من تابع الإعلام الإسرائيلي خلال الشهور الماضية، لا بد أنه لمس ذلك الشعور الإسرائيلي بالفرح حيال التطورات الجارية في المنطقة، والتي أنتجت نمطاً غير مسبوق من العلاقة معه منذ اندلاع الصراع منتصف القرن الماضي.
وحين يقول وزير خارجية متطرف بوزن ليبرمان: إنه «شبع لقاءات سرية مع المسؤولين العرب»، ويريد نقلها إلى «العلنية»، ويتحدث في ذات الوضع عن تحالف مع بعض دول الخليج، فإنما يعبر بذلك عن هذا التطور غير المسبوق في تاريخ الصراع.
لكن المشهد ما لبث أن ذهب نحو نقلة أكثر وضوحاً خلال العدوان الصهيوني على قطاع غزة، إذ انفضحت المواقف أكثر من ذي قبل، وبدأت ملامح الوضع الجديد تتبدى للقاصي والداني، وتحظى بالكثير من الترحيب في الأوساط الصهيونية.
وإذا جئنا نفكك خلفية هذا التحالف، فإنه يبدأ من هذه الحرب المعلنة منذ ثلاث سنوات على ما بات يعرف بالربيع العربي، أي على الثورات ومطالب الديمقراطية والحرية والإصلاح، وهي حرب معلنة على إرادة الشعوب تستدعي بالضرورة حالة من التهدئة مع العدو الأكبر وحلفائه.
نستعيد في هذا السياق مشهداً مماثلًا حصل قبل 12 عاماً ونيّف، وذلــك حين وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وذهبت الولايات المتحدة التي كانت تعيش أبهى عصورها قوة وجبروتا إلى تنظير سياسي يقول: إن سبب الهجمات هو غياب الديمقراطية والحرية في العالم العربي، فخرجت نظرية الشرق الأوسط الكبير الذي يتلخص في دفع الأنظمة نحو «الدمقرطة». عندها ولأجل تنفيس هذه الموجة ذهبت بعض الـدول إلى مجاملة الكيان الصهيوني، فخرجت المبادرة العربية للسلام (بيروت 2002) في لحظة تاريخية كانت خلالها دبابات شارون تجتاح الضفة الغربية فيما عرف يومها بعملية السور الواقي ردا على انتفاضة الأقصى، وحوصر ياسر عرفات رحمه الله في المقاطعة، من دون أن يحظى بأي دعم من قبل الأنظمة العربية، وليُفرض عليه بسطوة القوة من سيغدو بعد سنتين زعيم المنظمة والسلطة وحركة فتح، وبالطبع بعد التخلص منه اغتيالا بالسم، فيما يعرف الجميع أنه ما كان لشارون أن يتورط فيه لولا الشعور بتوفر أجواء عربية مساندة، وقد رأينا كيف تجاوز حسني مبارك الأمر، كأنه جندي عادي تم اغتياله، وليس الزعيم الذي كان يربط قراراته السياسية بمصر.
اليوم يتكرر ذات المشهد، فحتى يحصل النظام العربي الرسمي الكاره للديمقراطية والحرية والتعددية، وللربيع العربي؛ حتى يحصل على رخصة مطاردة ذلك الربيع، كان لا بد له أن يعلن تهدئة مع الكيان الصهيوني الأكثر سطوة في الغرب، والأسوأ هنا أن القوة المستهدفة حاليا في قطاع غزة هي حركة تصنف كرافعة من روافع الإسلام السياسي الذي يتبنى الربيع والثورات، وبذلك باتت دوافع التحالف أكثر قوة مما كانت عليه مطلع الألفية الجديدة.
من هنا رأينا كيف تعامل السيسي مع الوضع في قطاع غزة، وهو تعامل أضاف إلى المعادلة إياها كرهه لحماس كونها ذات صلة بجماعة الإخوان التي يطاردها في الداخل بعدما انقلب على رئيس عضو فيها، وكونها أيضا مطلوبة الرأس من قبل الأنظمة التي تدعمه، وكان محمود عباس أيضا جزءا من هذا التحالف البائس؛ ليس لأن حماس خصم سياسي فقط، وإنما أيضا لأن فكرة المقاومة هي خصم فكري وسياسي بالنسبة إليه ويريد إثبات عبثيتها، فضلا عن إرادته استقطاب السيسي لصالحه ضد خصمه الشخصي محمد دحلان.
وفق هذه المعادلة البائسة تشكل هذا التحالف غير المسبوق في تاريخ القضية التي اعتادت على وضع أقل سوءا يتمثل في انحياز النظام العربي الرسمي لفكرة التسوية ومعادلة اللاحرب واللاسلم، لكنها اليوم تتحالف مع الكيان في سياق من تصفية القضية والقبول بشبه دولة على أقل من 12 في المئة مساحة فلسطين التاريخية.
نفتح قوساً لنشير إلى موقف نتنياهو من المبادرة المصرية، وكيف يبدو حائرا بين الإصرار عليها لأجل إرضــاء السيسي والأنظمة العربية الداعمة له كرصيد استراتيجي لكيانه ومشروعه، وبين إرضاء مجتمعه الخائف من الخسائر ومن تداعيات التورط في مستنقع غزة. وكان لافتا أن يرحب الصهاينة بمبادرة السيسي، بينما يشنون هجوما شرسا على مبادرة كيري!!
كل ذلك سيشكل تحديا للشعب الفلسطيني، وللأمة في آن، فما هو مستهدف بهذا التحالف، ليس فقط القضية الفلسطينية، بل أيضا مسعى الشعوب للحصول على حريتها، ولذلك سيكون من الضروري أن يكون للشعب الفلسطيني دور كبير في قلب الطاولة في وجهه عبر انتفاضة شاملة تفرض مسارا جديدا للقضية، كما تفرض على الأنظمة وضعا جديدا بقوة الشعوب، ولا شك أن ذلك سيساعدها (أعني الشعوب) في تحقيق مطالبها الرامية في الحصول على حريتها من جهة أخرى.
مخاض صعب وتاريخي بامتياز، ورغم أن الأمر لن يمر بسهولة، وسينطوي على تضحيات كبيرة، فإن إرادة الشعوب ستنتصر في نهاية المطاف، طال الزمان أم قصر.
ياسر الزعاترة