ميثاق المصالحة وتخويف الجزائريين بالعودة إلى فترة الدماء
نقلا عن الدكتور رشيد زياني بقليل من التصرف.
لمَا “حتى لا ننسى” تستخدم سلاحا للتخويف والترهيب والتحذير…
قبل البارحة لاحظ الجزائريون، بدهشة وفزع، على شاشة السلطة “مادة” لم يفهموا مغزى بثها في هذه المرحلة بالذات، خاصة وأن السلطة سبق أن سنت قانونا ينزل أشد العقاب بحق كل من يتطرق إليها، حديثا أو كتابة، أو بأي وشكل من الأشكال.
“المادة” المقصودة هنا، مشاهد الرعب التي أدمت قلوب الجزائريين طيلة عقد من الزمن، نظرا لوديان الدماء التي سالت وسبغت وجه الجزائر في تلك المرحلة، والقانون المقصود هو قانون الوئام والمصالحة الذي كان يفترض أن يضع حدا للمأساة، لكنه في واقع الأمر عمق الكذب والخداع بشأنها، ورفع من مكانة سافكي الدماء واعتبرهم أبطالا أنقذوا البلاد، وأمعن في طحن الضحايا، فبعد إزهاق أرواحهم، اتهمهم بالمسؤولية فيما جرى.
ثم أغلق الملف دون فسح المجال لمجرد نقاش الموضوع بين مختلف الأطراف، بل فرض قانونا من جانب واحد، وسلطة سيف العقاب على من يتحدث فيه… ثم بعد عقدين من الزمن نزلت حصة “حتى لا ننسى” على تلفزيون السلطة، تضرب بعرض الحائط كل ما سنته من محرمات حول الخوض فيه، وراحت تبث صورة الهلع والخوف والدمار، لتصدم المواطن وتتركه يسأل، ما الذي تخفيه هذه الحصة للجزائريين، وتؤكد له في نهاية المطاف بعد انتهاء مفعول الصدمة، أن الغرض ليس محاربة نسيان الإرهاب ودمويته، وهي التي حاربت من قبل من حارب النسيان، وإنما الغرض من العودة إلى تلك الصورة المفجعة، هو كتم أنفاس المواطنين وتذكيرهم بما هي قادرة عليه إن لم يلتزم الصمت، وخروجه للتعبير عن رفضه الوضع المزري الناجم عن الفشل المدوي في تسيير شؤون البلاد طيلة عهد بوتفليقة الأربع وحتى من قبله.
لا يخفى على أحد أن ما بثه التليفزيون الرسمي أول أمس من صور “المأساة الوطنية” يعاقب عليه قانونهم المسمى “المصالحة الوطنية” نفسه، لكن لن نسمع أحدا منهم يشير إلى هذا الانتهاك المبرمج، وليس ثمة أدنى غرابة في الموضوع، عندما نتذكر، أن هذه السلطة، واضعة الدساتير، تكو دائما هي أول من ينتهكها شر انتهاك، ولنتذكر مسألة عدد العهدات!
في الحقيقة “هُمْ” سنوا قانونا (المصالحة) يعاقب كل من تحدث أو كتب أو…عن تلك الجرائم، ثم، عندما احتاجوا إلى ما يرهبون به الشعب، تحسبا لحراك محتمل منه نظرا للفترة العصيبة التي تنتظر الجزائر، استخرجوا الرعب من الرفوف، لترويع الآمنين وابتزاز المواطنين، ولا يرون مانعا في نشر ما يحرمونه على غيرهم، ولسان حالهم يقول “الدولة” دولتنا” والتلفزيون تلفزيوننا، والشعب فليشرب من ماء البحر.
وهنا أذكر أنه لما تطرق محبو هذا الوطن والمشفقون حقا على ما يتجرعه من علقم الفساد والمفسدين وجرائهم المهولة، وتحدثوا عن واجب الذاكرة والحقيقة، كعلاج أليم لكنه ضروري وفعال، بحكم التجربة، من اجل التئام الجراح، ويسهم فعلا في حل حقيقي وعادل لإنهاء المأساة، بدلا من محاولات دفنها التي باءت كلها بالفشل، والدليل أن جميع فئات المظلومين لا زالوا يطالبون بالحقيقة والعدالة، كيف تم التصدي لهم وتخوينهم.
الذين طالبوا بالحقيقة والعدالة، لم يكن بدافع الانتقام وإنما من اجل معرفة ما جرى، حتى لا تتكرر المأساة، وحتى لا يعتقد المجرم أن جريمته أفلتت من العقاب، وحتى لا يشجع مثل هذا السلوك الإجرامي، غيره على تكراره، مأمون الجانب؛ فعندما تعالت أصوات المطالبين بالحقيقة والعدالة اتهموا بإذكاء الجراح، والعمل على استدامة المأساة. والآن، كيف نسمي ما فعله التلفزيون الوطني؟ حس وطني؟
الرسالة واضحة من عنوانها، السلطة لا تريد من المواطن أن ينسى، وتريد أن تذكره بأنها قادرة على أن تفتح عليه أبواب الإرهاب وأشد، وأنها هي من تتحكم في قفل الإرهاب لمَا يخدم أهدافها، وتسن قانون السلم لما يخدرهم، أما الحقيقة والعدالة، فلا يمكن أن يصدران عن من يقوم أصلا على أنقاضهما.
التعليقات مغلقة.