«كلكم بنو آدم وآدم من تراب» رد يوسف بجاوي على تحامل جربوعة على الحراك

6٬747

في الأسبوع الماضي، سأل شاب جزائري في إحدى منصّات التواصل الاجتماعي أن نردّ على نص الشاعر محمد جربوعة بعنوان “النداء الأخير قبل الغرق: شرحٌ لإخواننا العرب والمسلمين لما يحدث في الجزائر”.

لما قرأتُ هذا النص كان رد فعلي الأوّل هو المفاجأة ثم الشعور بالطعن في الظهر. لم اكتشف الشاعر محمد جربوعة إلّا مؤخرًا من خلال قصائده ضد العائلة الملكية السعودية وقصيدة “أخرج”، وكان لدي انطباع إيجابي عن شعر الرجل رغم بعض التحفظات، فسررت أن يكون للجزائر شاعر له صدى في العالم العربي. كم كانت خيبتي كبيرة لما قرأتُ هذا النص، فترددت كثيرًا في الرد عليه، غير أني قرّرت في الأخير أن أوظف هذا النص كمادة تثقيفية لشباب الحراك.

لستُ ناقدًا أدبيًا، وانتقادي لهذا النص وغيره من نثر جربوعة أو أبياته المماثلة ينحصر على الجانب السياسي، وسأعالج هنا خمسة نقاط أرى أنها جوهر ما جاء في نصه، ألا وهي 1) نظرية المؤامرة، 2) العنصرية، 3) النخبوية السلطوية، 4) الدولة العميقة، وأخيرًا  5) الشعر.

1.    جربوعة ونظرية المؤامرة

إنّ الفكرة الأساسية في نص “النداء الأخير قبل الغرق” هي نظرية مؤامرة شرّيرها، حسب جربوعة، هو”ائتلاف تاريخي جهوي ثقافي لرجال أعمال، وجنرالات، وأحزاب سياسية، وجمعيات حقوقية، وترسانة إعلامية، ونقابات قوية، وقضاة ورجال قانون، وأعداد كبيرة من المدراء والمسؤولين المتنفذين في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها الكبرى والحساسة”، يهدف، على قول جربوعة، إلى “صناعة أكبر وأخطر ديكتاتورية جهوية استئصالية في المنطقة”.

هذا النص يخوض في نظرية المؤامرة وليس في المؤامرة، وهناك فرق كبير بين الاثنين.

المؤامرة هي ترتيب سري بين زمرة من الأقوياء والنافذين لاغتصاب سلطة اقتصادية أو سياسية ما. والمؤامرات هي وقائع حقيقية تحدث بانتظام، منها على سبيل المثال قضية الكوكايين مؤخرًا في الجزائر، أو قضية واترغيت––Watergate الشهيرة في الولايات المتحدة.

أما نظرية المؤامرة فهي أيضًا تورّط مجموعة من الأقوياء الذين يناورون سرًا من أجل مصالحهم الخاصة وضد الصالح العام، غير أن المؤامرة هنا عبارة عن تصوّر اتهامي أكثر من كونها حقيقة ثابتة، فالتصوّر هنا يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب. في العالم العربي هناك عدد لا يحصى من نظريات المؤامرة التي تنسب مشاكلنا التاريخية أو السياسية للماسونية العالمية، أما في الغرب فهناك عدد هائل من نظريات المؤامرة التي تدّعي أنّ الأرض مسطحة، أو أن ظاهرة الاحتباس الحراري مفبركة، أو أنّ اللقاح يودّي إلى المرض، كما تجزم أن العلماء يكتمون الحقيقة بالتواطؤ مع القوى التجارية.

لا يوفّر جربوعة أيّ دليل ملموس أو حجّة منطقية تدعم وجود الائتلاف الذي ادعى أنه قائم، فبالنسبة له وجوده هو محض يقين، ولا يشعر أنه ملزم بإثبات ذلك أو على الأقلّ بجعله جدير بالتصديق.

فيما يخص الجانب المنطقي، جميع الدراسات الحديثة لنظريات المؤامرة تشير إلى أنها غير قابلة للدحض بشكل عام. لو طلبنا من جربوعة تقديم الأدلة التي تثبت وجود التحالف المزعوم والبينات التي تؤكد قطعًا أنه التقى فعلا لاتخاذ قرار الاستيلاء على الحراك، فالأرجح أنه سيردّ أنه من المستحيل الحصول على مثل هذه الأدلة نظرًا لقوة هذا التحالف، أو أن البيّنة على من رفض الادعاء. فمعظم نظريات المؤامرة لها الشكل المنطقي التالي: الافتراض “أ”صحيح، يستحيل إثبات حقيقة “أ” بسبب افتراض “ب”، فبالتالي الافتراض “أ”صحيح. إنّمثل هذه القضايا ليست قابلة للبرهنة أو للإثبات تجريبيًا.

لا شك أنّ الدراسات الحديثة لنظريات المؤامرة لا تركز على محتواها من الزيف أو الحقيقة بقدر ما تسلط الأضواء على ما يمكن أن تعلّمنا هذه النظريات عن نفسية الأشخاص الذين يختلقونها والأفراد الذين يصدقونها، وعن الظروف السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمعات التي تتفشى فيها.

على سبيل المثال، تُظهر العديد من الدراسات النفسية أنّ الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الشخصية النرجسية أو من الهذاء وضعف تقدير الذات هم أكثر عرضة للاعتقاد بنظريات المؤامرة، وخاصة تلك التي تستهدف المجموعات التي يعتبرونها معادية.

أمّا بالنسبة للدراسات السياسية لنظريات المؤامرة، فإنها تلاحظ أنّ الميل إلى اختراع نظريات المؤامرة وتصديقها هو الأقوى في الأنظمة الاستبدادية حيث يشعر المواطن بالإقصاء من السياسة،فنظريات المؤامرة لها علاقة وطيدة بمفهوم السلطة، أي بمن يمتلكها وكيف يوظفها. والواضح أنّ كل هذه النظريات تغرس فينا خوفًا أساسيًا من كوننا دمى تحت سيطرة قوى شريرة وخفية. فنادرًا ما يُتّهم المستضعفون بالتآمر على الرغم من أنهم هم الذين يجب أن يتآمروا لاسترجاع حقوقهم.

وتتكاثر نظريات المؤامرة في الديكتاتوريات لأنها–على غرار الخرافات والشائعات ضد السلطة –تمكّن من حشد المستضعفين ضد النظام المستبد. يرى علماء السياسة أنه حتى لو كانت هذه النظريات سلبية، بموجب وهميتها أو حماقتها في غالب الأحيان، فإنها تلعب دورًا إيجابيًا بكونها نوع من السلطة المضادة التي تصحّح خللا في توازن القوة.

أمّا نظرية المؤامرة التي يروّج لها جربوعة فهي بعيدة كل البعد من لعب هذا الدور التوازني، فجربوعة يدافع عن الجيش الذي احتكر معظم السلطة منذ الاستقلال، كما يحاول إضعاف الحراك الشعبي وتشويه سمعته من خلال نظريته للمؤامرة التي تنسب قوة هائلة وأنشطة سرية وخبيثة إلى قيادة وهمية للحراك الشعبي. وبعبارة أخرى لا تتمتّع نظرية جربوعة للمؤامرة بالمنفعة الوظيفية التي يراها علماء السياسة، أي خدمة المستضعف ضد المستبد. وعلى العكس من ذلك، فجربوعةيعارض ويتهجم على المستضعفين الذين يسعون إلى تحرير أنفسهم، ونظريته أشبه بنظريات المؤامرة التي تنسجها مخابرات الديكتاتوريات والتي تصوّر المعارضين حتمًا على أنهم دمى في أيدي القوى الأجنبية.

2.    جربوعة والعنصرية

ليست نظرية جربوعة للمؤامرة نظرية عادية، فهي نظرية مؤامرة عنصرية لأنها تتحدّث عن”ائتلاف تاريخي جهوي ثقافي”يقود الحراك الشعبي ويهدف إلى “صناعة أكبر وأخطر ديكتاتورية جهوية استئصالية في المنطقة”.من الواضح أنّ المنطقة التي يتحدّث عنها جربوعة دون أن تكون لديه الشجاعة لتسميتها هي منطقة القبائل الامازيغية. وعندما تستهدف نظرية مؤامرة مجموعة عرقية أو دينية أو ثقافية فإنها تُعتبر نظرية متطرّفة قد تؤدّي إلى العنف، مثل تلك التي تبنّاها المجرم أندريه بريفيك في الدنمارك أو اليمين البريطاني المتطرّف ضد المسلمين.

كل مواطن على دراية بتاريخ الجزائر الحديث يعرف أنّ هناك أخيار وأشرار في كل منطقة من مناطق البلاد. فلماذا يخص جربوعة منطقة القبائل الامازيغية بالشر؟ فمقاله صامت بهذا الشأن. يُقال إن العنصرية هي ذروة الكراهية لأدنى الأسباب. ربما سيفيدنا جربوعة في كتاباته أو  قصائده المستقبلية بشرح أسباب كراهيته للقبائل.

ولإنصاف جربوعة، فكراهيته للأمازيغ ليست حصرية، ففي قصيدته الشهيرة ضد العائلة المالكة السعودية هناك بيتًا يكشف كراهيته للفرس. أما قصيدته “جزائر العروبة… عراق العرب”، فتتضمّن عنصرية مقيتة ضد الفرس. إنّ انتقاد سياسات إيران الخارجية في المنطقة أمرٌ مشروع طبعًا، لكن استهداف “الفرس” ككتلة عدوة واحدة هو محض العنصرية. لا أنسى أيضًا أنّ جربوعة أثار سخط السودانيين الذين، حتى لو كانوا يكرهون ديكتاتورهم، لم يقبلوا وصفه بـ”العبد”في قصيدته “فأران”.

يعلّمنا الرسول عليه الصلاة والسلام أنه”ليس منا من دعا إلى عصبية”، وأنه “لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى”. فلماذا إذًا يمنح جربوعة، في قصيدة “رسالة إلى صدام حسين”، حبه وثناءه لـ”صديقه”صدام حسين، وهو ديكتاتور أكثر دموية وانتهاكا لحقوق مواطنيه من عمر البشير الذي يصفه بـ”العبد”؟ الإجابة: العنصرية.

كما قال جيمس بالدوين، ما يتجاهله جربوعة عن الأمازيغ والفرس والسود يكشف بالتحديد وبالضبط ما يجهله عن نفسه.

3.    جربوعة والنخبوية السلطوية

ما يلفت الانتباه أيضًا في نص جربوعة هو تواتر التعبيرات الاستعلائية على الشعب، منها “الملايين الذين يتظاهرون، لا يدركون اليوم”، أو “لو أنّ هذه الملايين فتحت عينيها”، أو “ألم يفتح الشعب عينيه”، أو “ألا تفهم هذه الملايين” وحتى “الملايين من المخدرين”. كما يقول جربوعة “أنّ الشعب اختار الانصياع للدولة العميقة”، و”إن الشعب الذي يصطف مع فرنسا ومع دعاة الإلحاد والعنصرية وجنرالات الدم والسحاقيات، ضد مؤسساته وجيشه ودينه ولغته وثقافته ومستقبل أبنائه، شعب لا يستحق الحياة ولا الاحترام”. ويضيف جربوعة: “لذلك فثقتي الأخيرة اليوم بالمؤسسة العسكرية]…[أما الشعب فقد سقط، وتحوّل إلى آلة تقترف أكبر جريمة ضد الوطن، ولصالح فرنسا”، ويختم بسخرية: “فلتستمر الملايين المنوّمة في التقدم والصراخ .. بينما فرنسا ووكلاؤها يقهقهون من حمق الملايين”.

من الواضح أنّ جربوعة يعطي الانطباع بأنه يستمتع بالشعور أنه أكثر وعيًا وفطانة وذكاءً من الملايين من المواطنين. وفي نفس النص يقول إن الشخصيات والأحزاب الإسلامية المشاركة في الحراك غير قادرة على إدراك أنها تُستخدم كـ”ديكور ظرفي”، والذين يشكّكون في آرائه فهُم مجرّد “بلهاء”.

قد يعتقد المرء أنّ شهرة جربوعة الشعرية هي سبب استعلائه. وهذا خطأ، فالشهرة جوفاء، ولا دور لها سوى تضخيم ما في الإناء. رأينا أعلاه كراهيته العنصرية، أما هنا فنلاحظ التعجرف كنزوع نفسي والنخبوية كفكر سياسي.

والنخبوية تعني الاعتقاد بأنّ بعض الأفراد والجماعات يتمتّعون بصفات ذاتية تمنحهم سلطة فكرية وأخلاقية وسياسية تعلو على باقي المواطنين. ويلج جربوعة من هذا الباب ليقول لملايين المواطنين أنه يدرك حقيقة ظروفهم أفضل منهم، ويجب أن يصطفوا خلف القيادة العسكرية لمصلحتهم ومصلحة البلاد. وهذا يعني أنّ جربوعة ليس نخبويًا بسيطًا بل هو نخبويٌ سلطويٌ.

والنخبوية هي عكس المساواتية التي تؤكّد أنّ المواطنين يتمتّعون بنفس الحقوق بدون تمييز ويجب أن يُعاملوا على قدم المساواة. والنخبوية هي عكس الديمقراطية القائمة على وجوب حكم المواطنين العاديين أنفسَهم بأنفسِهم. والنخبوية هي أيضًا نقيض التعددية التي تنادي بإدماج تعدّد وجهات النظر في حكم المجتمعات، وكلما زاد عدد وجهات النظر، كلما كان ذلك أفضل.

4. جربوعة والدولة العميقة

يشير جربوعة في نصه التحريضي إلى ائتلاف القبائل الامازيغية السري مرّة واحدة فقط،  وفي بقية نصه يذكر كثيرًا الدولة العميقة دون تعريفها ودون توضيح علاقتها بهذا الائتلاف.

ويشير هذا المصطلح عمومًا إلى شبكة سرية منتشرة في الحكومة والإدارة والمخابرات وغيرها من أجهزة الدولة. وتتصرّف هذه الشبكة وكأنها دولة داخل الدولة بحيث تسيطر على العملية السياسية خلف ستار مشهد واجهته احتيال ديمقراطي. وأشكال الدول العميقة تختلف من بلد لآخر، أما في الجزائر فهي الجيش الذي يسيطر من خلال مخابراته على الإدارة والحكومة والأحزاب السياسية والقضاء والنقابات ووسائل الإعلام وعالم الأعمال.

ومنذ عقود من الزمن قبل أن يصبح مصطلح الدولة العميقة مصطلحًا مألوفًا، كان مؤسسو حركة رشاد يعارضون الجنرالات الانقلابيين وأجهزة المخابرات وتحكّمهم في كل مفاصل الحياة السياسية، كما كانوايوثّقون جرائمهم، وذلك منذ بداية التسعينيات حين كانت قلّة قليلة تعرف أو تجرأ  نطق أسماء هذه الأجهزة أو أسماء مدرائها العسكريين. ولا أثر لبيت شعري أو نثر من جربوعة يتهجّم على الدولة العميقة آنداك.

إنّ جربوعة يتحدّث عن موضوع لا يتقنه، وحسب سرده فالدولة العميقة هي التي تتحكّم في الحراك الشعبي. بما أنّ عددًا كبيرًا من جنرالات الجيش النشطين والمتقاعدين، وخاصة جنرالات المخابرات، متورّطون في جرائم حرب خطيرة و/أو في جرائم الفساد، فما هي مصلحتهم في إثارة ثورة ليقترب منهم شبح الملاحقات القضائية أو المشانق الشعبية؟

والحقيقة هي أنّ الدولة العميقة ضد الحراك الشعبي، وجربوعة مهما كانت نواياه، والأرجح أنها صادقة في الدفاع عمّا يعتبره مصلحة للوطن والعروبة، يلعب دور الحليف الموضوعي للدولة العميقة. وكتاباته للأسف تصبّ في تسهيل أعمال الدولة العميقة القذرة.

لقد رأينا جميعًا، في الشارع وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، أنّ الحراك الشعبي قائم على مبدأين أساسيين: اللاعنف ووحدة الشعب. أمّا النظام فبعد احترام المسيرات لأكثر من شهر، لجأ إلى تصعيدات قمعية متقطّعة،من خلال البلطجية وبعض قوى الأمن، لاستفزاز الحراك واستدراجه إلى العنف. أمّا في وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، فلجأ من البداية وبدون انقطاع إلى إثارة الانقسامات وسط الشعب وتعميقها، وذلك بمساعدة جحافله من المرتزقة.

من المعروف أن القرآن الكريم– 30:22 –يعتبر اختلاف اللغات والالوان معجزة ونعمة وثراء، في حين أن الاستعمار وظفهم كأسلحة لتمزيق وإخضاع مجتمعاتنا. ولم تتمتع الجزائر حتى الآن من سنوات كافية من الحرية للمناقشة الهادئة للجراح التي خلّفها الاستعمار في هوياتها وتضميدها. والمبدأ الرئيسي الذي تستخدمه المخابرات العسكرية لنشر الفتنة في صفوف الشعب الثائر هو مبدأ بسيط: استغلال هذه الجراح وتعميقها، فتُوَظّف لكبح التفكير واثارة ردود الأفعال والغرائز، ولتقييد الاعتدال وتهييج التطرّف، ولكبت التسامح وتحريض التعصّب، أي تقليص كلّ ما يُبقي الحراك في السلمية والوحدة وإثارة كلّ ما يجرّه إلى العنف والفرقة. فالمخابرات تقوم بإثارة المتطرّفين من كل اللغات والجهات والأيديولوجيات، المتطرّف العروبي ضدّ المتطرّف البربروي والعكس بالعكس، والمتطرّف العلماني ضدّ المتطرّف الإسلاموي، والعكس بالعكس، الخ.

في نص هجومي آخر ضد الحراك، بعنوان “الحراك الذي يهينه رسّام كاريكتير”، قام جربوعة بلفت انتباه قرائه إلى رسّام شبه مجهول من أصول قبائلية رسم خربشة فيها عبارة من الكراهية للإسلام. وفي نفس الأسبوع قامت قناة “النهار” ببثّ تصوير يركز على إسلامي بلحية تبدو اصطناعية وهو يصرخ، في مسيرة الجمعة الثامنة، بهتافات تخيف التيار العلماني. فجربوعة ومناصرو مغالطة “الزواف”(*)يثيرون العنصرية العربية ويستفزون العنصرية البربرية على شبكة الإنترنت، أمامشجعو الغزو العربي فيؤججون العنصرية البربرية ويستفزون العنصرية العربية. فيتبيّن من كلّ ذلك أنّ جربوعة لا يختلف عن الإسلاموفوبيين أو العنصريين البربرويين الذين يتهجّم عليهم، بل هو مجرّد صورة معكوسة لهم، وهو أحد الذراعين اللذين يحاولان الفتك بوحدة الشعب.

هناك ملاحظة أخيرة. في كلا النصين يوظّف جربوعة شبح قيام دكتاتورية بربروية، مصمّمة على محو الإسلام والعروبة والقيم الأخلاقية، للتعبئة ضد التحوّل الديمقراطي الذي تنادي به أغلبية الشعب. يقول جربوعة: “القادم سيكون شبيها بمحاكم التفتيش الإسبانية، حيث ستمنع الكثير من مظاهر الدين، واللغة، والقوانين التشريعية، مثل قانون الأسرة، والحرية الفكرية الإلحادية، وسيكون الشعب شريكا في إثم إقامة هذه الجمهورية الثانية”. فجربوعة ليس مبتكرًا في خطاب التهويل، ويجب تذكيره بأنّ غلاة العلمانية وظّفوا نفس الخطاب الأرمجدوني للتعبئة ضد مواصلة العملية الانتخابية في يناير 1992 ولتبرير الانقلاب العسكري. فعلى سبيل المثال كتب آنذاك الصحفي أرزقي مترف من أسبوعية “إبدو ليبري”: “المستقبل بين يدي مشايخ يطلبون انتقامًا يمكن أن يكون باهظ الثمن للجزائر في شكل تقهقر قاصم. فالتأخر الكبير الذي تعاني منه الجزائر إلى الآن في ميادين العلوم والتكنولوجيا والثقافة والاقتصاد سوف يصل نقطة اللاّرجعة تحت ظل جمهورية إسلامية ستهتم قبل كل شيء بـ«تطهير» البلاد من خلال قطع رأس نُخبتها”.

ما أشبه اليوم بالأمس، فالصورة معكوسة ولكن الدولة العميقة هي هي، والشعب المهمّش هو هو. من الواضح إذن أنّ جربوعة، من خلال نشره للكراهية العنصرية والخوف والإحباط، فهو يخدم الدولة العميقة أكثر مما يظن أنه يحاربها.

إنّ حركة رشاد تعتبر ان مصطلح الدولة العميقة له دلالات دقيقة ويجب تفادي توظيفه عشوائيًا، كما لهامقاربة عقلانية للقضاء على هذا الكيان، تمرّ بإصلاح هادئ وتوافقي للعلاقات المدنية العسكرية يتمثّل في وضع أحكام دستورية وقانونية وتنظيمية وإجرائية دقيقة من أجل السيطرة الديمقراطية على أنشطة الجيش الوطني الشعبي ومن أجل مراقبتها من طرف البرلمان. أما إصلاح الأجهزة الأمنية فيكون بتحديد مهامّها، ومراجعة قواعدها القانونية وهياكلها وأحجامها، وتحديد سلطاتها، وتوضيح الوسائل الكفيلة بالتحكّم فيها داخليًا وتنفيذيًا وبرلمانيًا وقضائيًا، وتحديد كلّ التدابير اللازمة لضمان حيادها السياسي، وسنّ القوانين التي تضبط استخدام المعلومات المتعلّقة بالمواطنين والكشف عنها والاحتفاظ بها ومسحها، ووضع جميع التدابير التي تضمن الامتثال لمعايير القانون الدولي لحقوق الإنسان في ممارسة أنشطة الأمن القومي.

5. الشعر

يقول بيتهوفن أنّ الشاعر العظيم هو أثمن جوهرة قد تكسبها أمة.

قد يصبح جربوعة جوهرة من مجوهرات الجزائر لو تخلى عن عنصريته ونخبويته، ولو اكتفى بالتعبير عمّا يشعر به الملايين من الجزائريين بدلًا من أن ينصّب نفسه واعظًا لهم أو قائدًا يملي عليهم ما ينبغي أن يشعروا به.

ليس من قبيل الصدفة أن تكون أول الأغاني وشعارات الثورة مستوحاة من شباب الملاعب الجزائرية. مع استثناءات قليلة، لقد اختفت منذ العشرية الدموية القصائد والأغاني التي تعكس معاناة الشعب الجزائري المستضعَف وتطلّعاته.

فجزائر اليوم والغد بحاجة إلى جربوعة وشعراء آخرين، غير أنّ شعبنا لن يتمتّع بفنهم إلّا إذا كانوا من الفنانين الذين يتبنّون نصيحة زميلهم جون وودن: “الموهبة من الله، فكن متواضعًا، والشهرة من الناس، فكن شكورًا، والاستعلاء من النفس الأمّارة بالسوء، فكن حذرًا”.

25 أبريل 2019

يوسف نجادي، عضو من حركة رشاد

هوامش

(*)

الزواف – les zouaves – هي تسمية لوحدات من المشاة الخفيفة التابعة للجيش الاستعماري الفرنسي في إفريقيا. وتأسست هذه الوحدات عام 1830 أثناء غزو الجزائر ووظفت في حروب عدة في افريقيا وأوروبا وأسيا حتى عام 1962. فيما يخص وحدات الزواف في الجزائر، فكانت خليط من الفرنسيين والجزائريين حتى سنة 1842، وبعد إعادة هيكلة الجيش الفرنسي في شمال إفريقيا عام 1842 أصبحت عضويتها أوروبية حصرا. والمصادر التاريخية الموثوقة تشير الى أن العنصر المسلم في هذه الوحدات ما بين 1830 و1842 كان يضم بقايا قوات الزواوة التي كانت في خدمة داي الجزائر، وكلمة الزواوة ترجع الى قبيلة من البربر، كما كان يضم جنود عرب وكراغلة.

أما في بعض الصفحات في الشبكة العنكبوتية فهذا التاريخ محرف تماما لأغراض عنصرية وتخريبية للحراك القائم في الجزائر. حتى صفحة wikipedia لم تنجو من هذا التخريب الصبياني بغرض ترويج الفكرة أن القبائل خونة – قارن مثلا الصفحة بالفرنسية وبالعربية. أما القبائل ففيهم الاخيار والاشرار كما هو حال كل المجموعات البشرية.

hoggar.org/2019/04/25/كلكم-بنو-آدم-وآدم-من-تراب-ردي-على-تحام/

4 تعليقات
  1. صالح ضيف الله يقول

    بارك الله فيك أستاذ

  2. بلال مستغالمي يقول

    مشكور على المقال لكن فكرك فيه انحياز كبير للأمازيغ دون انصاف

  3. فراس حبيلي يقول

    أوليس هذا الشاعر البائس من رحم المجتمع والأمة، إن دل ذلك على شيئ فهو عمق وهن الأمة لأن أمراضها خبيثة من عنصرية وتهميش وكره للآخر…. على كل ما يحصل بالجزائر هو إيجابي لأن الشعب والأمة نهضت من ركادها، فما يحصل الآن هو تعافي الأمة بحراكها الأسبوعي، فكل أسبوع ينزل الملايين به إلى الشارع يجددون شباب الأمة، كالذي يمارس الرياضة، فهي دماء تسري في عروق الأمة من خلال شوارعها….

  4. مصباح ( فوزي ) رشيد يقول

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم أما بعد ؛
    يبدو أنّني لست الوحيد من اغترّ بهذا الشّاعر ” الفطحل ” كما يحلم أن يكون ، فقد كنت أحد المعجبين المتحيّزين إليه نظرا لبعض قصائده التي هجا فيها الملك السّعودي ( سلمان ) لكن مجرد قصيدة لم تكن كافية لمعرفة الرّجل ؛ بقيت أتابع ما يكتبه من قصائد … وفي كل مرّة أبدي له الإعجاب وبمرور الوقت تبيّن لي أن الرّجل يحب المدح ويتغاضى عن بقية التعليقات .ثم في إحدى المرّات لمّا تمادى في توجيه انتقادات لاذعة لتركيا المسلمة بصفة عامّة ولرئيسها ( أردوغان ) بصفة خاصّة ، أبديت نوعا من عدم الرضا على هكذا موقف تجاه بلد إسلامي مثل تركيا ورئيسه المنتخب ؟ وكنت أنتظر منه توضيح وجهة نظره لكنّه فاجأني بما لم أكن أتصور وقوعه من طرف شخص يعتبر في نظري قامة من القامات الأدبية التي يفتخر بها الجزائريون . وللأسف فنحن نغتر كثيرا بمن يدغدغ مشاعرنا بالخطب الرنّانة ، مثل التي يلقيها شيوخ السّلاطين والشعراء الذين يقفون على أبواب الأمراء والحكّام يلتمسون الدّخول لإلقاء بعض المدائح حتى ينالوا الأجر …، ولا أظنّه يختلف كثيرا عن هؤلاء .

التعليقات مغلقة.