طرد طاغية

269

د. أكرم حجازي

ثورة الكرامة

مات والده تاركا له عربة خضار وعائلة من ثمانية أفراد تتضور جوعا وبردا. إنه محمد البوعزيزي من ولاية سيدي بو زيد، البالغ من العمر 26 عاما، الحامل لشهادة الفيزياء والعاطل عن العمل. في 17/12/20010 كان بوعزيزي على عربته يبيع الخضار لما داهمه أعوان البلدية وصادروا عربته بحجة ممارسة مهنة بائع متجول بلا ترخيص، فاحتج أمام مقر الولاية طالبا تشغيله فما كان من إحدى الموظفات إلا صفعته على وجهه في حين انهالت الشرطة عليه بالضرب المبرح، فسكب مادة البنزين على جسده وأشعل النار بنفسه. وكانت الشرارة التي أطاحت، بعد 30 يوما، بواحد من أعتى نظم الحكم البوليسية في العالم العربي ممن حاربوا الله ورسوله والمؤمنين. وعاثوا في الأرض فسادا وتجبرا واستكبارا وازدراء لله ولدين الله. وسبحان الله !!! الذي يضع سره في أضعف خلقه ويسبب به الأسباب. شاب مجهول لم يكن أحد ليسمع به فإذا هو بين عشية وضحاها حديث الناس على وجه الأرض، وعلى لسان كل زعيم ومسؤول.

الذي يعرف المجتمع التونسي والشعب التونسي يعلم جيدا أنه شعب مسالم لأبعد الحدود، شعب لم يعرف عنه العنف حتى في ظل الاستعمار الفرنسي الذي حل بتونس منذ سنة 1882 ورحل عنها سنة 1956، ولم يواجَه بطلقة واحدة قبل العام 1952. لكنه ما تخلف يوما عن الانتفاضات الشعبية الطاحنة حتى في زمن الرئيس بورقيبة.

ثمة حكاية طريفة عشنا وقائعها مع بعض الزملاء لما كنا ندرس في تونس في ثمانينات القرن الماضي. ففي يوم صيف ملتهب، بعد الظهر، كان ثمة زميلين من بلد عربي في طريق عودتهما إلى المنزل حيث يسكنان في شقة في الطابق الثالث. وقد سبق أحدهما الآخر بينما أُغلق على الثاني فصعد إلى الطابق الرابع. ولما حاول فتح الباب بالمفتاح فلم يستجب القفل، فطرق الباب فإذا بفتاتين ما بين 14 – 16 عاما من العمر تفتح إحداهن الباب، فدخل زميلنا البيت دون بصيرة وتوجه إلى ما يفترض أنها غرفته وآوى إلى سريره آمنا مطمئنا! فسارعت الفتاة وأختها إلى والدهما يخبرانه بأن رجلا غريبا دخل البيت ويرقد على السرير .. فدخل الرجل متعجبا مما يجري!! فلم يشتم ولم يزبد ولم يهدد أو يرعد ويزبد .. وما أن بادره بالسؤال عما يفعل حتى كان زميله يطرق الباب باحثا عنه، فربما يكون في غفلة أو أنه أصيب بضربة شمس لم يعد معها يفرق بين شقته وشقة جيرانه. فسارع الأب إلى الباب فبادره زميلنا بالقول: هل جاء إليكم شاب قبل قليل؟ فقالوا: نعم. إنه يرقد بالداخل على السرير. ففهم أن الأمر يكاد يصل إلى حد الكارثة .. فتعذر لصاحب البيت معللا أن الشاب فقد والديه في حادث سير وهو الآن واقع تحت تأثير الصدمة. فما كان من صاحب البيت إلا الدعاء: اللطف .. اللطف يا رب. فالتقط صاحبنا زميلنا ونزل به إلى الشقة. ولما التقيته، وأنا أعلم أنه تعرض لإغلاق في أكثر من موقف سابق، عاتبته وقلت له: ألم تلاحظ بأنك في بيت غريب؟ فقال لي: والله لقد رأيت فتاتين واستغربت من وجودهن في المنزل .. ثم نظرت إلى السرير فإذا به مرتب ترتيبا جميلا وأنيقا .. صحيح أنني شعرت أن الغرفة غرفتي لكن كل ما بها غريب لا يشبه سريري ولا الستائر ولا طلاء الغرفة .. كما أنني سألت الفتاتين من هما وماذا تفعلان هنا؟!! وما كدت ألتقط أنفاسي إلا وزميلي يطرق الباب وينقذ الموقف .. والحمد لله أن هذا الحادث لم يقع ببلدي وإلا لكانت مذبحة.

هذا هو منطق الحياة عند الشعب الذي يعرف العالم أجمع أنه مسالم ومحب ومتعقل وليس عدائيا ولا أحمقا ولا متسرعا. فلا يستطيع أحد أن يتهمه بالتطرف ولا بالعدوانية ولا بالسذاجة ولا بالتهور أو التعجل كما يرى الرئيس الليبي معمر القذافي. لكن أعجب ما في هذا الشعب أنه واضح في أهدافه ومطالبه. فإذا انتفض قدم مطالبه واضحة لا لبس فيها. وسواء كانت صغيرة أو كبيرة لا يهم. المهم أنه يجهد في تحقيقها ويظل في الشارع حتى ينال ما يريد. فلما انتفض ضد بورقيبة سنة 1984 بسبب رفع أسعار الخبز امتلأت شوارع تونس بالمحتجين من شمالها إلى جنوبها رغم أن مطالبه لم تتعدى التراجع عن الأسعار الجديدة. فخرج بورقيبة من قصره لمقابلة المحتجين وأبلغهم بأن الأسعار ستعود إلى ما كانت عليه. وما أن فعل ذلك حتى عاد الناس إلى بيوتهم وعاد الهدوء إلى البلاد وكأن شيء لم يحصل!!!

إذن شعب تونس ليس عدائيا. هذه هي الحقيقة وهذه هي السمة الغالبة عليه. لذا لم يكن أحد يتوقع أن تؤدي الاحتجاجات الجديدة إلى الإطاحة بالرئيس بن علي. لكن الحقيقة البالغة الدلالة أن هذه الانتفاضة ما كان لها أن تحدث بهذه القوة لولا أن بلغ السيل الزبى. فقد كذب صاحب 7 نوفمبر، يوم عزل بورقيبة، وقال في بيانه التاريخي: « لا رئيس مدى الحياة »!!! وكذب مرات ومرات، وبدأ حملة بطش ضد المجتمع وضد الدولة وضد القوى السياسية وضد القوى الاجتماعية وضد الأفراد والجماعات وضد الدين وضد الإسلام برمته وضد الإعلام وضد المؤسسات التعليمية والعلمية وضد الحريات وضد الأخلاق وضد الحقوق. لكنه كان أشد وأنكى في انتهاكه للكرامات البشرية وللحرمات حين اغتصب عفة النساء ورجولة الرجال وسحقها سحقا مريعا، في مشاهد مذلة ومؤلمة ومشينة، أمام الأهل والذرية، وفي الشريعة والقانون، حتى أن الانتفاضة بدت شبه خالية من العنصر النسائي.

صحيح أن الشرارة كانت اقتصادية لكن عمق الفعل لم يكن له أية علاقة بالخبز ولا بالتشغيل بل بالكرامة. فكان أبلغ شعار رفعه التونسيون هو: « بن علي يا جبان .. تونس تونس لا تهان». وبدا أنه آن الأوان لتصفية الحساب مع « عصابة المافيا» التي حكمت تونس بحسب وثائق الويكيليكس. عصابة لم تدرك الكرامة ولم تعرف لها طعم ولا معنى في يوم من الأيام، فكان سهلا عليها أن تمارس ليس السرقة فحسب ولا السطو على الحقوق ولا مصادرتها بل النهب المنظم لمقدرات البلاد ومصادرتها، وإذلال العباد دون النظر في المحرمات، وممارسة الغطرسة والاستعلاء والتمييز وإشاعة المحسوبية والفساد بلا حسيب أو رقيب، وممارسة التعذيب الفتاك في السجون والمعتقلات، وانتهاج القتل العمد بلا أي رادع، وتهجير الناس خارج بلادهم، ومطاردة من في الداخل على مدار الساعة والدقيقة، ومحاربة الدين والإسلام وازدرائهما بلا هوادة، وإشاعة الفاحشة والانحراف الخلقي بين الناس بأبشع صور الرذيلة وأشدها انحطاطا، وجعلها من أبرز شروط الحداثة والتقدم وشهادة براءة من التخلف وعلامة على السلوك الحسن! حتى اتخذ بعض الناس من المجاهرة في المعاصي وارتكاب الفواحش على مرأى الحاكم وسائل ناجعة للتخلص من مضايقات السلطة وظلمها.

ليس عجيبا أن تنتفض تونس وتفاجئ العالم أجمع، بل أنها فاجأت بن علي نفسه، وفاجأت القوى السياسية والاجتماعية، وفاجأت المحللين والمراقبين، وكشفت عن عمق الشخصية التونسية وشجاعتها الفذة وإصرارها على تحقيق أهدافها حتى لدى التونسيين أنفسهم. لكن العجيب حين تدير الثورة ظهرها لكل هؤلاء بحيث يتقدم الشعب .. كل الشعب لتكون له كلمة الفصل بعيدا عن أية وصاية من أية جهة كانت. إنه حقا تدخل اجتماعي أسقط كل الحسابات والمعايير والآليات والأدوات التقليدية، بل أنه أسقط كل المناهج ونظريات التغيير الحزبية والأيديولوجية والوضعية التي ثبت بؤسها، وأسقط كل وصاية أو تدخل من الخارج، وأسقط فتاوى طالما روجت لسيادة الطغاة والطغيان بقصد أو بدون قصد.

الطاغية والطغيان

قالوا عنه، كما قالوا عن غيره وما زالوا يقولون، إنه ولي أمر تجب طاعته .. وصدعوا رؤوس الأمة بفتاواهم الظالمة بعدم جواز الخروج على ولي الأمر حتى لو أكل مالك وجلد ظهرك!!! حتى لو كان فاسقا أو ماجنا أو مجرما أو حتى مرتدا .. نادوا بالوحدة الوطنية بدلا من الفتنة، وبالمواطنة بدلا من التمييز، وبالعيش المشترك بدلا من الاقتتال، وأفتوا بأن عصمة الدماء أولى من سفكها، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع. ولما كان في قمة السلطة برؤوه من كل نقيصة، وأسبغوا عليه الشرعية الدينية والمشروعية السياسية والقانونية، وأثنوا عليه، وأنكروا ظلمه وإجرامه وطحنه للإسلام والمسلمين، ونهبه لثروات الأمة .. ولما فرّ من البلاد وصفوه بـ « الطاغية »!!! و « سفاك الدماء»!!! سبحان الله! لأول مرة نسمع عن حاكم « طاغية» كان قبيل لحظات « ولي أمر» ثم ثبت فجأة أنه « سفك الدماء»!!!

هكذا ببساطة سقط الطاغية بلا صناديق اقتراع .. وبلا فتن .. وبلا خوف على شماعة الوحدة الوطنية .. وبلا فتاوى منحرفة وفارغة من أي سند شرعي .. سقط الطاغية رغم أنف الجامية والمرجئة .. سقط الطاغية رغم أنف وعاظ السلاطين .. سقط رغم أنف المناهج السلمية والديمقراطية في التغيير.. فقط سقط .. فأي فتوى ظالمة ستعيده؟ وأي انتخابات ديمقراطية ستأتي يه؟ وأي حاشية ستنتصر له؟

تُرى! ما قول أمثال هؤلاء اليوم وقد خرجت أمة بحالها على « ولي الأمر»؟ ما حكم هؤلاء الناس؟ هل هم « خوارج» و « صناع فتن»؟ أم أن ما فعلوه موافقا للشرع؟ أم أن فقههم عاجز عن الفتوى؟ ما حكم أولياء الأمور المماثلين لبن علي وهم أوضح من الشمس في رابعة النهار؟ ما هو حكم من يستقبل طاغية وقد رفضه حتى أخلائه من الغرب واليهود؟!!!! ما حكم من يعين طاغية على طغيانه ويشرع له؟

في 11/4/2009 كتب الشيخ سلمان العودة مقالا في أعقاب زيارة قام بها لتونس واستقبله خلالها الرئيس بن علي. وفي حينه لاقى المقال عاصفة من الشجب والاستنكار من التوانسة وغيرهم من المسلمين الذين عايشوا مظلمة هذا الشعب وكنت واحدا منهم. وعجبت كل العجب أن يكتب العودة بهذا الاستخفاف بالعقول رغم الدماء المسفوكة والجرائم الوحشية والحرب الطاحنة ضد الإسلام وكل مظهر إسلامي في تونس، بل أنني حين عدت إلى تونس سنة 1999 لمناقشة رسالة دكتوراه عن: « المسألة الإسلامية في فلسطين المحتلة سنة 1967 » لم أحمل معي إلا نسخة واحدة وقرص CD أخفيته خشية مصادرة الرسالة من الأمن التونسي في المطار.

ثم يأتي الشيخ سلمان ليكذبنا بما عشناه وشاهدناه حين يقول: « زرت بلداً إسلامياً, كنت أحمل عنه انطباعاً غير جيد، وسمعت غير مرّة أنه يضطهد الحجاب، ويحاكم صورياً، ويسجن ويقتل، وذات مؤتمر أهداني أخ كريم كتاباً ضخماً عن الإسلام المضطهد في ذلك البلد العريق في عروبته وإسلاميته. ولست أجد غرابة في أن شيئاً من هذا القيل حدث ذات حين؛ في مدرسة أو جامعة, أو بتصرف شخصي, أو إيعاز أمني, أو ما شابه .. بيد أني وجدت أن مجريات الواقع الذي شاهدته مختلفاً شيئاً ما ؛ فالحجاب شائع جداً دون اعتراض، ومظاهر التديّن قائمة، والمساجد تزدحم بروّادها من أهل البر والإيمان، وزرت إذاعة مخصصة للقرآن؛ تُسمع المؤمنين آيات الكتاب المنزل بأصوات عذبة نديّة، ولقيت بعض أولئك القرّاء الصُّلحاء؛ بل وسمعت لغة الخطاب السياسي؛ فرأيتها تتكئ الآن على أبعاد عروبية وإسلامية، وهي في الوقت ذاته ترفض العنف والتطرف والغلو، وهذا معنى صحيح، ومبدأ مشترك لا نختلف عليه».

وحده رأى العودة وأمثاله ما لم تره أمة .. بل أمم .. وحده من قال خلال انتفاضة تونس أن « الأمن مقدم على الإيمان والتوحيد »!!! قول استفتيت به عالما عربيا كبيرا، حين كنت في الكويت، فقال لي: « هذا يخرجه من الملة». وبعد سقوط الطاغية كتب يقول مخاطبا الحكام: « أطعموا شعوبكم قبل أن تأكلكم ! إن لقمة الخبز، وثورة الجياع قضية معروفة من عهد مصر الأولى إلى تونس نفسها التي تشهد شيئاً مشابهاً إلى كثير من الدول الأوربية التي عاشت مثل ذلك»!!! حتى هذه اللحظة يظنها العودة كسرة خبز .. وأنّى له أن يظن غير ذلك؟

مثله الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والذي أصدر بيانا في 13/1/2011 وجه فيه النصح إلى الجهات الآتية .. حيث خاطب فيه الرئيس بصفة السيد: « أولا: إلى رئيس الدولة السيد زين العابدين بن علي »! وبعد إزاحته تغيرت اللهجة فوصفه بـ: « الصنم الأكبر هبل»، الذي يجب أن تسقط معه: « بقية الأصنام المحيطة به من اللات والعزى، وبقية الخدام الذين ينتمون للنظام الذي عانى منه التونسيون سنوات طويلة»!!! اليوم صار بن علي طاغية وبالأمس كان سيدا وولي الأمر!!! ُترى! ما رأي القرضاوي بما سبق للعودة أن قاله خاصة وأنه أحب الناس إلى قلبه من علماء السعودية؟

وفي أعقاب انتزاع السلطات الليبية لمراجعات من بعض معتقلي الجماعة الليبية المقاتلة، وصدرت مؤلفها الضخم الذي خلا من أية آية من آيات الحاكمية، أفرجت عن 214 معتقلا قيل أن من بينهم بعض القيادات في الجماعة. وسارع الشيخ راشد الغنوشي أمين سر حركة النهضة في تونس لإصدار بيان فيه تهنئة ( نشر في 27/3/2010) قال فيه إن: « حركة النهضة إذ تسجل بارتياح كبير هذه البادرة الطيبة، لا يسعها إلا أن:
• تحيي حكمة القيادة الليبية في تناول الملف ومعالجته من خلال الحوار الذي يؤدي إلى استعادة أبناء الوطن ودمجهم من جديد في خدمة بلدهم، مواطنين نافعين.
• تحيي د. سيف الإسلام القذافي على ما يبذله من جهد في المساهمة في معالجة الأزمات التي مرت بها ليبيا وترجو له التوفيق في مشروعه الإصلاحي بما يجمع كل الليبيين بمختلف مشاربهم على خدمة بلدهم، بمنآى من كل منزع إقصائي وانتقامي بالمخالف.
• تدعو السلطة في تونس إلى التخلي عن مقاربتها الأمنية العنيفة والإقصائية للتيار الإسلامي التي تعتمد سياسة الانتقام والتشفي بدل العلاج بالحوار وإعادة الإدماج».

ما شاء الله!!! .. ما شاء الله!!! أما وسع الشيخ من الحقائق إلا أن يخلع صفة « حكمة » على القيادة الليبية التي لم يسبق أن سمع عنها حتى مواطن عربي واحد منذ اعتلى القذافي السلطة في ليبيا؟ ها نحن نسمعها، للأسف، من الشيخ الغنوشي. والحقيقة أن تصريح الشيخ ذكرني بتصريح سبق وأدلى به سامي أبو زهري، الناطق باسم حركة « حماس»، لما رفع مجلس العموم البريطاني، قبل سنتين، توصية إلى الاتحاد الأوروبي لفتح حوار مع حركة « حماس»، فما كان من أبو زهري إلا أن وصف التوصية بـ: « الموقف الحكيم لبريطانيا » .. « حكمة » لعلها غابت عن بريطانيا حين أصدرت وعد بلفور سنة 1917 وسلمت، بموجبه، فلسطين لليهود، وحضرت فقط حين فتحت شهية « حماس» للحوار مع أوروبا!!! فماذا يكون رأي الشيخ، وهو المفكر الأكثر « حكمة » بين زملائه ومشايخ الإسلاميين، حين استمع وشاهد الرئيس الليبي وهو يصب جام غضبه على الشعب التونسي الذي لم ينتظر حتى سنة 2014 للتخلص من الرئيس بن علي؟ ويتمنى لو أن بن علي ظل رئيسا مدى الحياة؟ وماذا يقول عن دور المخابرات الليبية وهي تؤمن الغطاء الاستخباري والميداني لفرار بن علي وعودته لاحقا؟

أحمد الريسوني مع الشيخ العودة، عرّاب الثناء على المراجعات الليبية، يشيد، بقدرة قادر، بثورة الشعب التونسي على الطاغية الذي فعل الأفاعيل بدين الله!!! بينما يصف « الشباب المجاهدين» في الصومال بـ « الشباب المجانين»!!! لا بأس! لكن ماذا لو نجح هؤلاء « المجانين» بتولي السلطة في الصومال؟ هل سيحظون من الريسوني بتهنئة تنقلهم إلى مرتبة العقلاء؟ وهل سيغدو شيخ شريف فجأة الطاغية الذي والى الصليبيين وتحالف معهم؟

كنت في مؤتمر العلاقات العربية – التركية في الكويت لما سقط بن علي .. وشاهدت العجب العجاب والناس، رجالا ونساء، يتسابقون على التقاط الصور التذكارية مع هؤلاء!!! لكني والله ما طاوعتني نفسي أن أسلم على أحد منهم أو ألقي عليه التحية لقاء ما ظلموا أنفسهم وظلموا الأمة وخذلوها وضللوها حتى إذا ما انتزعت حريتها وحقوقها بيدها تسابقوا على التهنئة!!! وهم أنفسهم وأمثالهم الذي يصمتون على الجريمة التي تُرتكب اليوم بحق الإسلام والمسلمين في مصر على يد النظام والليبراليين والزنادقة وعصابة شنودة. وهناك التقيت بعض كبار علماء المسلمين من السودان وعاتبتهم على مواقف بعض العلماء وفتاواهم، وقلت لهم: نحن مفكرون ومحللون ولسنا علماء دين، وكلمتكم أقوى من كلمتنا وأولى .. لكننا اضطررنا للتصدي للهجمة على الإسلام ولأحط الفتاوى لأننا لم نجد من العلماء من يرد حتى على الزنادقة إلا قليل من قليل لا يكاد يُذكر أو يُسمع له صوتا، وسردت له سلسلة من فتاوى « طبيخ النور» فكان يستعجب مما يسمع وأعجب لعجبه، ويخبرني بالحكم الشرعي الصحيح .. فيشتد عجبي أكثر!!!

أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر .. التونسيون .. كل التونسيين قالوا كلمة الحق لما تخلى عنها هؤلاء فصمت بعضهم، وانزوى بعض آخر، وشرَّع آخرون للسلطان جوره وبطشه حتى بدا وكأنه إله يعبد من دون الله .. لا يُسأل عما يفعل وغيره مسؤول عن نسمة هواء في قعر كهف. وبعد رحيل بن علي قال بعض علماء الأزهر بأن: « طاعة الحاكم ليست على إطلاقها في الشريعة الإسلامية » وأن ما حصل في تونس « أقرب إلى الشرعية ».. مثل هذه الفتاوى لم تكن لتظهر من قبل، لكنها اليوم بعض الحديث، وبعض الحقيقة الشرعية، وبعض الشجاعة .. ولو كان ثمة قدر من الرقابة أو بعضا من كلمة الحق عند سلطان جائر لما وصلنا إلى هذا الحد من الطغيان ولما تفشى هذا الكم الهائل من الطغاة وممن يدافعون عنهم بلا وجه حق.

فلماذا، إذن، لا يتقدم العلماء ويعترفون بطغيان الحكم في العالم العربي؟ لماذا لا يتحدثون عن الجريمة التي ترتكب بحق الأمة إلا بعد فوات الأوان؟ لماذا لا يتحدثون عن الطغاة وظلمهم إلا بعد انتزاعهم من كراسيهم؟ لماذا لا يرون في هؤلاء الطغاة إلا أولياء أمور تجب طاعتهم؟ هل يختلف الأمر في تونس عنه في ليبيا أو مصر أو الجزائر أو اليمن أو غيرها من البلدان العربية؟ بالتأكيد لا يختلف. لكن حين يكون ولي الأمر على رأس السلطة فهو حاكم شرعي، والخروج عنه فتنة ومعصية وضلال مبين .. أما خارج السلطة فهو طاغية منبوذ تخلصت الأمة منه وتستحق التهنئة. أية معادلة هذه؟ وما قيمة التهاني وقد امتنع هؤلاء، إلا من رحم الله، عن قول الحق وشرعوا للباطل والظلم من قبل؟ ومن يتحمل وزر من حرق نفسه وقد نأى مَنْ هو أولى منه بنفسه عن قول كلمة الحق والصدع بها حين الحاجة إليها؟

بالأمس حرق بوعزيزي نفسه في تونس، ثم تبعه أربعة في الجزائر وواحد في موريتانيا وآخر في مصر. فلماذا يضطر شباب المسلمين إلى حرق أنفسهم؟ ولماذا يحتجون ويُغلَق عليهم بأقسى أنواع الاحتجاج وأشده ظلما للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق؟ ولماذا لم يعد ثمة ثمن للوصول إلى العدالة والحقوق والحرية إلا بحرق النفس أو السجن أو المطاردة أو النفي أو الاعتداء على الكرامة والابتزاز في الحياة والأرزاق؟ هل يرغب المسلمون في الموت دون غيرهم من الخلق؟ هل لأننا نكره الحياة؟ هل لأننا جهلاء لا نعرف الحكم الشرعي؟ بلى . إننا نعرف كل شيء لكنه الإغلاق التام. كل الطرق أوصدت إلى من الحرق !!!! أحرق الله قلب كل ظالم عنيد متجبر .. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أخبث المؤامرات

بدأت حركة الاحتجاج الشعبي بتونس تتضخم بشكل سريع لم تترك للحكم مجالا لأي تفكير. لكن الحكم الذي اعتاد القتل أصلا، واتخذ القمع والاضطهاد دينا له، لم يتوانى عن ممارسة القتل العشوائي والمنظم عبر فرق القناصة التي نشرها في كل زاوية. لم يكن الشعب التونسي من بدأ القتل، ولم يكن التونسيون ليمارسوه، فالنظام هو الذي سفك الدماء المعصومة وهو الذي استباح الحياة.

حين بدأت الانتفاضة كانت المطالب الأولى تتعلق بتوفير فرص العمل لتشغيل العاطلين خاصة ممن يحملون شهادات جامعية. ثم في مرحلة لاحقة تطورت إلى الحديث عن ظلم في توزيع الثروة والدخل بين الشمال الساحلي الغني والجنوب المهمش، لكن احتجاجات الشمال قالت بأن الحال من بعضه، فليس الشمال بأقل ظلما من الجنوب. وهكذا صارت المطالب ذات طابع شعبي تتعلق بالتنمية الشاملة. لكن المطلب الأهم الذي فجر الغضب المكبوت في صدور التوانسة كان يقع في مضمون الشعار الذي طالب باستعادة الكرامة المهدورة. وتبعا لذلك لم يعد من الممكن بقاء الرئيس في السلطة. هنا استفاق بن علي و« فهم» مطالب الناس على حد قوله، لكنه « فهم» أكثر أن الأوان قد فات. وبعد رحيله المخزي من البلاد صارت المطالب تؤول إلى تصفية إرث الرئيس من اقتصاد وأمن وحزب شمولي ونظام سياسي. هكذا بدت الاحتجاجات التونسية تتخذ شكل ومحتوى الثورة الشاملة التي تسعى لاقتلاع جذري لكافة القوى المادية والمعنوية للنظام السابق ومن يدور في فلكها.

حين بدأت الانتفاضة أيضا كادت الأوضاع تنفجر في كل من الجزائر وليبيا وموريتانيا. وكان الغرب والولايات المتحدة يدركان أن الأمور قريبة من الانفلات الشامل في المنطقة. وإذا حصل هذا سيعني انفلاتا في كافة الدول العربية.

الرائج أن بن علي هرب مهزوما مدحورا، وأنه لم يجد من يؤويه لا من الأوروبيين ولا غيرهم من العرب. ولسنا نعارض ذلك مبدئيا. فلطالما تخلى الغرب والطغاة عن أدواتهم. لكن هذه التصريحات ليست سوى ما نقله الإعلام الغربي والمحلي. أما التبصر في الواقع فيفصح عن أمور بالغة الخطورة على مستقبل الثورة التونسية وليس على وقائعها الماضية.

فالمعلومات المتداولة في ضوء التسريبات وردود الفعل والبيانات الرسمية والتصريحات ذات الصلة والوقائع الميدانية تؤكد على مؤامرة دنيئة وخبيثة جرى تنفيذها على مسارين في تونس قبيل مغادرة بن علي التي كانت محسوبة بدقة بالغة. مسار النظام السياسي البائد والمدعوم عربيا، ومسار القوى الغربية وفي مقدمته فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.

بالنسبة لمسار النظام فقد بدا بن علي متحسبا مسبقا لقادم الأيام. فأعد عدته الميدانية والقانونية على قدم وساق، ونهب ما نهب في اللحظات الأخيرا تحسبا من خروج بلا عودة. وقبل أن يغادر البلاد سلم زمام الأمور للوزير الأول محمد الغنوشي لولا احتجاجات القانونيين والناس على عدم دستورية المادة 56 التي تَسلّم الغنوشي بموجبها رئاسة الدولة وهو يعلم علم اليقين بخطأ فعلته من الناحية الدستورية التي تقضي بتسلم رئيس مجلس النواب مهام الرئيس في حالة شغور منصب الرئاسة بموجب المادة 57.

ومع ذلك فالسيناريو واحد خاصة أنه يحيل الفراغ إلى الدستور بحيث تظل تونس حبيسة النظام القائم ورموزه، وحبيسة الدستور المعمول به والذي يستثني القوى المحظورة كحركة النهضة من أية مشاركة في الحكم حتى خلال الفترة الانتقالية المقدرة بـ 45 – 60 يوما، ستكون كفيلة بعودة الهدوء إلى الشارع تمهيدا لعودة الرئيس الذي اعتبر بيان الغنوشي غيابه « مؤقتا»! بل أن بعض الأنباء تقول بأن الرئيس سجل خطاب العودة قبل رحيله، وحتى قبل خطابه الأخير.

لكن ما لم يستطع الغنوشي إنجازه جرى التحضير له ميدانيا بمساعدة من أجهزة أمنية عربية ليست مصر ولا ليبيا ولا حتى السعودية فضلا عن دول المغرب العربي ببعيدة عنه. فحين كانت الانتفاضة على أشدها في تونس كان الضحايا يسقطون تباعا. مع ذلك خرج الرئيس التونسي ليتهم بعض «الملثمين والمندسين» بين الناس ممن يقومون بعمليات القتل والتخريب، واصفا إياهم بـ « الإرهابيين». والحقيقة أنه لم يكذب أبدا. لأن هؤلاء هم من ميليشياته في الحزب الحاكم (التجمع الدستوري) الذين سلطهم على الناس ليعيثوا في الأرض فسادا، ويكون له ما يبرر تدخله الدموي ضد السكان. ولأن الأمر خرج عن السيطرة فقد اضطر للمغادرة دون أن يتخلى عن طموحاته في العودة تاركا هؤلاء وأجهزة الحرس الوطني والأمن الرئاسي ورموز سلطته وحتى بعض أقربائه يعملون بكامل فاعليتهم، ومدعومين بما يحتاجونه من أسلحة، و 800 سيارة تجوب شوارع البلاد وهي محملة بالرعب والدمار تحت قيادة الجنرال علي السرياطي.

من جهتها فقد ساهمت دول المغرب العربي وخاصة ليبيا في مشروع النظام مساهمة فعالة حتى أن الرئيس الليبي لم يستطع كبت غضبه من فشل المخطط المعد مسبقا. وهو الموقف الذي كظمته دول المغرب الأخرى التي صمتت صمت القبور، ليس لأنها تنتظر ما ستنتهي إليه الأمور لتعبر عن مواقفها بل لأنها تتميز غيظا مما انتهت إليه. ومن جهتها فإن السعودية تعلم علم اليقين هي وعلماؤها، الذين صمتوا كالعادة، أنه ما من أحد أشد عداء للإسلام وحربا عليه كما الرئيس بن علي، ومع ذلك فقد استقبلت رئيسا مخلوعا ومطرودا من كل الشعب التونسي وليس من جزء منه. ولم يعد ثمة معنى لهذا الاستقبال إلا أن تكون السعودية ضالعة حتى النخاع في حماية بن علي وتأمين عودته وإسباغ الشرعية على حكمه لأن هروبه إلى ليبيا أو الجزائر لن يمنحه الشرعية التي تنتظره في السعودية. أو أن يكون ما تفعله أو تصدره من مواقف ليس إلا طغيانا يستخف حتى بمشاعر البشر فضلا عن إهانة الشعب التونسي ومصادرة انتصاره.

لكن، وكما يقولون فإن حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر، فقد عملت القوى الغربية بوحشية لا مثيل لها لوأد ثمار الثورة التونسية في مهدها. فالفرنسيون أبدوا استعدادهم لتقديم العون للسلطة، والمعلومات المتداولة تؤكد بأن الجيش الذي كان قائده، رشيد عمار، ضالعا في إجبار الرئيس بن علي على مغادرة البلاد ليست سوى نتيجة لتدخلات أمريكية خاصة وأن الجيش هو الذي مكن بن علي من مغادرة البلاد قبل إغلاق الموانئ الجوية والبرية والبحرية بنحو ساعة من الزمن. وفي تصريحات لقناة الجزيرة قال أحمد الخضراوي الضابط التونسي أن قائد الجيش قبل إقالته من منصبه: « تلقى تعليمات في أخر لحظة من الولايات المتحدة من خلال سفارتها بأخذ زمام الأمور في البلاد إذا خرجت الأمور عن السيطرة»، وأنه: « يستند في ذلك على وثائق بين يديه وهو يتحمل مسئولية هذه المعلومات ويجزم بها».

لا يهم. المهم أن الغرب كان يشعر، لأول مرة في تاريخه، بحجم الخطر الداهم وهو يتهدد المنطقة من كل جانب وسط احتقانات شعبية وصلت أوجها في أغلب البلدان العربية خاصة في مصر. فالاحتجاجات التي اندلعت شرارتها في تونس تبعتها احتجاجات عنيفة في ليبيا والجزائر، وأخرى كانت تنذر بالانفجار في موريتانيا. لذا فقد بلغت عمليات الاستنفار الرسمي حالاتها القصوى، وأعيد النظر في كافة إجراءات السيطرة والتدخل بأسرع ما يمكن. فما الذي فعله الغرب بالضبط؟

لأن الحريق في تونس قد بلغ ذروته فقد كان أول إجراء اتخذه الغرب مع مخابراته وأجهزة الأمن المحلية يقضي بوجوب (1) تأمين عزل تام لتونس عن جوارها بأسرع ما يمكن من العمل. ثم (2) الدخول في سباق مع الزمن لإطفاء حريق الجزائر وليبيا وهو في بدايته. وبالفعل فقد هدأت الساحتين، عبر بعض الإجراءات المحلية من السلطات، ثم في المرحلة الأخيرة (3) التمهيدا لإخراج الرئيس بن علي من تونس. لأنه لو خرج في نفس الوقت الذي تجري به الأحداث في الجزائر وليبيا لكان من المستحيل إقناع الناس بالعودة إلى بيوتهم أو ترهيبهم أو إنقاذ أي نظام في المغرب العربي، ولكان من المستحيل أيضا التكهن بما قد يفضي إليه الأمر في باقي الدول العربية.

مؤامرة من أخبث ما يتصوره العقل البشري. وفرصة عظيمة للأمة لم تحدث، بهذه القوة والمشروعية، منذ انهيار الخلافة، فجرها أكثر الشعوب العربية وداعة، وكادت أن تكون أقوى لحظة للإفلات من قبضة الغرب الذي استطاع وأدها في مهدها وجعلها يتيمة كحال سابقاتها. أما لماذا نجح الغرب؟ فلأن الأمة محرومة من أدوات القوة الاجتماعية والسياسية، ومن أدوات التنظيم، ومن أدوات السيطرة في اللحظات التاريخية الحاسمة، ومن أدوات الاستثمار. لذا فإذا كانت الثورة التونسية قد أثبتت أن الأمة ذات حيوية عالية وطاقة جبارة باستطاعتها الإطاحة بأعتى القوى الطاغوتية إلا أن ثوراتنا واحتجاجاتنا وفرصنا تضيع وهي تتحول كالمال السائب يسطو عليه هذا وذاك.

كل القوى، بلا استثناء، كانت خارج الحدث، وخارج القدرة على الاستيعاب، وخارج الفعل التاريخي، وخارج الملحمة. إذ لا قيادات دينية ولا سياسية ولا تنظيمية ولا ميدانية ولا مؤسسات أهلية ولا معارضة قادرة على استثمار أية فرصة تلوح في الأفق. ولقد كان مثيرا حقا ما ذكره د. صالح الوهيبي في مؤتمر العلاقات العربية التركية في الكويت حين أشار إلى أن العالم العربي لا يمتلك من الجمعيات الأهلية أكثر من 2000 منظمة أهلية بينما تمتلك إسرائيل وحدها أكثر من أربعين ألف منظمة!!! هذا مؤشر واحد على غياب القيادة والمراقبة الاجتماعية والضبط في النظم السائدة. وهذا ما يشجع هذه النظم أن تمارس أقسى وأشد صنوف القمع والاضطهاد للمجتمع حيث لا حسيب ولا رقيب عليها. فكيف يمكن لنا وهذا حالنا أن نستثمر انتفاضة بنوعية ما أبدعه التونسيون؟ وكيف يمكن للتونسيين أن يفلتوا من السطو على ثمار ثورتهم ولو محليا؟ تلك هي المأساة وتلك هي المشكلة.

http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-258.htm

التعليقات مغلقة.