السلمية هي الغالبة

55

السلمية هي الغالبة

ثلاثة أشهر من الحجر الصحي ولم تغب السلمية عن الواجهة، ما زالت تفرض نفسها كموضوع أساسي على الساحة السياسية، وهذا ليس خيار المناضلين وحدهم، بل هو أيضا خيار السلطة. ينطوي الأمر على مفارقة لكن هذه هي الحقيقة.
توقفت المظاهرات ولم تتوقف الاعتقالات، العشرات تم استدعاءهم من طرف مصالح الأمن خلال هذه الفترة، وكثير منهم انضموا إلى قائمة مفتوحة من سجناء الرأي، وبهذا أعلنت السلطة مرة أخرى أن إنهاء السلمية على رأس أولوياتها. هذا ما لاحظته وسائل الإعلام الأجنبية التي تراقب ما يجري في البلاد منذ 22 فيفري 2019.
خلال ثلاثة أشهر كانت منصات التواصل الاجتماعي ساحة لنقاشات حول مصير الحراك بعد كورونا، هل ستعود المظاهرات؟ وهل ستكفي هذه المسيرات التي تنظم كل جمعة وثلاثاء لحمل السلطة على الاستجابة لمطالب التغيير؟ وهل حان الوقت للبحث عن طرق أخرى للنضال؟ ألم يحن الوقت لخوض معركة التنظيم؟ ولماذا لا نفكر في إنشاء أحزاب سياسية؟
الإجابة حول هذه الأسئلة كانت تأتي في معظم الأحيان متضاربة بما يعكس التنوع الموجود في الشارع وهو صفة ملازمة للحركات الشعبية، وهذا في حد ذاته ينطوي على إجابات لكثير من الأسئلة التي تطرح بإلحاح منذ فرض الانتخابات وما ترتب عليها.
لكن في مقابل هذا يجب أن ننتبه إلى ما تفعله السلطة لأنه هو الآخر يقدم إجابات، فالسلمية لديها مقابل هو النظام، وما يفعله الطرف الآخر قد يعفينا من كثير من الجدل الذي يجري استغلاله لتشتيت الجزائريين وإلهائهم عن الهدف الأساسي الذي خرجوا من أجله يوم 22 فيفري وهو التخلص من نظام أصبح يهدد وحدة البلاد واستقرارها باعتراف رموزه أنفسهم.
مع اقتراب الرفع التدريجي للحجر الصحي أطلقت السلطة، عبر تصريحات مسؤوليها، والمتدخلين في وسائل إعلامها، حملات جديدة لتخوين الحراك، لم يكن مهما أن يبدو الخطاب الرسمي والإعلامي متناقضا مع مقولة “الحراك المبارك” الذي اقترح إدراجه في ديباجة الدستور، فقد جاء أصحاب نظرية المؤامرة ليشرحوا لنا مجددا كيف تلاعبت اليد الأجنبية بالجزائريين بإخراجهم إلى الشارع.
لم تقدم السلطة أي جديد، نفس الأشخاص يعودون إلى الواجهة لشرح نفس الأطروحات، تم تجريب هذا الأسلوب طيلة أكثر من سنة لكنه فشل في إجهاض السلمية. لكن عندما ننظر إلى الأمر من الجهة المقابلة يمكن أن نفهم بعض التفاصيل.
الصورة اليوم ترتسم على النحو التالي: رئيس تولى مهامه قبل ستة أشهر، وحكومة تم تشكيلها في مطلع السنة. هذا هو الهدف الذي سعت إليه السلطة بكل قوتها منذ أن أطاحت السلمية ببوتفليقة وأجهضت مشروع الخامسة، كان المتوقع أن تجاوز ما كان يسمونه بمشكلة الفراغ سيفتح الباب أمام خيارات أخرى. كثير من المتفائلين توقعوا أن يكون هناك حوار حقيقي، أن تتنفس وسائل الإعلام شيئا من الحرية، وأن يبدأ العمل من أجل توسيع قاعدة التوافق حول خيارات المرحلة المقبلة التي ستكون صعبة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. أكثر من هذا هناك من اعتقد أن الوباء كان فرصة للتهدئة وللانفتاح.. حدث العكس تماما.. اختارت السلطة التصعيد، ولعبت ورقة التفرقة مجددا، ولجأت إلى الاعتقالات.
عاد سجناء سابقون إلى الزنازين بعد أن برأتهم العدالة، نفس الأسماء تعاد إلى السجن الذي دخلته في الفترة الممتدة بين جوان وسبتمر 2019 ولم تخرج منه إلا بعد تمرير الانتخابات.. منطق السلطة بسيط، هناك أشخاص على قائمة المشوشين، وكلما كان هناك مشروع يجب تمريره يجب تغييبهم عن الساحة، بالأمس كانت الانتخابات، واليوم جاء مشروع الدستور، وربما بعده الانتخابات التشريعية.
هذه الطريقة في العمل أثبتت فشلها، فالسلمية ليست مرهونة بقادة، ولن تتوقف بسجن أسماء معروفة، وهذه الحقيقة أثبتتها التجربة، لكن لماذا لم تغير السلطة أسلوبها ؟ لأنها لا تملك بديلا آخر.. هذا كل ما تجيد فعله، وكل هذا الكلام يقودنا إلى الخلاصة التالية: أن الانتخابات التي راهنت عليها السلطة فشلت. وعندما تضطر إلى الاعتقال مجددا، وتغلق وسائل الإعلام بإحكام، وتفرض الرقابة والمنع، فهذا يعني أن أزمتك مستمرة، أكثر من هذا عندما يتحول إنهاء الحراك إلى مشروعك الوحيد فهذا يعني أن الانتخابات لم تنهي الأزمة كما اعتقدت.
هذا الفشل يتقاسمه مع السلطة الزبائن والناطقون غير الرسميين الذين تخصصوا في معارضة الحراك وإثبات فشله.. أعلنوا وفاته مرات عديدة لكنه ما زال موضوعهم المفضل، وما زالت حملاتهم ضده مستمرة، وما زال إنهاء المظاهرات هو هدفهم الوحيد.. نعم الحراك هو الميت الوحيد الذي تتجند جيوش “المثقفين” والفاهمين من أجل القضاء عليه.. أليس من الأفضل تركه ينعم بنومه الأبدي والالتفات إلي أشياء أهم ؟
في هذا الوضع الغريب نجد الإجابات على أولئك الذين يقولون ماذا حققت المظاهرات.. الآن تخبرنا السلطة بأن السلمية المستمرة تعيق عملية تجديد واجهة النظام، وتدفع بتناقضاته إلى أبعد مدى، وهذه هي عبقرية السلمية، إنها تكشف لنا يوميا تهالك هذا النظام ونهاية صلاحيته، وتجهده وتدفعه إلى الإفلاس، وهذه مقدمات تفرض حتمية التغيير الحقيقي بعد أن تطيح بعمليات الترقيع.
هناك إجابة أخرى على الذين يعتقدون أن هناك فرصة للتغيير عن طريق الانتخابات، وأن على الحراك أن يتحول إلى أحزاب وأن يأخذ مكان الأحزاب المفلسة في المجالس المنتخبة، لهؤلاء تقول السلطة، لو كانت الانتخابات حلا لما كنت أنا اليوم في وضع أسوأ من ذلك الذي كنت أمر به قبل 12 / 12.
السلمية حركة شعبية وظيفتها الضغط من أجل تغيير منظم للنظام بعيدا عن العنف والفوضى، هدفها الأول تحقيق الحرية حتى يتمكن المجتمع من تنظيم نفسه، وصياغة المشاريع السياسية، وإطلاق عملية بناء دولة الحق والقانون.
كل معركة من أجل الحرية على أرض الواقع، أو في الميدان الافتراضي، بالكلمة والصورة والرسم واللحن، بالثقافة والفن، بالعلم والمعرفة، هي جزء من هذه المسيرة التي انطلقت يوم 22 فيفري ولن تتوقف إلا ببلوغ أهدافها.. هذا ليس حكمي إنه حكم التاريخ.
نجيب بلحيمر

التعليقات مغلقة.