“من لم ينتخبني سلفي إرهابي تكفيري جهادي”، هكذا عبّر الشيخ التسعينيُّ ومرشح الدولة العميقة مبعوث العناية الاستعمارية وممثل القوى الإقليمية والدولية المتآمرة على ثورات الربيع العربي، عن موقفه من صمود الثورة وأبناءها في وجه آلته الجهنمية التي تكاد تلحق الثورة التونسية بأختها المصرية. هالته الثورات التي عصفت بمصالح القوى الاستعمارية العظمى وهي اليوم تهدد مغانمها التاريخية ومكاسبها الكولونيالية تقع اليوم في عين الإعصار.
تصريحات العجوز الخرف كانت عناوين رئيسية لمعظم الصحف الفرنسية والأوروبية التي نقلت عنه أنه صمام أمان أمام الزحف الإسلامي المتطرف على حدائق أوروبا الخلفية ومزارعها النموذجية وراء البحر الأبيض المتوسط. هذه التصريحات دفعت صحيفة اليمين الفرنسي اليومية إلى إعلان دعمها للمرشح ” الديمقراطي الحداثي ” من أجل مواجهة الخطر الإرهابي القادم من مهد الربيع العربي والزاحف على الحضارة الأوروبية.
العجوز التسعيني – الذي يكاد يحقق لتونس رقما قياسيا عالميا في سن رؤساء الدول- توجه أمس القريب بحوارات خص بها إذاعات وتلفزات فرنسية وعالمية واصفا من منح صوته للرئيس المرزوقي بأنه سلفي جهادي إرهابي متطرف. بقطع النظر عن تاريخ العجوز الضارب في الاستبداد والتعذيب والتزوير بشهادته هو، فإن هذه التصريحات قد خلقت موجة كبيرة من الاستهجان والاستغراب نظرا لتداعياتها الخطيرة على السلْم الاجتماعي وعلى صورة التونسيين في خارج البلاد وفي داخلها وعلى اقتصادها الهش.
العجوز التسعيني كان مشرفا بنفسه على أقبية التعذيب في سجن “صباط الظلام” الرهيب خلال فترة الستينات عندما كان وزيرا لداخلية الوكيل الأول الحبيب بورقيبة. نفس العجوز كان رئيسا لبرلمان الوكيل الثاني بن علي خلال أيام القهر التي مارسها الرئيس الهارب في حق شعب تونس وأبنائه وأشرف بنفسه على تزوير الانتخابات لصالح ولي نعمته. جرائم العجوز تمتد إلى فترة مبكرة من مرحلة الاستعمار غير المباشر حيث كُلف من قبل بورقيبة بتصفية اليوسفيين من العروبيين الأحرار الذين قرر بورقيبة بإملاءات استعمارية طبعا تصفيتهم حتى يخلو الطريق لعملية النهب المنظم لثروات البلاد وخيرات أبناءها.
خطاب الثورة المضادة المخمور بنتائج الانتخابات التشريعية والسكران بالفوز الساحق الذي حققه على حساب الثورة وعلى حساب الشهداء ودمائهم لم يتردد لحظة في فضح نواياه الاستبدادية وكشف نظرته الدونية لقسم كبير من أبناء الشعب التونسي. فالعجوز نفسه كان قد شبه أهل الجنوب في خطاب سابق بأنهم حطب الإرهاب والتطرف ” خشخاش إرهاب ” وبأنهم أقل وطنية من بقية شعب البلاد في سابقة خطيرة من نوعها على مستوى الخطاب السياسي الرسمي من مرشح قد يجمع بين يديه غدا كل السلطات السيادية في البلاد.
الواقع أن خطاب الاحتقار هذا ليس جديدا على حزب الرئيس الهارب بن على بل إن التباين الطبقي والجهوي في البلاد يعبر بكل جلاء عن نظرة الاحتقار التي تكنها البورجوازية التونسية المتعفنة من المتسلقين الجدد ومن عصابات النهب والسطو المنظم للطبقات الفقيرة والمهمشة في البلاد.
أبواق الدولة العميقة على منصات إعلام العار الوطنية في تونس لم تتردد لحظة واحدة في تأجيج خطاب الحقد والكراهية عندما تستضيف يوميا رجال الدولة العميقة وجامعيّ حقبة الاستبداد ومنظري منظمة فريدوم هاوس أو بيت الحرية الأمريكية لينفثوا ما طاب لهم من السموم الجهوية من أجل التنفير من الثورة ومن المنجز الثوري جملة.
هذا الخطاب المؤسَّس زورا على الحداثة الكاذبة والديمقراطية الوهمية هو خطاب يستعيد ذاكرة الاستبداد ويُحيي ما بقي من الحنين للزعيم الخالد والمجاهد الأكبر فحركات العجوز التسعيني وهو يقلد الوكيل الأول الحبيب بورقيبة لا تخفَى على أحد ممن خبروا الحقبة البورقيبية السوداء في تاريخ تونس.
خطاب الحقد والكراهية الذي يستدعي من خلاله مرشح المالِ الخليجيِ الفاسدِ المشاعرَ الجهوية البغيضة ويوقد عبره العداوات التاريخية ويثير به النعرات القبلية خطاب على درجة كبيرة من الخطورة التي تهدد وحدة البلاد ونسيجها الاجتماعي المتماسك خاصة مع ارتفاع دعوات متطرفة من هنا وهناك هدفها ضرب الوحدة الوطنية وزرع بذور التقسيم والتفكيك بين شمال البلاد وجنوبها.
لقد صمد الشعب التونسي طويلا أمام التمييز الجهوي والاحتقار المناطقي الذي أقصى جهات بأكملها من خطط التنمية والتحديث خاصة في مدن الشمال الغربي الفقير وجنوبه المهمش حيث لا نعثر على مركب جامعي وحيد أو مركب طبي لائق لثلاثة أرباع السكان في حين تتكدس الجامعات والمرافق الصحية في شمال البلاد وشمالها الشرقي الساحلي حيث مسقط رأس الوكيل الأول بورقيبة والوكيل الثاني بن علي.
ما يزيد المشهد القاتم عنصرية هو الاحتقار اللغوي الذي تعاني منه مناطق الجنوب والشمال الغربي وكذلك الوسط، حيث لا يعبر الخطاب الإعلامي العمومي والخاص عن اللهجات المحلية إطلاقا بل إن إذاعتي الجنوب الشرقي في مدينتي ” تطاوين” و” جربة ” إنما تنطقان بلهجة العاصمة في نشاز كلي مع المحيط اللغوي الذي تغطيانه وفي احتقار متعمد لمستمعيهم في هذه الربوع. لغة الاحتقار وخطاب الترهيب الذي أنجزه الاستبداد ونمّاه خلال ما يزيد عن نصف قرن من الزمان يجد اليوم مرتكزا جديدا يتأسس عليه ويتمثل في فزاعة الإرهاب التي يُرمى بها كل مخالف للحن السائد.
أنت سلفي تكفيري و إرهابي تفجيري ما لم تنتخب وكيل الاستعمار الجديد وما لم تؤمن بالحداثة العلمانية وبقوى الممانعة المقاوِمة للزحف التكفيري الجديد وما لم تبارك قصف إعلام العار التونسي لحرية الاختيار وما لم تهلل لقتل المتظاهرين في ساحات القاهرة وما لم ترقص لقتل أكثر من 130 من أبناء سوريا أمس ببراميل الأسد الطائفية.
الكاتب محمد هنيد