في عبقرية أهل تونس.. تفاؤل الإرادة

79

– تفاؤل الإرادة
– الاستشهادي الجديد
– بداية التحدي
– من أجل سيرة معكوسة
ثورة تونس وانتصارها حدث تاريخي بكل ما في العبارة من معنى, وتبعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية عميقة وبعيدة الدلالة، وستشغل الكثيرين لاستيعابها والتعلم منها في قادم الأيام.
وثورة تونس أيضا, حدث إنساني بامتياز وليست حدثا تونسيا أو حتى عربيا بحتا, ولهذا فتبعاتها وتأثيراتها ستكون حتما أكبر وأبعد من حدود جغرافيا تونس الصغيرة, أو الوطن العربي الكبير.
أهم معاني هذه الثورة ربما, ولسان حال أبطال تونس ورسالة الثورة التونسية للشعب العربي أن “مصيرك بيدك” كما قال أحد أحرار العرب للفلسطينيين ذات مرة.
تفاؤل الإرادة
ليست عبقرية انتفاضة أهلنا في تونس أنها أعلنت نقضها الحاسم لفرضية موت الشعوب ونهاية عصر الثورات الشعبية فقط, بل أيضا أنها تمردت على هذه الفكرة البالية بتحديها لأكثر الأنظمة العربية استبدادا وقمعا وعجرفة، في واحد من أحلك أيام العرب.
هذا تفاؤل الإرادة في مواجهة تشاؤم العقل، الفكرة العربية الأصيلة التي كتبها بالفصحى أبو القاسم الشابي صاحب “إرادة الحياة” قبل أن يكتشفها ويكتب عنها بإسهاب منظر الإرادة وفيلسوف التمرد أنطونيو غرامشي.
تونس الرائعة كشفت, مثل مقاومة لبنان وغزة والعراق, المخزون الثوري الهائل للثقافة العربية, فمصير الطاغية بن علي بالسقوط والهروب كخفافيش الليل كان نقشا بالعربية الفصحى يوم كتب الشابي أن لا محالة في خضوع القدر لإرادة الشعوب.

عبقرية انتفاضة أهل تونس أنصفت الإنسان المضطهد المتهم بالتخاذل بكشفها لعورات النخب الثقافية والسياسية من اليمين ومن اليسار، وأزمة مشاريعها في كل أوطان العرب
“لم يمت الإنسان, ولم تمت الشعوب ولم يخرجوا من التاريخ. مصيرهم بيدهم. هكذا كتب أهلنا في تونس بدمهم. وهذه الفكرة المهترئة عن موت الشعوب التي أريد منها نشر الإحباط وبث التشاؤم بين شعوب الأرض عامة, واستهدفت العرب وبعنصرية خاصة, سقطت في تونس.
فمهما كانت معطيات الواقع الاستبدادي المظلم وتفاصيله المحبطة في أي من أوطان العرب تبعث على التشاؤم, تشاؤم العقل, يمكن لشهيد من طراز البوعزيزي أن يفتتح عهدا جديدا, ويمكن لمقاوم عنيد أن يصنع التاريخ, ويمكن لمتمرد صلب أن يقلب المعادلات كلها.
هذا تفاؤل الإرادة, تفاؤل الاقتناع المطلق بقدرة البشر على التغيير وأولوية الفعل الإنساني الجمعي على استبدادية المؤسسة وتسلطها.
عبقرية أهل تونس أعادت الاعتبار لهذه الفكرة الإنسانية والعربية الأصيلة بحتمية انتصار الإرادة على استبداد وقهر المستعمر الداخلي الذي حول الوطن إلى مزرعة للطاغية والدولة إلى وسيلة لعائلته, وحول العمل السياسي والشأن العام لنشاط مافيوي بامتياز.
عبقرية أهل تونس كذلك, فضحت نفاق المستعمر الخارجي الراعي للطاغية الداخلي وعرت ازدواجيته الفظة وزيف دعايته وعنصرية رؤيته. ففي تونس انكشف زيف لسان الغرب المشقوق الذي ينقط عسلا وسما.
وفي تونس أيضا سقطت بالدم عقيدة المحافظين الجدد الاستشراقية العنصرية عن عجز العرب عن التغيير لتجعل من غزو الرجل الأبيض لأوطاننا وتغييرها بتدميرها مهمة خيرية نبيلة.
وعبقرية انتفاضة أهل تونس أيضا أنها أنصفت الإنسان المضطهد المتهم بالتخاذل بكشفها لعورات النخب الثقافية والسياسية من اليمين ومن اليسار، وأزمة مشاريعها في كل أوطان العرب وعجزها عن اللحاق بالمواطن والتعبير عنه وعن همومه.
فمن تخاذل كل هذا الوقت من العرب هي نخبهم التي رضي بعضها في كل مكان، لعب دور “الكومبارس” في مسرحية معارضة سمجة تديرها مؤسسات القمع والاستبداد.
لم يكن الإنسان العربي في تاريخنا المعاصر أكثر حياة وحيوية مما كان عليه أبطال شعب تونس في ثورته الرائعة. فلقد انتفض وحده, عار من كل شيء إلا تفاؤل الإرادة في واقع مستبد، صادر الطاغية فيه الخبز والكرامة, فانتصر وكذلك شكك، بل أسقط كل النماذج النظرية والأفكار السائدة البائدة الآن, التي جعلتنا ننتظر الثورة في أمكنة أخرى بأساليب مختلفة.
انتفض الإنسان في تونس وفاجأ نخب العرب الثقافية والسياسية ليذكرها بما نسيته أو تناسته من أن الإنسان وحده يصنع التاريخ، وأن تشاؤم العقل ليس إلا تغييب الإرادة.
وثورة تونس الرائعة تنتمي لذلك النوع الفريد من الثورات العظيمة التي شككت في أبسط مسلمات الفكر والفلسفة وهددت أبسط مسلمات السياسة والتوازنات القائمة, تماما كثورة البلاشفة في روسيا والثورة الإسلامية في إيران.
فعن الأولى قال فيلسوف الثورة والتمرد أنطونيو غرامشي إنها كانت ثورة حتى على فكر مؤسس الاشتراكية ماركس البنيوي (الذي يزعم بأولوية البنى الاجتماعية والاقتصادية وثانوية الفعل الإنساني).
والثانية, الثورة الإسلامية في إيران, التي كانت باستنادها إلى ما في الفكر الإسلامي من طاقة ثورية هائلة “أول تمرد عظيم على الأنظمة العالمية” كما رأى فيلسوف رفض الطاعة ميشال فوكو.

عبقرية ثورة تونس أيضا أنها تسلح كل مشاريع الثورة المستقبلية في الوطن العربي بنموذج ثوري جديد ونموذج مقاوم جديد
“وثورة تونس, تماما مثل الثورتين, البلشفية في روسيا والإسلامية في إيران, كانت فريدة. فكل هذه الثورات لم تسقط أنظمة مستبدة فقط, بل أسقطت ما ساد من أفكار ونظريات عن الثورة والمجتمع والتاريخ والإنسان.
ومثل الثورتين ثورة تونس، باعتبارها فكرة غير محصورة بجغرافيا ولا مجتمع، بل يبدو أن من تبعاتها أنها “قد تشعل النار في كل المنطقة, تقلب الأنظمة غير المستقرة وتهدد أكثر الأنظمة استقرارا” كما قال فوكو عن الثورة الإسلامية في إيران.
كذلك, ثورة تونس مثل باقي الثورات الشعبية أعادت الاعتبار لمركزية الفعل الإنساني في التاريخ وأولويته على المؤسسة, وأعادت الاعتبار للإنسان. هذا تفاؤل الإرادة الذي يتحدى كل نظرية تنتج تشاؤم العقل.
الاستشهادي الجديد
عبقرية ثورة تونس أيضا أنها تسلح كل مشاريع الثورة المستقبلية في الوطن العربي بنموذج ثوري جديد ونموذج مقاوم جديد.
فربما لم يعرف البطل المظلوم محمد البوعزيزي أنه بثورته على القهر والاستبداد, وأنه بإشعاله النار في جسده سيكون الشرارة التي ستشعل النار في عروش المستبدين والطغاة الذين ارتجفت فرائصهم رعبا لمشاهد البطولة التونسية.
ربما لم يعرف هذا الاستشهادي من الطراز الجديد أن جسده المشتعل سيحرق معه كل توازنات السياسة القائمة على القهر والمؤسسة على الاستبداد ليس في تونس فقط, بل في كل أوكار الاضطهاد والظلم المنتشرة حيث ينطق البشر بلغة الضاد.
ربما لم يعرف ابن سيدي بوزيد المتمردة أنه بثورته يقلب معادلات الفكر السياسي المزور وفلسفات العجز البالية التي أتخمت عقول مثقفي السلاطين الذين ما برحت أفواههم تنعق بموت الشعوب وموت الإنسان وخروجه من التاريخ.
وربما لم يعرف هذا المستضعف أنه بغضبه يعري وهن كل طاغية ومتكبر، ويفضح هشاشة كل أجهزة القمع, فخلف كل قناع سقط ظهر نظام متعفن آئل للسقوط وجهاز قمع منخور حتى النخاع.
ربما لم يعرف هذا المحتج بجسده أن بقايا جسده المشتعل ستكون الفاصل الفولاذي المانع بين مرحلة مقيتة نراها تمضي من تاريخنا العربي ومرحلة جديدة تولد ولن تكون إلا أفضل مما سلف.
ربما لم يعرف هذا العربي المستباح الكرامة مثل كل عربي أنه البطل الذي سيضيء بجسده بعضا من ليل العرب الحالك، وأنه سيعيد الثقة بالنفس والاعتبار للأمة والمعنى للتاريخ بالنسبة لكل عربي.
وربما لم يعرف هذا العربي الفقير أنه اخترع نموذجا مقاوما جديدا وعبقريا ستعجز وتحار أمامه كل أدوات القمع والاستبداد.
لكنه أشعل النار فعلا في واحد من أبشع عروش الطغاة, هدد توازنات السياسة المؤسسة على الاستبداد, قلب معادلات الفكر والفلسفة المنكرة لفعالية الإرادة الإنسانية وقوة الفعل الجمعي البشري, فضح وهن الطغاة وهشاشة أجهزة قمعهم, أعلن نهاية مرحلة من تاريخنا وبداية أخرى, أعاد لنا الثقة بذاتنا العربية, أضاء ليلنا القاتم من السودان إلى مصر ومن فلسطين إلى اليمن, وقدم لنا نموذج المقاوم الجديد القادر على فعل كل ما سلف.
بداية التحدي

بطولات أهل تونس وانتصارهم أصبحت حجة لا على النخب الحقيقي منها والمزور والمريض, التي اكتفت بلعب دور المعارض من داخل المؤسسة الحاكمة, بل على الشعوب المقهورة في كل مكان أيضا.
ثورة تونس هي الحجة اليوم على كل العرب. فكل الأعذار سقطت, وكل أوراق التين التي غطت عورات المعارضة الكاريكاتورية ومدعي العقلانية والتغيير المتدرج أيضا سقطت, وكل تبرير بعد اليوم ليس إلا تغييبا متعمدا للإرادة لا استحالة للممكن.
فتونس لم تسقط من السماء, وليست من غير طينة البشر. تونس قدمت النموذج لكل مضطهد وأصبحت الحجة على كل شعب. حجة تونس على الجميع “مصيرك بيدك”.
لكن سيخرج, وخرج فعلا في بعض أقطار الاضطهاد, المشككون والطواويس ممن عاشوا على تبرير قهر أنظمة الاستبداد وامتهنوا تثبيط الهمم للحديث عن اختلافات الواقع وخصوصيات تونس واختلافها عن غيرها.
نظريات البؤس وأفكار العجز السخيفة هذه لن تنطلي على أحد بعد الآن, ومن يسوقها من الدجالين في كل مكان من أوطان العرب القابلة للانفجار لم يعتبر بعد بمن سقط من أقرانه الدجالين في ثورة تونس.
فمع سقوط الديكتاتور, سقط أيضا رجل أمن النظام الذي اعتاد انتهاك كرامة أبناء شعبه, وسقط صحفي دعاية النظام الذي امتهن التزوير والخداع, وسقط مثقف السلطان الذي اقتات على الفبركة والتبرير, وسقط رجل الإفتاء الذي حرم ما حل من تمرد على الظلم والقهر. هذا إلقاء النفس في التهلكة.

لن يكون غريبا, بل يجب أن يكون متوقعا استهداف روح الثورة لدى أهل تونس والعمل على جعلهم يدفعون ثمن تمردهم على الخضوع
“لكن, الثورة في تونس هي بداية التحدي فقط, وليست نهايته. فسقوط الطاغية لا يعني الاستسلام النهائي لقوى محلية طفيلية وخارجية تقتات على البؤس والاضطهاد. فالديكتاتور لم يكن سوى ممثل لها وأداة لتحقيق مبتغاها.
هذه القوى الطفيلية ستعمل بجهد على استنساخ النظام البائد, فسوف تعمل كل القوى الظلامية في الغرب والشرق لإفراغ التجربة من معناها الهائل الدلالة والالتفاف عليها في محاولة استباق وإحباط تكرار التجربة في أمكنة أخرى.
ففكرة الثورة التونسية أكبر من حدود تونس الجغرافية, وهي تهدد كل من اعتقدوا بمناعة الأنظمة المستبدة المستندة لقمع أجهزة الأمن وحماية الخارج.
ولن يكون غريبا تكالب وتآمر كل من يرى في حرية بعض العرب خطرا وجوديا عليهم وعلى مصالحهم.
هكذا فعلت قوى الشر من عرب وعجم حين تكالبت وحاصرت غزة وجوعت أهلها بعد انتصار خيار المقاومة في صناديق الاقتراع في فلسطين. فتجويع غزة استهدف فيما استهدف كسر الذات العربية المقاومة وتطويع إرادتها المتمردة.
ولن يكون غريبا, بل يجب أن يكون متوقعا استهداف روح الثورة لدى أهل تونس والعمل على جعلهم يدفعون ثمن تمردهم على الخضوع. حين تنتهي الثورة, يبدأ تحدي الحفاظ عليها وحماية إنجازاتها.
من أجل سيرة معكوسة

لم تكتمل السير الهلالية, كما يبدو. فأبطال تونس يضيفون فصلا جديدا لكتبها, ويضيفون أبياتا جديدة مكتوبة بالدم للملحمة الشعرية العربية الطويلة وأبياتها المليون.
دم أبطال تونس وعبقرية ثورتهم سيكملان فصلا جديدا ومشرقا من قصة العرب الحقيقية والفولكلورية التي تربط أهل جزيرة العرب كلهم بأهل اليمن والشام والعراق ومصر وتونس والمغرب.
هذه المرة ستكون الهجرة معكوسة, وفكرة أبطال تونس, فكرة البوعزيزي هي التي سترحل شرقا حاملة بشارة الحرية لمن يستعد لدفع تكاليفها.
كنت “مضروبا بالسيرة”, كما يسمي محبو السيرة الهلالية (الله يجازيك يا عم الأبنودي فقد ضربتنا بحب السيرة. وعذرا منك فتونس تقول اللي ببيع أمته خسران).
ومع ثورة البوعزيزي أصبحت كملايين العرب مضروبا بحب تونس وشعبها العبقري. ليت الرسالة التونسية تكون وصلت كل المظلومين العرب لتكتمل السيرة العربية.

المصدر: الجزيرة

التعليقات مغلقة.