عظام المسلمين الجزائريين لتصفية السكر

1٬737
جرائم فرنسا لا تنتهي في الجزائر
الجزائر، الغزو الفرنسي، الإستعمار الفرنسي

يمثل هذا النصّ المنقول عن المؤرخ الفرنسي مرسال أمري* (Marcel Emerit (1899-1985 وثيقة تاريخية تكشف عن جانب من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها المستعمر الفرنسي في حق الشعب الجزائري.

ولئن حاول كاتب النصّ تخفيف مسؤولية الدولة الفرنسية عن هذا الملف، وهو ما يتجلى في قوله “لقد وجدت في الجزائر دوما اختلافات عميقة بين الأهداف الإنسانية لدى الوزراء وأعمال السلطات المحلّية”، فإنّ الوقائع المنقولة في الوثيقة تكشف الجشع الاستعماري الغربي الذي أدّى إلى أن يدوس بلد “الثورة الفرنسية” بشعاراتها الثلاث: الأخوة والحرية والمساواة، على هذه القيم.

نشر هذا النص تحت عنوان ” استغلال عظام المسلمين في تصفية السكر”، في المجلة التاريخية المغاربية عدد 1، لجانفي/ كانون الثاني 1974، بتونس. ترجمة البروفيسور عبد الجليل التميمي.

استغلال عظام المسلمين في تصفية السكر

المؤرخ الفرنسي مرسال أمري

بعد الاستيلاء على الجزائر سنة 1830، خاب أمل الفرنسيين عندما علموا أنّ البلاد التي قاموا بفتحها مؤخرا لم تكن أرض الذهب (El dorado) كما كان ينادي بذلك دعاة التوسع المغالين. وعندما نقلت إلى فرنسا محتويات مخازن الداي وخاصة طرود الصوف، لم يبق شيء كثير لاستغلاله. وكان يجب أن يلتجئ إلى القدرات الخيالية للعثور على مواد للتصدير يمكنها أن تبرّر في الحال استيطان القوات الفرنسية في بلد بدأت المقاومة فيه تصبح عنيفة.

وبعد استقرار الفرنسيين وصل إلى ولاية الجزائر عدد كبير من الأجانب المعوزين والدين كانوا يأملون الاستفادة من الوضعية. ومن ضمن هؤلاء المالطيون والمسيحيون الذين كانوا يتكلمون لغة قريبة من عربية الجزائر، وحيث كانوا يأملون كسب عيشهم باعتبارهم الوسائط بين التجار الفرنسيين والشعب المسلم، على أنّ عمليتهم الجريئة كانت ولا شك، استغلال القبور.

عرض هؤلاء المالطيون خدماتهم على رجال الصناعة في مرسيليا والذين كانوا يحتاجون إلى فحم العظام لتبييض السكر. وقد أظهروا استعدادهم لإرسال عظام الحيوانات التي يحتاجونها. ولتستكمل حمولة البواخر بأقل التكاليف، كانوا يجمعون العظام البشرية من المقابر.

وقد نجحت العملية حتى اللحظة التي أعلمت فيها جريدة لو سيمافور دو مرساي Le Sémaphore de Marseille قرّاءها في مارس 1833 بهذه التجارة المشؤومة. ولمّا علم الطبيب سيقو Dr Ségaud بهذا الحادث، أجرة تحقيقا من تلقاء نفسه في الموضوع. وقد أرسل إلى نفس الجريدة بالرسالة التالية، حيث أحدثت تأثيرا كبيرا:

“مرسيليا في 1 مارس 1833،

لقد علمت عن طريق الإشاعات أنّ عظاما بشرية استخدمت لصنع الفحم الحيواني Charbon animal، ومدفوعا بشعور العطف على الإنسانية، أردت إقناع نفسي إلى أي درجة يمكن أن نثق في مثل هذه الإشاعات. وقد قمت بزيارة الباخرة المدفعية La bonne Joséphine بقيادة ربانها النقيب بارصولا والقادمة من الجزائر حيث كانت حمولتها من العظام. وبعد أن قمت بفحص دقيق جدا لكمية العظام الموجودة تعرفت إلى بعض منها، ثبت لديّ أنّه من النوع البشري. وقد شاهدت عددا من الجماجم والسواعد وعظام الفخذ التابعة للمراهقين الذين دفنوا مؤخرا ولم تكن خالية تماما من اللحم. وكان يجب أن لا يتساهل في مثل هذه العمليات، كما أنّ واجب السلطات المسؤولة منع الاستمرار في تجارة رفات الإنسان والتي يمكن أن تضمّ رفات زعماء فرنسيين وإفريقيين على حدّ سواء. وسوف يحصل من منع هذه التجارة عدة فوائد للمجتمع: أنّ الأخلاق والصناعة السياسية سوف تكسب مغنما كبيرا، وعليه إذا أمرنا الشعب باحترام الأموات، فإنّه سوف يظهر احتقارا أقلّ للأحياء.

طبيب فرنسي: “شاهدت عددا من الجماجم والسواعد وعظام الفخذ التابعة للمراهقين الذين دفنوا مؤخرا ولم تكن خالية تماما من اللحم”.
مرسيليا في 1 مارس 1833

إنّ معامل تصفية السكر الموجودة لدينا سوف تكون غير مهددة بشعور الاشمئزاز والكره والذي أخذ يظهر باستعمال أحد المواد البشرية لغرض الجودة. وسوف يمتد شعور الكراهية والاشمئزاز إلى بقية المدن التي تمول من مصانعنا.

وأخيرا فإنّ سياسة مستعمراتنا في الجزائر ستكون أكثر جدوى إذا كانت أكثر لطفا مع أعدائنا العرب والبدو الذين وصل إلى علمهم أخذ رفات آبائهم وسيكونون اليوم في حالة تعصب ديني يدفعهم إلى القضاء على المساجين الفرنسيين وتقطيعهم إربا إربا.

وإنّي لأرجو منكم أن تنشروا رسالتي هذه في صحيفتكم”.

وقد أمر وزير الحربية في الحال الوكيل المدني جونتيل دو بوسّي Gentil De Bussy أن يجري تحقيقا في الجزائر وأن يتخذ الإجراءات الفعالة لوقف هذه التجارة، إذا ما ثبت صحة ذلك. وقد أجرى جونتيل تحقيقا في الحوادث: “لقد أعطيت الأمر بإخلاء مخازن التجارة من العظام التي اكتشفت هناك”. كما أمر جونتيل، رئيس شرطة الجزائر ومفتش الجمارك بالقيام بمراقبة دقيقة.
وعلى أي حال لم يقم بذلك إلا باحتراز شديد حتى يتجنب الفضيحة. كما وعد بإنشاء مقابر حسب الجنسيات وبمقربة من المدينة، على أن تكون خارجة عن المناطق الحربية حتى تتفادى مضار الأعمال العسكرية، على أنّ الوزير الذي أحيط علما بذلك كتب إلى قائد القوات العامة بالجزائر آمرا إياه أن يمنع في الحال هذه التجارة التي تسيء بشدة إلى العقلية الدينية للمسلمين. على أنّه يجب عدم إشاعة العقوبات المتخذة في هذا الصدد.

كما كتب الوزير إلى الوكيل المدني طالبا منه الإلحاح على التجار ليراقبوا عن كثب مموليهم كما يهددونهم، عند الحاجة، بمنع تجارتهم كلية. أمّا مكتب المهندسين فقد أمر بإقامة أسيجة حول المقابر.

هذا وتوجه جونتيل دو بوسي إلى الغرفة التجارية بالجزائر طالبا منها أن تساعده في معركته ضد هذا الجشع الذي لا يشرف عددا من التجار. وبتاريخ 19 مارس (1833) أعطت الغرفة التجارية ردّا تسويفيا مُظهرة أسفها كيف أن الطبيب سيقو قد أماط اللثام عن هذه التجارة وقد جازف بذلك لإلحاق الضرر بمصانع تصفية السكر الفرنسية المزدهرة. كما أنّها تشك كيف أنّ المالطيين الذين جمعوا هذه العظام “قد جرّدوا من أي شعور ديني حتى يقترفوا مثل هذا الاعتداء على قبور غيرهم، بحثا عن بقايا رفاتها ليتاجروا بها”.

هذا وقد حمّلت الغرفة التجارية بالجزائر، الإدارة مسؤولية هذه الوضعية لأنها لم تقم بواجبها على الوجه الأكمل: “كانت العظام البشرية مبعثرة وبارزة على الأرض في حالة القيام بأشغال عمومية وكان من المستحيل مراقبة كل ذلك”.

أمّا حمدان خوجة الذي أخذ على عاتقه التشهير باعتداء الفاتحين وشططهم، فقد سارع بإرسال مذكرة إلى وزير الحربية الفرنسي طالبا إياه اتخاذ عقوبات صارمة، وقد دافع وزير الحربية الفرنسي بضيق وصعوبة عن هذه القضية: “إنّ مدافن المسلمين كانت على جانبي مداخل أبواب المدينة، وكان يجب عبورها لشق طرق ضرورية من جهة، ومن جهة أخرى، إيجاد محل عامّ لعمليات التدريب العسكري. وعليه كان اتخاذ ذلك الإجراء ضروريا، غير أنّه نفذ بقليل من الرعاية وبالمبالغة في الهدم بحيث أن سرعة تلك الأعمال لم تسمح بوضع حد لها في الحال.

أمّا مسألة فتح القبور، فقد أصبح من العسير عدم انتهاكها من طرف أشرار المسيحيين واليهود، حيث كانوا يترددون لأخذ الأحجار الثمينة أو العظام ليرسلوها لصنع فحم العظام بمصانع مرسيليا”، غير أنّ الوزير يؤكد أنّ هذه التجارة سوف تخضع لمراقبة أكثر فعالية وسوف يعاقَب مرتكبوها أشد العقاب إذا ما تجددت.

لم يكن للحكومة الفرنية يد في هذه الفضيحة، غير أنّ وقوع هذه التجارة المزرية يدل على قلة أخلاق رجال الصناعة بمرسيليا حينما تتعلق المسألة بالعثور على مواد كانوا يحتاجونها آنذاك، كما يدل على احتقار السلطات العسكرية وقتها لشعور الرعايا الواقعة تحت إدارتهم.

وفي سنة 1836، عندما أخذ النقيب مارنكو Marengo المرمر من أكبر قسم من مقبرة الشمال وحوّله إلى مزرعة على يد السجناء العسكريين، وجدت الحكومة الفرنسية نفسها مضطرة إلى اتخاذ العقوبات.

لقد وجدت في الجزائر دوما اختلافات عميقة بين الأهداف الإنسانية لدى الوزراء وأعمال السلطات المحلّية.

(*) مؤرخ فرنسي ولد سنة 1899 وتوفي سنة 1985، ومن مؤلفاته:

Les saints-simoniens en Algérie, 194

Pauline Roland et les déportées d’Afrique, 1945

La Révolution de 1848 en Algérie, 1949

L’Algérie à l’époque d’Abd El Kader, 1951

L’état intellectuel et moral de l’Algérie en 1830, 1954

La pénétration industrielle et commerciale en Tunisie et les origines du protectorat, 1952

Histoire de l’Algérie et du Maghreb – Études et documents 1939-1977, 2016

التعليقات مغلقة.