شهادة – حسين عبد الرحيم – في قضية تفجير مطار الجزائر 1992.
خاص بقناة الجزائر – المصدر: الكتاب الأبيض عن القمع في الجزائر، ص 167 –
إن “مصالح الأمن” قد صوّرونا على شريط سينمائي وسجّلونا داخل أماكن التعذيب نفسها. وإنهم يعلمون جيدا أنهم لو قدّمونا مباشرة أمام التلفزة لأفسدنا لهم سيناريواتهم وكشفنا مكيافيلياتهم. وفيما يخص الأشرطة السمعية البصرية، تلك التي سُجّلت داخل أماكن التعذيب، فهي لم تُسجّل كلها مباشرة، فهناك ما سُجّل بدون علمنا، كما حدث في ثكنة المخابرات العسكرية (العاصمة). فعندما كان ضابط يحقق معي، كانت كاميرا مخفية تسجّلني.
وعندما كنّا نتحدّث مع الضابط، الذي هو برتبة نقيب حسبما سمعنا، كنا نرى الموت أمامنا. كانوا أشراراً يتمثّل فيهم التعذيب.
وفي اليوم الثاني من اعتقالي، أدخلوني على المسؤول الكبير للمركز، الكوميسير “الحاج كراع” وكانت بجانبه كاميرا.
كان سؤاله الأول “ماذا تعرف؟ حدّثني عن قضية المطار!” ولقد اندهشت لهذا السؤال. فقلت له أنّه ما عدا الذي قرأته في الجرائد ورأيته في التلفاز، فإنني لا أعلم شيئا فيما يخصّ هذه القضية. ولقد تحسّرت كثيرا عندما علمت أنّ قنبلة انفجرت في المطار، مخلّفة العديد من الضحايا. فقلت في نفسي أنّ ذلك لا يمكن أن يكون عمل جزائريين.
ومنذ البداية قلت للمفوّض، على غرار ما صرّح به بلعيد عبد السلام، رئيس الحكومة، إنّ وراء العملية أيادي أجنبية. وقد كانت الكاميرا تسجّل كل ما قلته. وعندما انتبه الكوميسير كراع لذلك، التفت إلى المصور وقال له في غضب: ” من الذي قال لك بأن تُسجّل؟ من الذي أمرك بهذا العمل؟” فمن الواضح أنّ تصرّفه هذا يعني أنّه لم يرض بأجوبتي. فأمر المصور أن يتوقّف عن التسجيل، ثمّ واصل معي الحديث ولكن في صيغة تهديد، وأعلمني أنّه سوف يستعمل وسائل أخرى…فأقسمت له أني قلت عين الحقيقة. ثم قلت له: “بدون شك إنّكم قد قمتم بتحقيق في هذه القضية. وأنا الآن بين أيديكم فإذا كان لديكم أدنى دليل، أو أية شهادة ضدّي، فإنّي مستعد لأية مواجهة!”
فردّ عليّ:”إنني مقتنع أنّك لم تدبّر ولم تأمر بهذه العملية، وأنّه ليست لك علاقة بها لا من قريب و لا من بعيد، ولكن لا أصدّقك عندما تقول أنّك لا تعلم من هو وراء هذه القضية.”
إنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا رفض الكوميسير كراع تسجيل هذا الحوار؟ ولماذا لم يبثّوا تلك المحادثة عبر التلفاز؟ هل لأنّ ذلك لا يخدم الحيلة التي قُدّمت للرّأي العام؟
وفي الأسبوع الأول، وبالضبط يوم الجمعة بعد صلاة العصر، أدخلوني مكتب الكوميسير، فوجدت هناك المدير العام للأمن الوطني، السيد محمد طولبة. ووجّه إلي هذا الأخير نفس السؤال فيما يخص قضية المطار. فكررت له ما قلت للكوميسر كراع من قبل، وحينها أيضا لم يُصوّروا و لم يُسجّلوا؛ لأنّه بكل وضوح، كان كلامي لا يخدم المخطط الذي أعدّوه.
حسين عبد الرحيم كما ظهر في تسجيل قامت به المخابرات وبثته في التلفزة على أنّه اعترافات
ولم يردّ عليّ المدير العام للأمن الوطني بشيء. وأمرهم بأن يُخرجوني ورجعت إلى زنزانتي.
وفي اليوم التالي لتلك المقابلة، أي السبت صباحا، قدم ضابط يُدعى طلحي برفقة مجموعة من الجلاّدين وقال لي: “إنتهى أمر المناقشات الفلسفية مع المسؤولين! الآن ستتكلم معنا. نحن عسكريون…عرفاء، ونحن لانبالي لا بالله و لا بالسياسة، ولا بالدين.
وإذا لم تغترف فإننا سنُعذّبك بكيفية لم تتعرّض لها أبدا. وإذا اضطررنا لقتلك، فإننا سنفعل. ولن تكون الأول ولا الأخير…وسنبدأ باقتلاع خصيتك، وبعدها لن يمكنك مباشرة زوجتك!”
وقد كان كلامه مرقّما بالشتائم. ثم أخذوني بقوة إلى غرفة التعذيب. فربطوا يديّ خلف ظهري بالأغلال، وربطوا جسدي كلّه بحبل متين وغطّوا وجهي، ثم غرغروا لي الماء بواسطة خرقة. وأثناء ذلك كنت أكرّر الصياح بأنّي بريء وأصرخ ضدّ الظلم، فقال لي الضابط: “مت مثل الكلب، وإذا لم يكفك هذا فسوف نستعمل الكهرباء؟” ثم قال لزميله:” أحضر الـ380 فولط!”.
حسين عبد الرحيم خلال تسجيل فيديو في مقر التعذيب بثته التلفزة الجزائرية على أنه اعترافات مذنب.
لقد رأيت الموت أمامي. وبعد المعاناة التي لا تُحتمل، ابتكرت لهم سيناريو عن قضية المطار وذكرت أسماء لبعض الإخوة الأبرياء من أجل أن يوقفوا تعذيبي. وبالفعل بعد ساعة تقريبا، فكّوا رباطي وقُدّمت إلى الكوميسير كراع الذي طلب منّي أن أكرر ما قلته تحت التعذيب، وأمر المصوّر بأن يسجّل. فبدأت أتكلّم وكأنّي شاركت حقيقة في القضية. وهنا ذكرت الإخوة محمد عيمات، وجمال رصّاف وبن تومي، وهم كلّهم أبرياء. ولكن الكوميسير كراع لم يرض عن السيناريو الذي ابتكرته و الذي سُجّل كلّية بالكاميرا. فقال لي أنت تكذب! ليس هناك أي رابط بين ما قلته و بين الأخبار.” فقلت له:”فلماذا لا تستعين بها (أي الأخبار) في الوصول إلى الحقيقة؟ ولماذا أنت تُعذّبنا؟” ثم أخذوني إلى زنزانتي.
حسين عبد الرحيم مع بقية المتهمين في القضية
وبعد يوم أو يومين، رجعوا ليُعذّبوني بعدما أرغموني على الإعتراف بأشياء غير صحيحة وذكر أسماء أناس أبرياء.
ولقد ضربوني على رأسي بآلة تشبه المثقاب، وكاد رأسي أن ينشقّ، وأخذوني إلى المستشفى العسكري بعين النعجة، أين تلقّيت علاجاً في ظروف فضيعة ووحشية. ولقد لقي الطبيب صعوبات أثناء خياطة جروح رأسي لأنني كنت مكبّلاً بالقيود.
ثم أخذوني إلى عيادة مركز التعذيب، وبعد يومين أو ثلاثة من الحادث، جاءني ضابط وأخذني إلى مكتب الكوميسير عيسولي أين سألني الإثنان حول قضية المطار، لكن حين قلت لهما أنني بريء ضربني الضابط طلحي على رأسي رغم جروحي وانتفاخ وجهي. ولم تتحمّل خيوط الجراح التي كانت برأسي الضربة فنضح الدم من رأسي بقوة ثم بدأ الضابط يهزّ رأسي ويقول”أشرب دمك!” فبدأت أصرخ وأطلب النجدة.
ثم حُملت مرة ثانية إلى مستشفى عين النعجة أين عوملت بنفس الطريقة التي عوملت بها من قبل. أخذوني بعدها إلى مركز التعذيب ورموا بي داخل غرفة. هناك ربطوني إلى سرير وألزموني بقضاء حاجتي داخل زجاجة بلاستيكية.
بعد يوم أو يومين عادوا وطرحوا عليّ نفس السؤال، وكان لديّ صداع قوي في الرأس، فقلت لهم نفس الكلام، أي أنني لا أعرف شيئا عن قضية المطار. فنزعوا عنّي الأغلال وعذّبوني من جديد، وغرغروا لي الماء بواسطة خرقة. وحين لم أتحمّل ابتكرت لهم قصّة أخرى، سيناريو آخر مغاير للأول وكلّه خيالي، وبعد أن سجّلوا ما قلت قالوا لي:”إنّك لازلت تكذب!”
من خلال أسئلتهم كانوا بالطبع يستطيعون معرفة هل كنت أقول الحقيقة أم لا. وحين سألوني فيما بعد عن شكل ولون الحقيبة التي كانت بها القنبلة، قلت لهم مرة أنّها خضراء وقلت لهم مرة أخرى أنّها حمراء، وكل مرة كانوا يوقعونني ضربا. كيف كان يمكنني أن أعرف شكل ولون الحقيبة بما أنني بريء؟
وفي يوم الجمعة الأخير من تواجدنا بمركز التعذيب، وعلى الساعة الواحدة بعد الظهر بالضبط، أُدخلت مكتب الكوميسير الولائي كراع الذي قال لي:”حان الوقت لأن تعترف!” فقلت:”هل تسمع آذان الجمعة…أقسم بالله أنّه ليس لديّ أية علاقة بقضية المطار.” هل تعلمون بماذا ردّ عليّ؟ قال لي:”أنا مقتع أنّك لم تشارك في تلك العملية لا من قريب و لامن بعيد. ولكن لا أصدّقك عندما تقول أنّك لا تعرف من خطط لها…” فقلت له: “إنني بريء وأنتم تعذّبونني. هذا ظلم!” فسكت وأمر بإخراجي من مكتبه.
وفي يوم الأحد الموالي، وبعد صلاة العصر مباشرة، أحاط بي حوالي 20 شرطياً. فغطّوا رأسي إلى حد أنفي، ورموني على طاولة من خشب وربطوا يديّ من خلف ظهري وربطوا كامل جسمي على الطاولة بحبل متين. وأخذوا يُشربونني الماء بقوة حتى كادت أن تزهق روحي. وفي نفس الوقت كانوا يسألونني عن قضية المطار مع علمهم أنّ التسجيل الأول قد بثته التفلزة معتبرين إياه بزعمهم أنّها الحقيقة. وأمام فضاعة التعذيب أخذت أذكر أسماء أشخاص ليست لديهم أية علاقة بقضية قنبلة المطار، ولاحتى الحركة المسلّحة مثل الأخ رشيد حشايشي قبطان الطائرة.
لقطة لحسين عبد الرحيم داخل مركز التعذيب أثناء تسجيل فيديو بثته التلفزة الجزائرية على أنه اعترافات.
وعندما ذكرت ذكرت الساعة و المكان وتوقيت المكالمة الهاتفية عن قضية القنبلة، قالوا لي: “نحن لسنا في حاجة إلى هذه المعلومات. لقد قرأتها من الجرائد! نحن نريد أسماء….”
وهكذا ابتكرتُ لهم قصة ثالثة، خيالية هي الأخرى مثل سابقتيها. وإثر ذلك، أخذوني برفقة بعض الإخوة إلى ثكنة المخابرات العسكرية بحيدرة. وأوقفوني أمام ضابط – يُقال أنّه مقدّم – كان قد أمرني أن أحكي له القصة الأخيرة، قصة اصطنعتها تحت التعذيب وتختلف عن تلك التي سُجّلت على شريط فيديو بثته التلفزة الوطنية. وفي نفس الوقت كانت كاميرا مخفية تُسجّل بدون علمي.
وعندما رجعنا إلى مركز التعذيب ببن عكنون، أمرني الكوميسير وأرغمني أن أتكّلم أمام الكاميرا، حتى أظهر و كأنني طبيعي (من أجل أن يمرروا ذلك بمثابة اعترافات). فأعطوني “قميصا” و “قبعة” جديدين لأنّ قميصي كان ملطخا بالدم. وأعدّ لي الكوميسير عيسولي الكلام الذي ينبغي أن أقوله وإلاّ سأرجع إلى قاعة التعذيب. لقد هددني بالتعذيب و الموت. فقلت له أنّ ما أمرني بقوله فيه كلام لم أقله حتى تحت التعذيب، مثل الحديث عن السودان وإيران و الكلام الذي يخُصّ بن عزوز و الشيخ ملياني، و الكلام عن تخطيطنا المزعوم “لتخريب المؤسسات الإقتصادية” بما فيها المطار، و التطواطؤ المزعوم للجبهة الإسلامية في كل هذه القضايا. إنّ هذه المواضيع غريبة عنّي تماما.
وكذلك كان عليّ أن أستسمح الشعب الجزائري حتى أظهر على أنني المسؤول الحقيقي عن قضية المطار!
ولكنني كنت مستعداً أن أريهم قبر “هتلر” لو طلبوا مني ذلك من شدّة تأثّري بفظاعة التعذيب الذي تعرّضت له. ورغم ذلك لم أكن أعلم أنّ ذلك التسجيل كان يتمّ إعداده للتلفزة. فلقد أكّدوا لي أنّهم سيحتفظون به في الأرشيف. ولكن بمكيافيليتهم وخداعهم أرادوا أن يضعوني أمام الأمر الواقع: يقدّمون تصريحاتي أمام الشعب! ولكنّهم و الحمد لله، كان الشعب في المستوى لأنّه يُدرك تماماً حقيقة مصالح الأمن وما يمكنهم فعله. وهو يعلم أيضا طبيعة التلفزة الجزائرية وألاعيبها. وهكذا أدرك الشعب على الفور أنّه ينبغي البحث عن الحقيقة ليس من خلال تسجيل تمّ في ظروف غامضة ومثيرة للشك، وأنّ الأمر لايعدو أن يكون في الأخير مجرّد مسرحية.
لقد عُذّبتُ وعُذّب من معي طيلة شهر، إلى غاية اللحظة الأخيرة، فلم يتركوا لنا مهلة واحدة للرّاحة.
وفي اليوم الذي أُخِذت فيه إلى المحكمة، كُنت أنا وعدد من السُجناء مكبّلين بطريقة وحشية. ولم يرخو القيود حتى داخل الشاحنة التي كانت تنقلنا، وذلك لكي لا يزول عنّا هاجس التعذيب و التهديد و الرّعب. فقد كانت أيدينا مغلولة بين ساقينا ورؤوسنا منحنية إلى الأرض. لقد بقينا في تلك الوضعية المؤلمة حتى وصولنا إلى المحكمة بنهج عبّان رمضان، أين كان جيش بأكمله من الشرطة في انتظارنا، وكأنّهم يريدون إعدامنا. وحتى لدى النائب العام، فقد هددونا بإرجاعنا إلى مركز التعذيب في حالة ما إذا تراجعنا عن اعترافاتنا القسرية.
حسين عبد الرحيم لحظة وصوله إلى قصر”العدالة” بنهج عبان رمضان بالجزائر العاصمة.
ومن أجل أن يرعبوننا أكثر، فقد كان الرجال المدججون بالسلاح و الملثّمون هم وحدهم الموجودون في المحكمة. وعند مثولنا أمام قاضي التحقيق، تركونا مكبّلين وأرادوا أن يدخلوا معنا. ولقد احتفظنا بالدور الذي أُسند لنا ظلما خوفا من أن نُعاد إلى مركز التعذيب.
لقد لازمني هاجس الرّعب و التعذيب حتى في السجن. وذات يوم، استيقظت في منتصف الليل أصرخ تجاه أخي السّعيد سوسان:”تعال أنقذني! إنّهم يريدون قتليّ!” ولقد عمل السّعيد كل شيء ليهدئني. ثم جاءني الحارس وقال:”لاتخف، ليس هناك أحد يُعذكّ”.
وقد نسيت أشياء كثيرة نتيجة جروح رأسي. وكان يُغمى عليّ باستمرار، ولم أكن أستطيع أن أُميّز بين صديق وشُرطي…ولما رآني الإخوة في تلك الحالة استاؤوا. قم قال لهم رجال الشرطة:”إنّ صاحبكم أراد أن ينتحر!”
وأذكر أنني لما كنت في مستشفى عين النعجة، وعندما سأل الطبيب عما حدث لي، ردّوا عليه أنني اصطدمت بجدار! ولم أستطع أن أقول له الحقيقة خوفا من التعذيب. وعند قاضي التحقيق، تحدّثت له عن الإنتحار لنفس السبب. كنت لا أريد الرجوع إلى مركز التعذيب مرّة أخرى.
وأريد في الأخير، أن أسجّل ملاحظات فيما يخصّ معالجة القضية إعلاميا وعن الطريقة التي عولجت بها في المستشفى.
أمّا فيما يخصّ الصحافة، فإنني أتقدّم بشكوى ضدّ كل الجرائد التي لم تحاول أن تتجاوز الألعوبة التّي قُدّمت عبر التلفزة و التي قدّمتنا أمام الرأي العالم كمجرمين، وذلك قبل أن تُدلي العدالة بالحقيقة و تفصل في الموضوع.
وأتقدّم بشكوى ضدّ أطباء مستشفى عين النعجة الذين تولّوا علاجي. لقد كانت المعالجة تتم بصفة وحشية، وهؤلاء الأطبّاء لم يحاولوا ولو لمرّة أن يطلبوا من الشرطة فكّ أغلالي و السلاسل، مرميا على السرير، ويديّ مغلولة خلف ظهري.
هل هكذا يعيش الرجال؟
حكمت محكمة الجزائر الخاصة على حسين عبد الرحيم بالإعدام في مايو 1993، وأُعدِم ظُلماً رحمه الله في أغسطس 1993.
وثيقة: شهادة حسين عبد الرحيم عن فضاعة التعذيب الذي تعرّض له في قضية تفجير مطار الجزائر 1992.
L’esprit gauche est le malheur de ce monde
J’irais même jusqu’à dire que le diable est gauchiste.
Ce n’est pas encore fini, en 2016 on a met un miroir qui fait voir la gauche en droite.