رسالة سيد قطب إلى أخته قبل إعدامه مباشرة
من أروع ما كتب سيد قطب رحمه الله وتجاوز عنا وعنه – رسالة السيد قطب إلى أخته قبل إعدامه مباشرة..وهى أخر ما كتبه المفكر سيد قطب…
ــــــــــــــــــــــــــــ
عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود! أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض!
إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهما، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا.. فليست الحياة بعد السنين، ولكنها بعداد المشاعر، وما يسميه الواقعيون في هذه الحالة وهما! هو في الواقع حقيقة أصح من كل حقائقهم! لأن الحياة ليست شيئا آخر غير شعور الإنسان بالحياة.. جَرِد أي إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحس الإنسان شعورا مضاعفا بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلا.
يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال!
إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!
بذرة الشر تهيج، ولكن بذرة الخير تثمر، إن الأولى ترتفع في الفضاء سريعا ولكن جذورها في التربة قريبة، حتى لتحجب عن شجرة الخير النور والهواء ولكن شجرة الخير تظل في نموها البطيء، لأن عمق جذورها في التربة يعوضها عن الدفء والهواء.
مع أننا حين نتجاوز المظهر المزور البراق لشجرة الشر، ونفحص عن قوتها الحقيقية وصلابتها، تبدو لنا واهنة هشة نافشة في غير صلابة حقيقية! على حين تصبر شجرة الخير على البلاء، وتتماسك للعاصفة، وتظل في نموها الهادئ البطيء، لا تحفل بما ترجمها به شجرة الشر من أقذاء وأشواك!
عندما نلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيرا كثيرا قد لا تراه العيون أول وهلة!
لقد جربت ذلك.. جربته مع الكثيرين.. حتى الذين يبدو في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور.. شيء من العطف على أخطائهم، وحماقتهم، شيء من الود الحقيقي لهم، شيء من العناية – غير المتصنعة – باهتماماتهم وهمومهم؛ ثم ينكشف لك النبع الخير في نفوسهم، حين يمنحونك حبهم ومودتهم وثقتهم، في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، متى أعطيتهم إياه في صدق وصفاء وإخلاص.
إن الشر ليس عميقاً في النفس الإنسانية إلى الحد الذي نتصوره أحيانا؛ إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء؛ فإذا آمنوا تكشفت تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية. هذه الثمرة الحلوة، إنما تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم وعلى حماقتهم كذلك … وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون، لقد جربت ذلك، جربته بنفسي. فليست أطلقها مجرد كلمات مجنحة وليدة أحلام وأوهام!
عندما تنمو في نفوسنا بذور الحب والعطف والخير نعفي أنفسنا من أعباء ومشقات كثيرة.. إننا لن نكون في حاجة إلى أن نتملق الآخرين لأننا سنكون يومئذ صادقين مخلصين إذ نزجي إليهم الثناء.. إننا سنكشف في نفوسهم عن كنوز من الخير وسنجد لهم مزايا طيبة نثني عليها حين نثني ونحن صادقون؛ ولن يعدم إنسان ناحية خيرة أو مزية حسنة تؤهله لكلمة طيبة، ولكننا لا نطلع عليها ولا نراها إلا حين تنمو في نفوسنا بذرة الحب!
كذلك لن نكون في حاجة لأن نحمل أنفسنا مؤونة التضايق منهم ولا حتى مؤونة الصبر على أخطائهم وحماقاتهم؛ لأننا سنعطف على مواضع الضعف والنقص ولن نفتش عليها لنراها يوم تنمو في نفوسنا بذرة الحب! وبطبيعة الحال لن نجشم أنفسنا عناء الحقد عليهم أو عبء الحذر منهم، فإنما نحقد على الآخرين لأن بذرة الخير لم تنم في نفوسنا نموا كافيا ونتخوف منهم لأن عنصر الثقة في الخير ينقصنا!
كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة، حين نمنح الآخرين عطفنا وحبنا وثقتنا، يوم تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف والخير!
حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحا، أو أطيب منهم قلبا، أو أرحب منهم نفسا أو أذكى منهم عقلا لا نكون قد صنعنا شيئا كبيرا.. لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبيل وأقلها مؤونة!
إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع! إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقا، إن التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة الحقيقية!
عندما نصل إلى مستوى معين من القدرة نحس أننا لا يعيبنا أن نطلب مساعدة الآخرين لنا، حتى أولئك الذين هم أقل منا مقدرة! ولا يغض من قيمتنا أن تكون معونة الآخرين لنا قد ساعدتنا على الوصول إلى ما نحن فيه. إننا نحاول أن نصنع كل شيء بأنفسنا، ونستنكف أن نطلب عون الآخرين لنا أو أن نضم جهدهم إلى جهودنا كما نستشعر غضاضة في أن يعرف الناس أنه كان لذلك العون أثر في صعودنا إلى القمة. إننا نصنع هذا كله حين لا تكون ثقتنا بأنفسنا كبيرة، أي عندما نكون بالفعل ضعفاء في ناحية من النواحي، أما حين نكون أقوياء حقا فلن نستشعر من هذا كله شيئا. إن الطفل هو الذي يحاول أن يبعد يدك التي تسنده وهو يتكفأ في المسير!
عندما نصل إلى مستوى معين من القدرة، سنستقبل عون الآخرين لنا بروح الشكر والفرح. الشكر لما يقدم لنا من عون، والفرح بأن هناك من يؤمن بما نؤمن به نحن، فيشاركنا الجهد والتبعة. إن الفرح بالتجاوب الشعوري هو الفرح المقدس الطليق!
إننا نحن إن نحتكر أفكارنا وعقائدنا، ونغضب حين ينتحلها الآخرون لأنفسهم، ونجتهد في توكيد نسبتها إلينا، وعدوان الآخرين عليها! إننا إنما نصنع ذلك كله حين لا يكون إيماننا بهذه الأفكار والعقائد كبيرا، حين لا تكون منبثقة من أعماقنا كما لو كانت بغير إرادة منا، حين لا تكون هي ذاتها أحب إلينا من ذواتنا!
إن الفرح الصافي هو الثمرة الطبيعية لأن نرى أفكارنا وعقائدنا ملكا للآخرين ونحن بعد أحياء، إن مجرد تصورنا لها أنها ستصبح – ولو بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض – زادا للآخرين وريا، ليكفي أن تفيض قلوبا بالرضا والسعادة والاطمئنان!
التجار وحدهم هم الذين يحرصون على (العلاقات التجارية) لبضائعهم كي لا يستغلها الآخرون ويسلبوهم حقهم من الربح؛ أما المفكرون وأصحاب العقائد فكل سعادتهم في أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم ويؤمنوا بها إلى حد أن ينسبوها لأنفسهم لا إلى أصحابها الأولين!
إنهم لا يعتقدون أنهم أصحاب هذه الأفكار والعقائد، وإنما هم مجرد (وسطاء) في نقلها وترجمتها. إنهم يحسون أن النبع الذي يستمدون منه ليس من خلقهم، ولا من صنع أيديهم. وكل فرحهم المقدس، إنما هو ثمرة اطمئنانهم إلى أنهم على اتصال بهذا النبع الأصيل.
التعليقات مغلقة.