرِّعَايةِ تارَة أخْرَى. وللذرائِع مَعَانِي تَخْفَى عَلىَ المُتَلقِي، وَإنْ كانَ المُتَذَرِّعُ بالتَّضْييع وَالإسْقاطِ ذَا لِسَانٍ سليطٍ وَحُجَجٍ تفلقُ الصَّخْرَ وَتُعْشِي بَصَرَ الناظِرِينَ.
وَقدْ يَجْهَلُ المتلقِي قَصْدَ الناصِحِ، وَبَدَلَ أنْ يُعْمِلَ عَقلهُ وَوِجْدَانَهُ فِي التأمُّلِ فِي مَعْنَى النُّصْحِ وَمَا يَلزَمُ عنهُ يَمْضِي غَيْرَ آبهٍ بقدْرِ مَا ألقيَ إليهِ فيتلقَى بلسانهِ، وَيُغْمِدُ سَيْفَ رَأْيِهِ، وَيَخُوضُ فِي الأمْرِ خَوْضَ السَّامِعِ الرَّائِي وَمَا هُوَ فْي الحقيقةِ إلَّا مُنْخَدِعٌ عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ وَاسْتَكْثَرَ التأمُّلَ فتلقى مَا أوْرَثهُ الوَهَنَ مِنْ خَسَاسَةِ الفِعْلِ وَسُخْفَ القوْلِ.
وَقدْ يَجِدُّ المُتلقِي فِي بَاطِلِهِ، فَيَجْعَلُ منَ الأكذوبَة حقاً وَمِنَ الحَقِّ الصَّرِيحِ بَاطِلاً، فيأخذُ المتلقِي مَا عَلِقَ بفيهِ وَيُرَدِّدَ القولَ وَيُكَرِّرَ الفِعْلَ أخذ الوَاثِقِ الشَّدِيدِ، فَيُعَادِي مَنِ اِسْتَوْجَبَ المَوَدَّةَ، وَيَوَدَّ العَدُوَّ وَهُوَ مِنْ مَوَدَّتِهِ وَمِنَ عَقْدِ المُوَالاةِ بَرَاءٌ. ولوْ تأمَّلَ السَّامِعُ وَالمتلقِي مَآلاتِ النُّصْحِ المَزْعُومِ لَعَرَفَ المَخَارِجَ مِنَ المَدَاخِلِ، وَكَبُرَ عَليْهِ أنْ يَبِيعَ وِجْدَانَهُ بِرَخِيصٍ مِنَ الثمَنِ لِرَدِيءٍ مِنَ القَوْلِ وَهَجِينٍ مِنَ الْعَمَلِ يَنَالُ بِكَسْبِهِ مَذَلة فِي الدُّنْيَا وَيَصِيرَ بِمَا جَنَتْ يَدَاهُ إِلَى هَوَانٍ وَمَسْخَطَةٍ.
وَكَمْ شرَحَ القرآنُ العَظِيمُ هَذِهِ الفِكْرَةَ وَلَوَّنَ تَفْسِيرَهَا حَتَّى يَنَالَ مِنَ الفَهْمِ كلٌّ نَصٍيباً بِمَا هَيَّأهُ اللهُ تَعَالىَ لَهُ.
فَهَؤُلاَءِ الأنْبِيَاءُ عَليْهِمُ السَّلاَمُ قَدْ نَصَحوُا وَاِجْتَهَدُوا فِي بَيَانِ مَا يَسْلُمُ بِهِ مَنْ شَرَّفَهُ اللهُ تَعَالىَ بِالتلقِي عَنْهُمْ، فَمَا كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ دَعْوَتِهِمُ الشريفةِ إِلَّا أْنْ قَامُوا بِجَمْعِ شَمْلِهِمْ وَقُوَّاتِهِمْ حَرْباً لِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ التِي سَتُدَمِّرُ سُلطَانَهُمُ وَتَجْعَلُ مِنْ عَوَاقِبِ أمْرِهِمْ إِلىَ الخُسْرِ وَالبَوَارِ. وَنَصِيحَة الأنْبِيَاءِ عليْهِمُ السَّلاَمُ حَقٌّ صُرَاحٌ لاَ شِيَة فِيهِ، وَيُقابِلُ حَقَّ الأنْبِياَءِ عَليْهِمُ السَّلاَمُ بَوَاطِلُ خُصُومِهِمْ وَأرَاجِيفُ أعْدَائِهِمْ مُدَّتْ لهَا أعْنَاقُ العُتَاةِ وَالجَبَابِرَةِ وَمَنْ أكَلَ مِنْ حَلوَاءِ الشيَاطِين. وَلاَ فِي الأَرْضِ عَاقِلٌ يُسَاوِي الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَلَكِنَّ القلوُبَ إِذَا عَمِيَتْ صَارَ ذَوُو النُّهَى قِمَمَ السَّفَالةِ وَالتَّرَدِي إِنْ كَانَتْ لِلسَّفَالاَتِ قِمَمٌ وَإِنْ هِيَ إِلاَّ دَرَكَاتٌ فِي قَعْرِ العَذَابِ وَالنِّقْمَةِ.
وَيَخْلفُ المَعَادِنَ الغَالِيَةَ مِنَ الأنْبِياَءِ مِنَ البَشَرِ مَنْ وَفَّقَهُمُ اللهُ تَعَالَى فاَسْتَقَامُوا وَاسْتَرْخَصُوا بَهَارِجَ الحَيَاةِ فِي جَنْبِ وَاجِبَاتِ الدَّعْوَةِ وَأثْمِنَةَ الصَّبْرِ عَلىَ اللَّأوَاءِ وَالأطْرِ عَلَى الحَقِّ، فَكَانَتْ نَصِيحَتُهُمْ لِأَقْوَامِهِمْ نَصِيحَةَ رَائِدٍ لاَ يَكْذِبُ بِبَيَانٍ غَيْرِ مُغْرِبٍ، وَلاَبُدَّ لِمَنْ سَارَ عَلى سَنَنِ الصَّالِحِينَ مِنْ عَدُوٍّ يَصُدُّ الأَتْبَاع َلأنَّهُ يَنْصَحُ لَهُمْ كَذَلِكَ، وَالأتبَاعُ عَلُىَ نَصِيحَةِ الصِّدْق صَالِحُونَ تَابِعُونَ، وَعَلى الخِلاَفِ مَنِ اِنْخَدَعَ بِنُصْحِ المُبْطِلِينَ وَلوْ جَمَعَ المَشَارِقَ إلىَ المَغَارِبِ، فَمَا كُلُّ قَوْلٍ يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَصِيحَةٌ يَصْدُقُ مُلقِيهِ وَيَسْتَوْجِبُ الاتِّبَاعَ بِمُجَرَّدِ الدَّعاوَى الفَارِغَةِ. وَلَوْ كَانَتِ الدَّعَاوَى تَقُومُ بِمُجَرَّدٍ مِنَ القَوْلِ وَمُطْلقٍ مِنَ الفِعْلِ لاَسْتَوَى الصَّلاَحُ وَالفَسَادُ وَذَلِكَ عَيْنُ المُحَالِ.
تُرَى كَيْفَ لِمُجْرِمٍ إِدَّعىَ الألُوهِيَّةَ أنْ يَنْصَحَ لِضَحَايَاهُ، وَقَدْ قَامَ عَلىَ البَطْشِ بِهِمْ سُلْطاَنُهُ الزَّائِفُ وَبَوَاطِلُهُ التِي يَعْلَمُ هُوَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ بُطْلاَنَهَا؟ بَلْ وَهَلْ يَجُوزُ أنْ يُقَالَ عَمَّنْ وَاجَهَهُ بِالجُرْمِ وَالجَرِيمَةِ أنَّهُ مُدَّعٍ لِحَقٍّ مُبْطِلٌ وَقَدْ عَلِمَ القَاصِي وَالدَّانِي بِأنَّ المُجْرِمَ مُجْرِمٌ وَلَوْ نَصَحَ، وَأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَيْهِ وَاصِفٌ بِالحَقِّ وَلَوْ ثَبَتَ كَذِبُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ التِي أُرِيدَ بِهَا كَشْفُ المُجْرِمِ وَأرِيدَ لَهَا أَنْ يَرْتَفِعَ بِهاَ شَأْنُ الشَّاهِدِ حَتَّى تَسْتَقِيمَ مَوَازِينُ المُحْتَرِبِينَ الْمُخْتَلِفِينَ عَلىَ تَقَاسُمِ أمْوَالِ الشَّعْبِ الجَزَائِرِيِّ الذِي جُزِرَ فِي التِّسْعِينِيَّاتِ وَنُهِبَ فِي البَاقِيَاتِ مِنَ السِّنِينَ الخَدَّاعَاتِ.
سَتَقُومُ فِي عُقُولِ المُتَلَقِّينَ أسْئِلَةٌ وَقَضَايَا لاَ تَنْتَهِي، وَسَيَضِيعُ الحَقُّ الصُّرَاحُ فِي ثَنَايَا البَاطِلِ الزُّعاَفِ، وَسَتَبْقَى وَاضِحَاتُ السِّيَاسَةِ مُشْكِلاَتٍ فِي فَهْمِ مَنِ اِعْتَمَدَ عَلىَ غَيْرِهِ فَتَضِيعَ الْحُلُولُ عَلَى عُقُولِ مَنْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يَفْهَمُوا. صَدَقَ مَنْ قَالَ نُصْحاً فِي غَيْرِ بَاطِلٍ: مِنَ المُعْضِلاَتِ تَوْضِيحُ الْوَاضِحَاتِ.
الأستاذ الزاهري