البيادق والعرّاب

182

د. أكرم حجازي

مع توجه الجامعة العربية إلى مجلس الأمن الدولي، والإعلان عن تجميد مهمة المراقبين في سوريا تبدأ فصول جديدة من وقائع أعظم ثورة عربية، يجري احتواؤها بأي ثمن وكيفما كان وبكل وسيلة ممكنة، ووفق سيناريوهات معقدة، يلعب فيها الجميع دور الشريك السياسي، بدءً من الجامعة العربية، مرورا برئيس بعثة المراقبين والمجلس الوطني السوري وبعض الدول العربية و « المركز» بما فيه « إسرائيل».

« بيادق» بلا مهمة !!!

بدأت الحكاية حين أطلقت الجامعة العربية مبادرتها لحل « الأزمة السورية» في 6/9/2011. لكن الحوارات التي جرت بين الجامعة العربية والنظام السوري انتهت بالموافقة على بروتوكول المبادرة العربية وليس على المبادرة بحد ذاتها. أما التفاوض على بعثة المراقبين فقد خضعت بالكامل للشروط السورية، وبموافقة روسيا التي كانت شريكا كاملا في المفاوضات. وتبعا لذلك فقد انخفض عدد المراقبين من 500 مراقب، كما اقترحت الجامعة، إلى أقل من 200 مراقب، كما التزمت الجامعة بعرض تقاريرها على الحكومة السورية قبل رفعها إلى الجامعة، وقبلت بمرافقة قوى الأمن لطواقم البعثة. وطوال عملها لم تنشر تقريرا واحدا.

الأهم من هذا أن أحدا لم يعرف ما هي هوية المراقبين السياسية والأيديولوجية، ولا لأية مؤسسات متخصصة ينتمون، ولا أي شيء محدد بصفة قاطعة عن طبيعة مهمتهم، ولا شيء عن مؤهلاتهم، ولا الإمكانيات الفنية والتقنية المتاحة لهم، ولا آليات اختيارهم، وهو ما أكده فادي القاضي من منظمة « هيومن رايتس ووتش» حين قال أن: « الجامعة لم تشرح طريقة اختيار المراقبين ولا الخبرة التي يتمتعون بها». وبالتالي فمن المستحيل التحقق سياسيا أو إعلاميا أو مهنيا من حقيقة مهمة البعثة وأهدافها وعملها على الأرض. وقد يكون مفهوما أن يشترط النظام السوري ما يشاء قبل أن يستقبل البعثة، لكن ما ليس مفهوما أن تلجأ الجامعة العربية إلى حجب أية معلومات، بشأن الفريق، عن الرأي العام ووسائل الإعلام، الأمر الذي يفسر سيل الانشقاقات التي تعرضت لها البعثة بعد أن شعر بعض المراقبين كما لو أنهم « بيادق بلا مهمة». أما التذرع بافتقار البعثة للخبرة اللازمة فلا يعفي الجامعة من أدنى مسؤولية.

إذ كيف يمكن لرئيس الفريق الجنرال محمد الدابي أن يصرح لصحيفة « الأوبزرفر – 8/1/2012 » البريطانية بالقول: « إنه تهيأ لمراقبة طويلة الأجل لأكثر الفصول دموية في ثورات الربيع العربي» بينما يشهد المراقب الجزائري، أنور مالك، وزملاء آخرين له، أن أعضاء الفريق كانوا يستعملون هواتفهم الشخصية في تصوير الأحداث؟ وكيف يتفق هذا مع تصريحات وزير خارجية قطر حول الاستعانة بخبرة الأمم المتحدة لتطوير أداء البعثة؟

في 6/1/2012، وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع خالد مشعل، أعلن الأمين العام للجامعة العربية، نبيل العربي، أن: « المراقبون هناك … ذاهبون طبقا لتكليف عربي للقيام بمهمة المراقبة والتحقق، وهم يسعون لوقف العنف وسحب الآليات، ووقف سفك الدماء، والمراقبون بالوضع الحالي موجودون بسوريا للقيام بمهمة أكبر من المهمة التي طلبت منهم». أما الدابي فكان له رأي آخر. ففي مؤتمر صحفي عقد بالقاهرة في 23/1/2012، قال: « إن مهمة البعثة ليس أن تحقق أو تتقصى الحقائق, وإنما أن تتحقق من تنفيذ بروتوكول الجامعة العربية الذي قبلت به دمشق … ». وفي فقرة أخرى يقول: « أن مهمة المراقبين تكمن في الرصد, وفي تقييم مدى التزام الحكومة السورية بالبروتوكول, وليس وقف القتل والتدمير, وأن التكليف المنوط بالمراقبين أن يقولوا ما إذا كان القتل توقف أم لا، بعيدا عن الرأي السياسي والتحليلات».

لن نسأل الداب أو العربي عمن يتلاعب بالآخر، لكننا، على الأقل، سنسألهما عن الألف قتيل خلال وجود البعثة، وعن عدد الضحايا المرشحين للقتل من قبل النظام، خاصة وأن الدابي يتحدث عن « مراقبة طويلة الأجل» !!! فما جدوى « الرصد» إذا كانت النتيجة مئات القتلى في غضون ثلاثة أسابيع؟ أليست تنسيقيات الثورة والمنظمات الحقوقية قادرة على إنجاز المهمة بدون الدابي وفريقه ومعهما الجامعة العربية؟ بلى. لكن الحقيقة أنه لا « التحقق» ولا « الرصد» كانا في الأصل من مهمات البعثة.

عرّاب التدويل

كغيرها من المؤسسات الدولية الحقوقية والسياسية، وحتى الدول والزعامات العربية؛ فإن الجامعة العربية تعلم علم اليقين حقيقة ما يجري في سوريا. كما يعلم رئيس فريق المراقبين حقيقة المشهد الذي يعلمه العامة من الناس فضلا عن الخاصة من المتابعين والمراقبين والمحللين والصحفيين وأمثالهم. ومع ذلك فقد أعلن رئيس الفريق، محمد الدابي، أنه: « لم ير في حمص شيئا مخيفا»!!! ورغم أنه نفى تصريحه هذا إلا أنه أنكر وكذَّب كل شهادة قدمها مراقب أو شاهد عيان أو منكوب، وقدم تقريرا « ملفقا» بحسب المعارضة، لم يطلع عليه أحد.

أكثر من هذا، ما ذكرته بعض الشهادات عن أن الدابي كان يوصي فرق المراقبين بعدم زيارة المناطق الساخنة والاكتفاء بزيارة المناطق الموالية للنظام!!! وطوال شهر من عمل الفريق لم يلح بالأفق ما يبشر بنوع من الحقيقة، بقدر ما تحدثت التصريحات الرسمية عن تعاون للنظام مع البعثة وصل إلى أعلى درجات « النزاهة والشفافية والموضوعية» كما يقول الدابي، وأسوأ من هذا تصريحاته بأن العنف تقلص رغم وجود ألف قتيل خلال فترة عمل البعثة ، وتبنيه لأطروحة النظام التي تساوي بين القاتل والضحية!!!

منذ أول زيارة قامت بها بعثة المراقبين لمدينة حمص، « رويترز – 28/12/2011 » قال الدابي بأن: « الوضع كان هادئا وأنه لم تكن هناك اشتباكات أثناء وجود البعثة .. كانت هناك مناطق الحالة فيها تعبانة .. الحالة مطمئنة حتى الآن»، أما الناشط عمر، أحد المقيمين في بابا عمرو، فقال: « شعرت بأنهم لم يعترفوا حقا بما رأوه، ربما لديهم أوامر بأن لا يظهروا تعاطفا، لكن لم يكونوا متحمسين للاستماع إلى روايات الناس »!!! وأضاف: « شعرنا بأننا نصرخ في الفراغ. عقدنا أملنا على الجامعة العربية كلها لكن هؤلاء المراقبين لا يفهمون فيما يبدو كيف يعمل النظام ولا يبدو عليهم اهتمام بالمعاناة والموت اللذين تعرض لهما الناس». هكذا .. لم يكونوا متحمسين .. ولا يبدو عليهم اهتمام بالمعاناة والموت!!!

ومنذ اليوم الأول استقبل النظام البعثة بتفجير المقر الأمني الذي لا يستطيع الذباب الاقتراب منه فضلا عن الدخول إليه، وكذا فعل النظام في وداعها عبر تفجير حي الميدان بدمشق (6/1/2012). وفي التفجيرين ذهب العشرات ضحايا، لجرائم فاضحة ارتكبت بحضور التلفزيون السوري ورجال الأمن. وما بينهما لم تتغير تصريحات الدابي التي اتسمت بذات « النزاهة والشفافية والموضوعية» التي اتسم بها النظام السوري، بعيدا عما وصفه بـ « خيالات المعارضة» !!! فمن يكون الدابي هذا؟

تناقلت وسائل الإعلام الكثير من السيرة الذاتية عن الفريق الركن محمد أحمد مصطفى الدابي (63 عاما)، مشيرة إلى أنه مستشار عسكري وأمني للرئيس السوداني، وعضو في حزب البعث السوداني، ومتهم بجرائم حرب في دارفور، ومؤيد للنظام السوري، واختاره النظام من بين ثلاثة أسماء لرئاسة بعثة المراقبين … .

إذن لا مراء في كون الدابي رجل راشد. فهو عسكري محترف، وسياسي ضليع، وأمني مخضرم، وليس رجلا جاهلا أو غرّاً. وبالتالي فليس صحيحا أنه: « أسوأ مراقب دولي لحقوق الإنسان في التاريخ» كما تقول مجلة الـ« فورين بوليسي» الأمريكية. إذ كان بإمكانه، بما يمتلكه من كفاءات ومؤهلات أو بما توفره له أبسط وسائل التقنية الرقمية، أن يتحقق من هوية المناطق التي يزورها أو من أساليب النظم الأمنية في التواري والتضليل، أو من عمليات الخداع الفاضحة التي يرتكبها النظام، أو من حقيقة حجم القوة ونوعها، التي يستعملها النظام ضد المدنيين، وغير ذلك من أساليب الكذب والغدر، التي يستعملها ويعلمها كل العالم وليس السكان المحليين فحسب. فلماذا كان الدابي، إذن، يحرص على الصفة الاستفزازية في كل تصريحاته !!! وهو يعلم علم اليقين أنها أبعد ما تكون عن أية حقيقة تذكر!!!؟

لا شك أن معاينة نماذج من التصريحات الرسمية العربية، وكذا التصريحات الغربية والسورية على السواء تكشف عن عمق التناقض والتضارب فيها!!! لاسيما تلك الصادرة منها عن رموز الجامعة العربية. ورغم أنها ترقى إلى مستوى الكذب الصريح، إنْ لم تكن الكذب بعينه، وعلى الطريقة السورية، إلا أنها، في المحتوى السياسي، تنبئ عن خداع كبير. إذ أن استهداف العامة بسياسة الإغراق الإعلامي ليس لها من هدف، في السياسة، إلا إفراز حالة من التعقيد المصحوب بكثير من الغموض والضبابية والتضليل الذي يؤدي في العادة إلى انصراف الاهتمام عن الحدث. وفتور التفاعل معه بفعل التشتيت الذهني. وهكذا يجري انتزاع الحدث من فاعليه الشعبيين وإحالته إلى النخبة الساعية إلى توجيهه صوب ملاعبها الدبلوماسية والسياسية. ومن الطريف أن الجامعة العربية والنظام السوري توافقا على اتباع هذه السياسة، مع اختلاف الأهداف لكل منهما، حتى أن كليهما بدا وكأنه ينطق بلغة الآخر!!!

هذه يعني أن الدابي الذي حاز أداؤه الميداني وتصريحاته الإعلامية، إلى حد ما، على القبول السوري فضلا عن قبول الجامعة العربية، رغم النفي المتكرر بين الحين والحين، كان شريكا سياسيا للجامعة أكثر مما كان كبش فداء برتبة مراقب لحقوق الإنسان. ولو كان الأمر غير ذلك لرأيناه مستقيلا أو معزولا من منصبه لكثرة ما ناله من النقد والهجوم حتى على شخصه وتاريخه، لكنه، مع ذلك، ظل على رأس عمله حتى بعد تجميد عمل البعثة ونقل المراقبين إلى العاصمة دمشق وإحالة الملف السوري إلى مجلس الأمن. كل هذا لا معنى له إلا أن يكون الدابي هو حقا عرّاب التدويل.

في المحصلة

لم يكن الخطاب الدموي لبشار الأسد، بعد غياب طويل، مبرَّرا إلا في ضوء ما شعر به من خطر يحدق بنظامه إذا ما تم تدويل القضية. وتبعا لذلك يمكن القول أنه إذا كان هناك من خطط لاستغفال المراقبين فقد نجح بامتياز، وإذا كانت الجامعة قد تعمدت إيقاع النظام السوري بفخ الموافقة على بروتوكول البعثة دون المبادرة فقد أنجزت مهمتها، ولعل الرئيس السوري ندم فعلا على الدخول في « مقامرة سياسية» من هذا النوع، تماما كما توقعت « الديلي تلغراف – 1/1/2012 » البريطانية، وإذا كان صبر قطر قد نفذ فلأن اقتراحاتها تسارعت على نحو مثير بدء من: (1) الاستعانة بالأمم المتحدة أو (2) إرسال قوات عربية إلى سوريا أو (3) بتحويل الثورة السورية إلى أحد ملفات مجلس الأمن، فلعلها حققت للـ « المركز» ما يصبو إليه. لكن السؤال: ما هو رأي « المركز»؟ وما الذي يمكن أن يفعله مجلس الأمن للثورة السورية؟ وما هي تداعيات التدخل الدولي إذا كانت النتيجة ستزيد من وحشية القاتل؟

http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-334.htm

التعليقات مغلقة.