كتب حسن أبو هنية: مع بدء الانتفاضات الثورية التي اجتاحت العالم العربي 2011، ظهر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي مبشرا بحلول عصر إيراني سعيد تتحقق فيه أحلام ونبوءات قائد الثورة أية الله الخميني بزوال الهيمنة الغربية عن المنطقة وتمكين القوى الإسلامية.
فبجسب خطاب المرشد: إن إحدى أهداف الثورة الإسلامية عام 1979 التي طال انتظارها سوف تتحقق الآن، خامنئي رحب وأشاد بما وصفه آنذاك بـ “الصحوة الإسلامية” التي تعم العالم العربي، الأمر الذي يدشن بروز شرق أوسط إسلامي ساهمت إيران في تبلوره.
بعد دخول الانتفاضات العربية عامها الرابع، توقعات المرشد باتت خاطئة تماما ومكاسب إيران أصبحت محدودة للغاية، فقد كشفت التطورات الجارية عن صورة أكثر تعقيداً مما توقعها خامنئي، فالأحلام الوردية للجمهورية الإسلامية تلاشت على مذبح الثورة السورية التي أعادت بعث الرواية المركزية للصراع الشيعي- السني الذي شهد انحسارا على مدى قرون في المنطقة، فالثورة السورية عملت على إحياء ديناميكية الصراع الطائفي التاريخي وساهمت باتساع نطاقه عبر الحدود.
الأحداث الأخيرة في تطور مسارات الثورة السورية كشفت عن عمق التناقضات التي تنظوي عليها السردية الإيرانية فإيديولوجيا الثورة واستراتيجية المقاومة تبدو مأزومة وتعاني من اختلالات بنيوية عميقة يصعب ترميمها وإصلاحها، فاصطفاف إيران إلى جانب نظام الأسد “العلوي” ومساندته وتدخله عسكريا ضد المعارضة السنيّة وضعت إيران في أتون صراع طائفي، لا علاقة له بأطروحة “المقاومة” و”الممانعة” للمشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة، وظهر جليا أن سقوط نظام الأسد يمثل لإيران ضربة قاصمة تهدد مكانتها التي عملت على ترويجها منذ قيام الجمهورية الإسلامية.
سياسات إيران الطائفية تبلورت عبر الجبهة السورية، فالاحتفاء بالانتفاضات الثورية العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا باعتبارها ثورة قامت للتخلص من الأنظمة الاستبدادية المتحالفة مع الولايات المتحدة والمرتبطة بطرائق مختلفة مع إسرائيل تبدل تماما في الحالة السورية وتم التعامل مع الحالة الثورية السورية باعتبارها مؤامرة أمريكية إسرائيلية خليجية لكسر حلف المقاومة والممانعة، وبهذا تدخلت إيران بشكل مباشر عن طريق “الحرس الثوري” و”فيلق القدس” لإسناد النظام الأسدي العلوي وأمرت حلفائها الشيعة بالتدخل، الأمر الذي امتثل له نظام المالكي الشيعي في العراق، والمليشيات الشيعبة العراقية أمثال كتائب أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق وغيرها، وكذلك فعل “حزب الله” الشيعي اللبناني.
المبررات التي قدمتها إيران وحلفها الشيعي المتحد لم تكن مقنعة للوسط السني، فالصورة الأكثر رواجا لدى الوسط السني في لبنان تشير إلى أن “حزب الله” لم يعد “مقاومة إسلامية” خالصة للمشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة، وإنما بات مجرد ميليشيا طائفية تعمل كوكيل إيراني لصالح بشار الأسد وآية الله خامنئي، وكذلك الأمر لدى الوسط السني العراقي الذي يصف سياسات المالكي بالطائفية التي تعمل لمصلحة الولي الفقيه في إيران.
موجة الانتفاضات الثورية العربية عمّقت التوترات الدينية بين السنة والشيعة، والتي كان قد تم احتوائها إلى حد كبير خلال السنوات الأخيرة، وباتت السمة الأبرز في طبائع الصراع في المنطقة، والانقسام الشيعي- السني أخذ مكانه في تحول أشكال الصراع الذي طالما وصفته إيران كصراع بين المسلمين والغرب، وبات التحدي الأساس الذي يواجه المجتمعات الإسلامية في الشرق الأوسط في المستقبل المنظور مذهبيا، على حساب القضية الفلسطينية بالتي كانت عامل التعبئة المركزي للحياة السياسية في العالم العربي.
الصراع الذي يجري في سوريا عمل على بعث النقاش والجدل المتعلق بالهوية العربية والإسلامية في البلدان المجاورة وخصوصاً في لبنان، ووصلت تداعيات الجدل دولا لم تمسسها الحرب مباشرة كالبحرين والكويت، وبحسب القراءة الإيرانية فإن سقوط الأسد سوف يضع حدا لصعود وهيمنة الشيعة التي بدأت في العراق نوري المالكي، فقد كان الشيعة يأملون بعد وصول المالكي إلى السلطة، بأن يكون بالإمكان تشكيل قوة تحالف إقليمي بين إخوانهم في المذهب الشيعي في إيران، والعراق، وسوريا. عززت عمليات التقارب الأمريكي الإيراني لدى السنة في المنطقة الاعتقاد بتنامي نفوذ إيران الإقليمي وقدراتها، وترسخ القول بأن إيران تعمل على تحويل انتفاضة الشيعة في البحرين لصالحها، وتعزيز نفوذ حزب الله في لبنان، ورفع وتيرة الصراع بين السنة والشيعة من خلال التدخل والتأثير عبر الأقليات الشيعية في الكويت والبحرين واليمن والسعودية.
لم تتخل إيران يوما عن رؤية آية الله الخميني المتعلقة بنشوء شرق أوسط إسلامي تكون الرائدة فيه، لكن قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979 كدولة شيعية وحيدة في العالم عمل على تنامي الإحساس بالهوية الشيعية في المنطقة وخصوصا في البحرين ولبنان، وإذا كانت إيران قد ظهرت على مدى العقود الثلاثة الماضية بأنها تتخلى عن هدفها المتمثل بتصدير ثورتها، فإن ذلك حدث عقب التسليم باستحالة تحقيقه.
يبدو أن النخبة الثورية المقربة من خامنئي لا تزال تحلم بتصدير الثورة، لكن الأساس الذي تقوم عليه قد تبدل بالاعتماد المباشر على القوى المذهبية الشيعية، واستثمار الاستقطايات الهوياتية الطائفية، لكن إيران لم تستفد حتى الآن من تعميق الانقسام بين الشيعة والسنة إلا بصورة محدودة، لكن هذا لا يعني أن تطلعات طهران للهيمنة على المنطقة قد انخفضت بالضرورة على المدى الطويل.
الكاتب: حسن أبو هنية