خريطة القوى المسلحة

233

د. أكرم حجازي

منذ الأسابيع الأولى لاندلاع الثورة السورية أصيبت الشعوب العربية والقوى الثورية بنوع من الدهشة، تجاه ما بدا، حتى حينه، مراهنة عصية على الفهم والتصديق. إذ من المذهل، بكل الحسابات، أن تنطلق ثورة في بلد صار الخوف العميق في نفوس أهله كما لو أنه جينا وراثيا، يدرك مقياسه ودرجاته، فقط، من بلغ من العمر بضع سنين!!!

ومع أن السوريين انتظروا فرصتهم طويلا لملاقاة النظام، وفتح ملفات القهر والخوف الدموي معه على مدار العقود الخمسة الماضية، إلا أن الخلاص منه، بـ « أقل التكاليف»، لم يكن متوفرا رغم (1) الدعوة المبكرة إلى « سلمية الثورة» ومحاولات « الطمأنة» و « التفاهم»، ورغم (2) تدخل القوى المحلية والإقليمية والعربية والدولية، ورغم (3) توفير ما بدا فرصا متتالية ومخارج سياسية دولية واجتماعية ملائمة للنظام … بل أن « أبهظ التكاليف»، عبر عشرات المذابح الجماعية الوحشية، لم تؤشر بعد على كونها كافية للتخلص من النظام. أما لماذا؟ فلأن حقوق ملكية النظام ليست محلية، بقدر ما هي ماركة مسجلة تاريخيا باسم حماية النظام الدولي واستقراره. وبالتالي فالذين جهدوا في استدعاء « الناتو» للمنطقة، مستعملين حسن النية والاستعداد لتجديد عقود التحالف مع « المركز» وتلبية مطالبه الأمنية والاستراتيجية، محليا وإقليميا، ظنوا ببلاهة عجيبة أن « المركز» يمكن أن يأمنهم على سلامة « إسرائيل» والنظام الدولي، الذي بني على أشلاء العالم الإسلامي، واستقراره، منذ مطالع القرن العشرين، واحتل النظام الطائفي فيه حجر الزاوية إقليميا.

ومع الرفض الصريح لـ « تسليح الثورة» أو نصرة الشعب السوري، واشتداد حدة الصراع الدموي، بدأت « المواجهة الشرعية مع النظام» عبر فتاوى العلماء والمشايخ التي أخذت تصدر تباعا عبر العديد من الدعوات المنادية بـ « الجهاد»، مرورا بفتاوى « تكفير النظام» السوري، وانتهاء بالدعوة الصريحة إلى « قتل» الرئيس بشار الأسد. إلا أن محتواها العقدي توجه، نسبيا وبصراحة، نحو (1) المشروع « الصفوي» دون أن يقترب، ظاهريا، من (2) المشروع « الصليبي» ممثلا بـ « المركز» أو (3) المشروع « الصهيوني» ممثلا بـ « إسرائيل». ومع ذلك فقد مثلت غطاء شرعيا للقوى المسلحة في الثورة السورية. وبدأت مفاعيله، لاسيما بعد مجازر أطفال الحولة وحماة (25، 27/5/2012)، تتبلور في صيغة التخلي عن « محلية الثورة» والاتجاه نحو « الربط» بين المشاريع الثلاثة التي تواجهها الثورة .. هذا الربط الذي كان واقعا قائما منذ اللحظات الأولى للثورة، ومسكوتا عنه سياسيا وإعلاميا، صار اليوم مسموعا بملء الفم وعلى امتداد أفق البصر. وصار التحذير من الحرب الأهلية أو الطائفية، بمعنى أدق، أمرا لا مفر منه. والسؤال هو: ما هي خريطة القوى المسلحة المحلية والفاعلة في الثورة السورية؟ وإلى أي حد تبدو منسجمة عقديا في خوض الصراع؟

أولا: سلالة الجيش الحر

في مقالة سابقة بعنوان « عذراء الجهاد» قلنا أن المجتمع السوري خضع لعملية تجهيل متوحشة نجحت في تجريده من كل عناصر القوة وأدواتها. فهو لم يستفد من الأيديولوجيات والفلسفات الراديكالية التي كانت الحركات الوطنية العربية والفلسطينية تتمتع بها، كما لم يستفد من الوعي السياسي أو من أي تشكيل سياسي إلا بمقدار ما يعبر عنه خطاب « حزب البعث» بصيغته الأمنية المتوحشة أو النظام بصيغته الطائفية الدموية، كما لم يستفد من أية تجربة قتالية ثورية أو نظامية، ولا من الإسلام كمرجعية حضارية وشرعية وعقدية وسياسية، لاسيما بعد أن أحال النظام الإسلام للصوفية وأساطيرها وشركياتها.

إذن نحن بصدد مجتمع مقهور، ومجرد من « الخبرة» و « التجربة» و « المرجعية» و « العقيدة». فما كان منه في أول مواجهة شاملة مع النظام إلا التحصن بـ « الفطرة»، بوصفها المجال الوحيد الذي يتيح له « « التمايز» عن النظام من جهة، والمرجعية الوحيدة التي يمكن « الاسترشاد» بها في مواجهة النظام من جهة أخرى!!!! لذا ليس عجيبا أن يلحظ المرء لدى السوريين شعورا بالغربة والاستهجان في أية مناقشة ذات صلة في المسائل العقدية والأيديولوجية وحتى السياسية. لكن العجيب حقا أن تجد الكثيرين منهم، حين يشتد النقاش عمقا، يجيبون بالقول: « أنا لا أفهم ما تقول»، وبعضهم الآخر يختصر النقاش بالقول: « يا أخي .. يا عمي .. أنا مسلم على الفطرة وهذا يكفيني .. لا توجع راسي .. الله يرضى عليك»!!!

لا شك أنها إجابات بليغة للغاية، وتحتاج إلى الكثير من التأمل، في ضوء وقائع الثورة وشعاراتها وكتائبها المسلحة. فـ « الفطرة»، رغم ضحالة محتواها الشديد، ملأت مئات بؤر الاحتجاجات الشعبية بلافتات إسلامية ضخمة، ودعوات لتحكيم الشريعة، ومظاهرات صاخبة تنادي بالخلافة. بل أن كتائب « الجيش السوري الحر» لم تتخذ لها من الأسماء إلا تلك المستوحاة من التاريخ الإسلامي أو المتيمنة بأسماء الصحابة. وهو مشهد يبدو على النقيض من المشهد الجهادي في العراق، والذي شكلته عقلية أبو مصعب الزرقاوي وهيبته وليس « الفطرة»، كما هو الحال في سوريا، مما يعكس، إلى حد كبير، مدى قابلية المجتمع السوري للتشكل العقدي.

هكذا؛ ففي الوقت الذي تبدو فيه « الفطرة» علامة ضعف عقدية إلا أنها علامة قوة بارزة يمكن الاحتيال عليها والتلبيس لكن يصعب اختراقها. فالعودة إلى « الفطرة» تعني، بوعي أو بدون وعي، القطع التام مع ما يصادمها من أيديولوجيات وفلسفات وثرثرات وحتى امتطاءات لظهر الثورة من هذه الجهة أو تلك. لكنها تعني بنفس الدرجة إمكانية الوقوع في المحاذير العقدية دون وعي. وعليه فقد يبدو طريفا أن تنادي مظاهرة بـ « تحكيم الشريعة» أو « عودة الخلافة» وفي نفس الوقت تطالب، هي أو غيرها، بـ « الحظر الجوي» أو « الحماية الدولية»!!!

هكذا هي عذرية الثورة السورية .. فهي عذراء في السياسة، وعذراء في الدين، وعذراء في القتال، وعذراء في الخبرة، وعذراء في التجربة، وعذراء في الأيديولوجيات .. عذراء في الشجاعة والبطولة والإصرار والثبات، وعذراء في كل منحى. والأكيد أن الصعوبات في التمييز بين الخطأ والصواب .. بين الحق والباطل .. بين الولاء والبراء .. بين وبين …. ناتجة عن هذه العذرية التي تتعرض لهجمات إعلامية وأيديولوجية وحتى اختراقات سياسية أو أمنية بين الحين والحين، لكن دون أن تنجح في احتوائها أو ثنيها عن أهدافها في بلوغ الحرية أو حتى قدر منها بلا طائفية.

بهذا التصوير لمشهد « مجتمع الثورة» يغدو « الجيش الحر»، بمختلف مكوناته الاجتماعية، العسكرية والمدنية، سليل المجتمع السوري بنسخته العذرية، ما بعد الثورة وليس ما قبلها. فالثورة التي بدأت « سلمية» سرعان ما اتجهت نحو « العسكرة» القادمة من رحم النظام صاحب القبضة الأمنية الوحشية و « العلاقة الطائفية» المفروضتين على كافة مناحي الحياة في المجتمع والدولة. والثابت أن الثورة شقت طريقها إلى مؤسسات الأمن والجيش على وقْع الخيارين الأمني والطائفي للنظام، وتبعا لذلك فقد تعرضت القطاعات العسكرية والأمنية لاختبارات « تمايز» قاتلة، ذهب ضحيتها، غدرا، مئات الجنود والضباط، فضلا عن تصفيات طالت عائلات بكاملها. ولا ريب أن المفارقة العجيبة في الثورة العسكرية هي تلك « الوضعية المهينة» التي لم يسبق لها مثيل، والتي تحول فيها آلاف الجنود والضباط إلى لاجئين في الدول المجاورة، يسكنون مخيمات اللجوء، ويتلقون الإغاثة كما يتلقاها المدنيون!!!

إذن الأنوية الأولى للجيش، كما ذكرنا في مقالة « عذراء الجهاد»، تكونت من المنشقين عن جيش النظام. لكن التشكيلات المنتشرة في عموم سوريا، من كتائب وألوية ومجالس عسكرية، لم تعد تقتصر فقط على ذوي الأصول العسكرية الصرفة. إذ ثمة متقاعدون عسكريون وأمنيون ومتطوعون وخبراء وإعلاميون مدنيون شكلوا روافد لا بأس بها للكتائب وحتى للقيادات الميدانية.

لذا فإن أبرز ما يميز « الجيش الحر» أنه ليس تنظيما أو جماعة أو حزبا. وهو كما قلنا مجرد عنوان للثورة وليس تنظيما أو حركة أو جماعة، وبالتالي يمكن أن ينتظم في إطاره، إعلاميا، كل من يرغب في مقاتلة النظام دون أن ينتسب إليه. وهذه وضعية مناسبة لـ « مجتمع فطري» لا تعنيه الصراعات الأيديولوجية ولا يأبه لها. وكل ما في الأمر أن تأسيس « الجيش الحر» بدا كـ « مؤسسة عسكرية بديلة عن قوات الأسد» كما قال العقيد الركن أحمد فهد النعمة، قائد المجلس العسكري في محافظة درعا، مضيفا في تصريحات لصحيفة « الشرق الأوسط – 27/5/2012» لما يبدو محاولات للانتظام: « قمنا بتشكيل مجالس عسكرية في مختلف المحافظات وهي متواصلة من خلال المكاتب الإعلامية التابعة للمجالس العسكرية وهناك تواصل بين قادة المجالس ومع قيادة الجيش السوري الحر بشكل يومي ومستمر بغية التوصل إلى العمل المؤسساتي المنظم والهادف والذي يوازي المعايير الدولية». وفي مقابلة مع صحيفة « الغارديان 2/6/2012 » البريطانية أكد العقيد الطيار الركن قاسم سعد الدين، الناطق الرسمي باسم القيادة المشتركة لـ « الجيش الحر» بالداخل أن: « ثمة تنظيما أكثر وضوحا الآن مع تشكيل عشرة مجالس عسكرية إقليمية تتبعها كتائب محلية وفرق قتالية، وكلها لديها فروع إدارية تتعاطى مع التمويل والتزويد بالأسلحة والمساعدات الإنسانية».

لكن مهما بدت هذه التشكيلات على درجة من التنسيق، الساعي إلى المأسسة التنظيمية، إلا أن بنية الجيش، وتوالي ظهور التشكيلات الارتجالية للكتائب المسلحة، والعمل في إطار اللامركزية، بالإضافة إلى الموقف الدولي الرافض لـ « تسليح الثورة»، وطائفية النظام الدموية، مكنت كتائب الجيش من التمتع بكثير من الاستقلالية، والاحتفاظ بفطرتها، بما يكفي، على الأقل حتى الآن، لمقاومة الضغوط المحمومة التي بذلتها قوى في المجلس الوطني، وأخرى في قيادة الجيش، وكذا بعض الشخصيات والمشايخ، فضلا عن جهات إعلامية ودولية، لتحقيق اختراقات تنظيمية أو انتزاع مواقف معادية للقوى الإسلامية راهنا أو لاحقا .. مثل هذه القوى التي تطفوا على السطح بين الحين والحين، وتعيش حالة من انعدام الوزن، هي بلا شك تلعب بنار قد تحرقها وتوقع أثرا بالغا في القوى الثورية التي لا تعنيها الصراعات السياسية والأجندات الأجنبية.

فاللامركزية ومحاولات الاختراق ووضعية « عساكر الشتات» كان لا بد، عاجلا أم آجلا، من أن تلقي بظلالها على منطق العمل وآلياته في « الجيش الحر». وقد بدا مثل هذا الأمر جليا في أعقاب تهديدات صدرت عن قيادات في الجيش داخل سوريا تقضي بإعطاء مهلة للنظام السوري تنتهي في 2/6/2012 : « لتنفيذ قرارات مجلس الأمن والشرعة الدولية فورا»، وإلا فإن الجيش: « في حل من أي تعهد يتعلق بخطة أنان». وعلى الأثر رد العقيد رياض الأسعد قائد « الجيش الحر» على « بيان الداخل» بالنفي، قائلا: « لا توجد مهلة»، مؤكدا في نفس الوقت: « التزام المعارضة بخطة أنان وبالقرارات الدولية»، ومتمنيا أن يصدر كوفي عنان بيانا من طرفه يعلن فشل الخطة حتى لا يتم إلقاء مسؤولية الفشل على « الجيش الحر».

هذا التباين الخطير في التصريحات كشف عن رؤى متصارعة بين « قيادات الخارج» و« قيادات الداخل»، مثلما يؤشر على وجود قوى خارجية تسعى ليكون لها الصوت الحاسم في الداخل السوري. ففي 31/5/2012 رد العقيد قاسم سعد الدين، على تصريحات الأسعد بقسوة غير مسبوقة: « لا يحق لأحد أن يتكلم أو يصدر أي بيانات للجيش السوري الحر في الداخل … واعتبارا من تاريخه لن نأخذ القرارات إلا من قيادات المجالس العسكرية في الداخل التي تعبر عن حال الشعب السوري الثائر .. ولا يحق لأي جهة عسكرية أو مدنية في الخارج أن تتكلم عن خطط الجيش السوري الحر في الداخل». بل أن بيان العقيد سعد الدين ذهب في قسوته أبعد من ذلك حين أضاف بأن: « من أراد أن يمثل الشعب السوري والجيش الحر أو ناطقا باسمه فليتوجه إلى أرض الميدان وليتوجه إلى الداخل حتى يستطيع أن يمنحه الشعب السوري المنتفض هذه الشرعية».

ولا شك أن بعض التصريحات الصادرة عن بعض قيادات الجيش أو كتائبه تتسبب بكثير من السخط، كتلك التي تصنف في خانة الولاء والبراء، أو ذات النوع الابتزازي الذي يستهدف حرق بعض الشخصيات مبكرا، أو تلك الناتجة عن الجهل، لكنها لم تنل كثيرا أو قليلا من حقيقة طغيان المشهد الديني على مكونات وأداء أغلب التشكيلات العسكرية، لاسيما بعد تنبه بعض القيادات لمثل هذه السقطات ونفيها أو التنكر لها. بل أن بعض الشهادات تتحدث عن كتائب إسلامية داخل « الجيش الحر»، مثل كتيبة « البراء بن مالك» وكتيبة « ذو النورين»، وحتى « كتائب عبد الله عزام» التي قيل أنها تنشط تحت لوائه.

والحقيقة أن « الجيش الحر»، الذي احتل مكانته كواجهة شعبية مسلحة للثورة، صار يتجه، بفعل الحضور الإسلامي هذا أيضا، نحو المزيد من الوضوح في تحديد هوية الصراع مع النظام باعتباره صراعا عقديا، يدركه الشعب السوري ويخوضه بأدق تفاصيله، مهما حاولت الكثير من القوى تجنب هذه الحقيقة أو إخفائها، إعلاميا وسياسيا، تحت يافطة الوحدة الوطنية أو الاحتياجات الدولية. وهو الأمر الذي بدا جليا بصورة غير مسبوقة في الأداء السياسي والإعلامي لـ « الجيش الحر»، بعد مجزرة الحولة. فللمرة الأولى يتحدث عسكريون في موقع المسؤولية عن حرب طائفية صريحة من النظام ضد السنة في سوريا. وفي السياق فقد توفر لدينا أكثر من تصريح في هذا الصدد يوم 29/5/2012. أما الأول فقد جاء على لسان العقيد مالك الكردي في تصريحات له أدلى بها لصحيفة « الشرق الأوسط» قال فيها إن: « معالم الفتنة المذهبية أصبحت واضحة في سوريا لاسيما بين القرى الموالية للنظام من جهة والمعارضة من جهة أخرى، وهي تنذر بحرب أهلية لن تكون دول المنطقة بمنأى عنها». ومن جهته اعتبر العقيد خالد الحبوس، رئيس المجلس العسكري في دمشق وريفها، على قناة « وصال» أن الحرب مع النظام هي « حرب طائفية ضد السنة في سوريا». وكذلك تصريحات النقيب رواد الأكسح، قائد كتيبة المهام الخاصة في حمص، خلال لقائه على غرفة « الجيش الحر – المجلس العسكري في دمشق وريفها» في « البالتوك» حيث اعتبر الحرب مع النظام هي « حرب بين الكفار والمسلمين».

وبعد يومين (31/5/2012) فوجئ أهالي دير الزور بملصقات لـ « الجيش الحر»، ذات محتوى عقدي غير مألوف أو مسبوق، انتشرت في شوارع المدينة، وخاطبت الأهالي بالقول: « يا أبطال وأحرار وحرائر دير الزور؛ ها قد طلبتم المساعدة والعون من العالم أجمع ولم ينصركم، ونسيتم اللهَ خالق العالم وخالق الكون وهو على نصركم لقادر». وأضافت: « عودوا إلى الله وأقيموا صلاتكم ولا تتركوها وأكثروا من الدعاء والاستغفار، والله لا يضيع عملكم …. انصروا اللهَ لينصركم اللهُ فإنه على نصركم لقادر، واعلموا (أنه) لن ننتصر حتى تصبح صلاة الفجر كصلاة الجمعة … الله الله يا أمة رسول الله».

في المحصلة يمكن القول أن « الجيش الحر» ليس وحده القوة الفاعلة على الأرض. فعلى هامش القوى العسكرية المنظمة ثمة قوى متناثرة على امتداد ساحات الثورة، بعضها مدني النشأة، دفعه بطش النظام ومليشياته القاتلة إلى حمل السلاح دفاعا عن أهله أو حيه أو قريته، وبعضها الآخر ممن سلك طرقا جنائية وانحاز إلى قيم الثورة وأهدافها، وبعضها قبلي المحتوى والنشأة، عمل في المساندة والدعم ولو بحدود ضيقة جدا، وبعضها، امتطى ظهر الثورة طمعا في جني المكاسب، وبعضها من المنبوذين اجتماعيا، ممن لا تخلو منهم ساحة عنف، استغل الفراغ الأمني وسلك، عبر السلاح، سبلا جنائية، ألحقت أضرارا بمصالح الناس.

يبقى القول أن أسوأ ما في الثورة السورية، ونسبيا في « الجيش الحر»، هي تلك الشريحة التي تَملَّكها الغرور والصلف، مستعملة الثورة، بوعي أو بدون وعي، جسرا للتسلق والتملق والاسترزاق والعبور والوصول إلى حيث تقع مصادر الدعم والتمويل، أو بحثا عن شهرة أو فضل ينسب في غير أهله. فما أن تستمع لأحدهم إلا ويزعم رعايته لمئات المقاتلين في هذه المنطقة أو تلك .. هذا إنْ لم يحتكر مسؤوليته عن منطقة برمتها، ناهيك عن الطعن بهذا التشكيل أو ذاك!!!

وأكثر من ذلك حين يزعم البعض ثقلا سياسيا وإعلاميا لعشرات القوى والتنسيقيات المحلية وبث الأخبار الكاذبة التي ألحقت ضررا بالغا في مصداقية إعلام الثورة، أو امتلاكه لمفاتيح وأدوات العمل العسكري والأمني، وعلاقات الدعم اللوجستي، محليا ودوليا، واختراق قواته لقوى النظام، وقدرته على قلب المعادلة لصالح الثورة فيما لو توفر له الحد الأدنى من التمويل!!! مع العلم أن العشرات إنْ لم يكن المئات من التشكيلات المسلحة، مدنية أو عسكرية، لا يتجاوز عدد أفرادها بضعة من عشرة أو بضعة عشرات، ومنهم الكثير ممن يعيشون في ظروف بائسة، ويعانون شظف الحياة، والفقر والتهديد والجوع والمرض.

ثانيا: تاريخية القوى الجهادية

بخلاف « الجيش الحر» والمجموعات المسلحة التي تشكلت، فطريا وعلانية، في صورة ألوية وكتائب مسلحة، كان هناك مشهد ثالث، ينمو بسرية وكتمان شديدين، بالتوازي مع المشهدين السلمي والعسكري للثورة، هو مشهد الجماعات المقاتلة، ذات المحتوى العقدي الصارم والصريح .. وهو ما يمكن التعبير عنه بمشهد « الثورة الجهادية» .. مشهد ثورة لا يخفى عليها ذاك الرصيد التاريخي العريق، فكرا وعقيدة وعملا وأهدافا، ولا خبراته أو خبرات وقائع تيارات « الجهاد العالمي» التي تجوب اليوم ساحات العالم الإسلامي.

البذور الأولى

إذن؛ تعود البذور الأولى في الفكر الجهادي السوري لعملاق الجهاد الشيخ مروان حديد، ومواجهته للنظام انطلاقا من جامع السلطان في مدينة حماة سنة 1964، بعد عام واحد من انقلاب البعث على السلطة في 8/3/1963. هذه المواجهة التي تطورت ابتداء من العام 1974 و 1976 في صيغة « التنظيم الجهادي المسلح» الذي اشتهر باسم « الطليعة المقاتلة»، التنظيم الجهادي النخبوي المستقل، انضم إليه العديد من أفراد الجماعات الإسلامية سواء من « الإخوان المسلمين» أو من غيرهم، لكنه ظل مستقلا عنها إلى حين وقوع مجزرة حماة في 17/2/1982.

قرابة العقد والنصف؛ أشاعت فيها « الطليعة المقاتلة» مناخا جهاديا هائلا في دمشق وحماة وحلب على وجه الخصوص، وخاضت فيه حربا طاحنة، أفقدت النظام الطائفي صوابه، لشدة وبأس العمليات التي نفذتها، والتي وصلت إلى حد تفجير مقر مجلس الوزراء (17/8/1981) ومبنى المخابرات الجوية (3/9/1981). وفي هذه الفترة كان السوفييت الروس، وليس الإيرانيون بعْد، هم رأس الحربة في دعم النظام الطائفي، حتى أنهم لم يفلتوا من هجمات « الطليعة المقاتلة» .. لكنهم كلما سقط منهم قتلى كانوا يصبون جام غضبهم على النظام الذي يوفر، بحسب زعمهم، أربعة أشخاص حماية لضابط نصيري بينما لا يوفر ما يلزم لحماية مستشاريهم وضباطهم!!! … لكنها ظلت حربا تواطأ فيها الإعلام الدولي والإقليمي ضد مجاهدي « الطليعة»، كتمانا وتجاهلا، كما يتواطأ فيها على مجاهدي اليوم، تشويها وتزويرا.

لم يكن المجاهدون السوريون، الذين خاضوا جهادا ضد النظام الطائفي و « كفر النصيرية» بعيدون عن ساحة الجهاد الأفغاني الأول وهو يخوض حربه ضد قوى الإلحاد العالمية. ولم يكونوا أقل فاعلية وتأثيرا من باقي المجاهدين في العالم الإسلامي، الذين تجمعوا هناك، وواصلوا حتى في مرحلة « طالبان»، وصولا إلى هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 على أبراج التجارة العالمية في الولايات المتحدة. ويكفي « الجهاد العالمي» أنه استأثر بشخصية استراتيجية نفيسة مثل مصطفى طه الست مريم، الملقب بأبي مصعب السوري، والذي خلف تراثا عالميا غزيرا، وثق فيه أغلب تجارب « الجهاد » في مشارق الأرض ومغاربها.

ولم يكن السوريون، لاسيما طلبتهم في الجامعات السورية، وخاصة جامعة حلب التي تؤوي اليوم قرابة 80 ألف طالب، وتمثل مجتمع سوريا كاملا، غافلون عن احتلال العراق في 9/4/2003، وما كان يجري على مناطق الحدود التي شكلت ممرا لعبور المجاهدين العرب نحو العراق، مثلما غدت هذه الممرات مصائد لمخابرات النظام الطائفية للإيقاع بالمتطوعين للقتال في العراق. ولم تكن العلاقة بين القبائل العربية وحتى الكردية على جانبي الحدود لتنقطع، وهي التي تتعرض لخطر « الصفوية» هنا وهناك. ولم تكن الثقافة الجهادية لتفارق مواطنا أو متطوعا أو طالبا بنفس القدر الذي لم تفارق فيه الاحتجاجات على احتلال العراق طلبة جامعة حلب.

وذات الأمر ينطبق على علاقة السوريين بلبنان، حيث تنشط الكثير من الجماعات الجهادية والأفراد على جانبي الحدود، فضلا عن كون لبنان ساحة ساخنة يبقى صدى فعالياتها وصراعاتها مع النظام الطائفي، هنا وهناك، يطرق الآذان في سوريا، ويمكِّن بسهولة من نسج علاقات أمنية وصلات مع تجار السلاح، ومدخلا للاستفادة من تحالفات ظرفية على وقع الخصومات الطائفية والقوى المتصارعة.

إذن المشكلة في سوريا، لمن يهوى استمرارية النظام والدفاع عنه، سواء من « المركز» أو « الهامش»، ليست واقعة، كما يروجون، مع « القاعدة» بل مع « الفكر الجهادي» الشائع، و « الفكر العقدي» الذي يأبى، تاريخيا، استمرار الخضوع للحكم النصيري، والساعي إلى إقامة الدولة الإسلامية على أنقاضه .. هذا الفكر نرى معالمه بارزة لدى قطاعات واسعة من التشكيلات العسكرية التي ترفع شعارات « الحاكمية» و«الخلافة».

ولا شك أنه فكْر صار يلقي بظلاله على الساحة، ويطرق أسماع « المركز»، بشقيه الشرقي والغربي، عقابا له على سياساته الرامية إلى تمكين النظام الطائفي من ارتكاب المزيد من المذابح، علّ وعسى، أن يتخلص من هذه الثورة التي أرقت الجميع وأقضت مضاجعهم .. ثورة فضحت قيمهم المزعومة عن حقوق الإنسان، وتباكيهم المزيف على اغتصاب النساء وذبح الأطفال ودفن الأحياء أو إحراقهم وتمزيق الجثث وتدمير البيوت على ساكنيها وهدم الأحياء وارتكاب الموبقات والفواحش بأبشع ما يتصوره العقل البشري ..

ثورة؛ ظل « المركز» يعلن عن رفضه لـ « تسليحها»، ويحتج بلسان وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون: « لا نعلم بالضبط هوية من يستحق التسليح – 29/2/2012»، أما الآن، وبعد مجزرة « الحولة – 25/5/2012»، وارتفاع سقف المشاعر الدينية، فقد صار هناك من يجاهر بالحديث عن سياسات صريحة تقضي، فقط، بدعم: « الجيش السوري الحر من ذوي التوجه العلماني بالأسلحة والتوجيه والقيادة والتدريب. مع سعي الاستخبارات الأميركية إلى التأكد من أن قيادات الجيش السوري الحر لا تتعاون مع القاعدة». وتصريحات أخرى لا تقل فجاجة وهي تعلن بأن الولايات المتحدة ستتدخل، فقط، إذا سقط النظام!!! أما لماذا؟ فللحيلولة دون وقوع نحو 11 مخزنا للأسلحة الكيماوية بأيدي « المتطرفين»!!! أما التصريحات الصادرة عن ساسة « إسرائيل»، والمتباكية على مذابح النظام الوحشية والإبادات الجماعية ضد الأبرياء وفضائح حقوق الإنسان في سوريا، فهي أوقح ما يمكن تصوره على وجه الأرض، خاصة حين تأتي من أعتى « المفسدين في الأرض»، وقتلة الأنبياء وأحفاد « شيلوك» وأصحاب الذراع الطويلة في الفتن والتعذيب والحروب الدموية بين بني البشر … تصريحات فاشية غير مسبوقة بهذا الوضوح، لكنها تؤشر على رغبة « المركز» في اختراق القوى المسلحة من جهة، والعمل على إطالة أمد الحرب إلى أقصاها من جهة أخرى، بحيث تطول الحرب وتطول، إلى أن يعجز أي طرف فيها، بما في ذلك التنظيمات الجهادية، عن تهديد النظام الطائفي أو النظام الدولي أو الإقليمي، ومن ورائهم جميعا « إسرائيل».

كتائب عبد الله عزام

مهما يكن الأمر؛ فقد كانت الأرضية مهيأة تاريخيا وعقديا وأخلاقيا وشعبيا لمقاتلة النظام. وكما تربص الشعب السوري بفرصة لمواجهة النظام فقد فعلت « الجماعات الجهادية» وأصحاب الفكر الجهادي الأمر نفسه. وفي السياق تتواجد على الساحة السورية « كتائب عبد الله عزام» التي لم تكن معروفة قبل هجمات11 أيلول/ سبتمبر 2001. ومن باب الإشارة فقد ظهرت على متن وسائل الإعلام في تشرين الأول / أكتوبر 2004، بعد الهجوم الذي تعرض له فندق « هيلتون» في « منتجع طابا» بصحراء سيناء المصرية إلى جانب تفجيرين على شاطئين في نويبع إلى الجنوب من طابا. ورغم أنها نفذت سلسلة من العمليات كان أبرزها مهاجمة ناقلة النفظ اليابانية، وأصدرت بيانا بذلك في 2/8/2010، إلا أن نشأتها لا زالت طي الغموض حتى هذه اللحظة. وبدا نشاطها أقرب ما يكون إلى الساحة اللبنانية، حيث لا تخفى، على مراقب، رقابتها الصارمة للوضع السياسي والأمني والطائفي في لبنان.

لا شك أن « الكتائب» كانت من أنشط الجماعات الجهادية في بلاد الشام، لجهة بيان الموقف السياسي بين الحين والحين. وكان من المنتظر أن تكون أكثر نشاطا خلال الثورة السورية، لكنها، على العكس من ذلك، بدت وكأنها متوارية، رغم أنها كانت موضع اهتمام الإعلام اللبناني على وجه الخصوص!!! وبدت مواقفها ونصائحها العسكرية والأمنية كما لو أنها جماعة جهادية شعبية تتطلع إلى مزيد الاقتراب من القوى الشعبية المسلحة كـ « الجيش الحر»، مع احتفاظها بأهمية الجانب العقدي في الوعي بـ « حقيقة المعركة». وهي مواقف أقرب ما تكون إلى مواقف الشيخ أبو بصير الطرطوسي.

وفي سلسلة بياناتها: { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ – 22/10/2011 }، تحدثت في البيان رقم (7) عن الثورة السورية. وقدمت فيه قراءتها، مشيرة في البند الأول منه إلى أن: « بلاد الشام مقبلةٌ على حرب طائفية قد بدت بوادرها»، ودعت: « الجماعات الجهادية العاملة في بلاد الشام وسيناء أن تكثف ضرباتها لدولة اليهود ومصالحها وتجعلها ضرباتٍ تترى؛ لإشغال اليهود عن توجيه دعم عملي لنظام الأسد، ولإيصال رسالة للغرب ولليهود مضمونها أن محافظتكم على نظام الأسد لن تجعلكم بمأمن من ضرباتنا».

وفيما يخص « الجيش الحر» قال البيان: « نثمِّن انقلابكم إلى قتال الظالمِ بشار وشبيحته، وندعو أهلنا في بلاد الشام إلى توعية هؤلاء المنشقين بحقيقة المعركة … و … ننصح المنشقين من الجيش ومن له عمليات عسكرية بأن يركزوا عملياتهم على شبيحة النظام؛ فمعظمهم من الموالين لبشار عقديا بحكم انتسابهم لطائفته العلوية، ويرون نهايتهم بنهاية بشار».

وتضمن البيان، أيضا، نصائح عسكرية وأمنية، مع الدعوة إلى التعامل بـ: « حذر مع تُجَّار السلاح ولاسيما الشيعة» منهم. أما بخصوص السنة في لبنان، فقد دعاهم البيان إلى: « أن يسعوا إلى التسلح، وإلى أن لا يخلو بيت منهم من قطعة سلاح صالحة؛ ليدافعوا عن النفس والعرض»، مع تذكير الطوائف في بلاد الشام، ولاسيما « النصارى» و « الدروز»، بما يفعله الشيعة بأهل السنة من جرائم، ومخاطبة عقلاء الطائفتين بالقول أن: « السلام الذي هو خيارنا السياسي الراجح ويحثنا عليه ديننا؛ هو السلام العادل مع من يجنح إليه، وأما من يعادينا بفعله وكلامه، وينصر مَن يعتدي علينا؛ فهو من اختار لنا كيف يكون شأننا معه، فكفُّوا عنا أذى السفهاء وإلا كففناه بفعلنا».

فتح الإسلام

لكن هذه المواقف، أقل حدة من مواقف الجماعات الأخرى المتواجدة على ظهر الساحة السورية مثل حركة « فتح الإسلام»، التي أعلنت عن نشأتها في بيان صدر بتاريخ 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006. واتخذت لها من مخيم نهر البارد، شمال لبنان، موطئ قدم. ولا شك أن للحركة نشأة تاريخية معقدة يصعب على الخصوم والمغرضين فهمها أو تتبع صيرورتها. لكنها جماعة عقدية صرفة تقع في صلب تيارات « الجهاد العالمي». ولهذا تم تصفيتها في أوائل شهر أيلول / سبتمبر 2007، في عملية وحشية نفذها الجيش اللبناني، بدعم من كافة الأطراف المحلية والفلسطينية والإقليمية والدولية. وتبعا لذلك اضطرت إلى النزول تحت الأرض. وهي الآن تعمل على الساحتين اللبنانية والسورية، وأغلب قياداتها في سوريا.

منذ اندلاع الثورة السورية صدر عن « اللجنة السياسية لتنظيم فتح الإسلام» حوالي خمسة قراءات، وكانت الأولى بيانا بعنوان: « نطق الرويبضة – 13/1/2012»، وصبت فيها جام غضبها على مهمة المراقبين العرب، حين وصفت تصريح محمد الدابي، رئيس الفريق، بـ « الرويبضة» إثر تصريح أدلى به في أعقاب زيارته لمدينة حمص وقوله: « لم نر في المدينة شيء مخيفا»!!! وخلصت في البيان إلى التأكيد على وضوح الراية في مواجهة النظام: « لتكن رايتكم راية التوحيد راية نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن إخوانكم في فتح الإسلام نقاتل معكم جنباً إلى جنب تحت هذه الراية ، نحورنا قبل نحوركم ، نُذيق عدوكم الهوان ونستعذب معكم حلاوة الإيمان وقد كان لنا مع هذا النظام صولات وجولات لن ينساها أبدا».

وفي القراءة الثانية « الثورة السورية وصراع الأيدي الخفية – 29/1/2012 » تحدثت بإسهاب عما أسمته بـ « صراع الأيدي الخفية» على سوريا والمنطقة بين القوى العالمية، الشرقية والغربية، وسعيها لجر المنطقة إلى حرب طائفية « دينية بين السنة والرافضة» بهدف تقسيمها. وللخروج من هذا المخطط يتوجب على الشعب السوري: « أن لا يقف عند حد التظاهر بل عليه أن يزحف نحو مقرات الحكومة وأن يتسلح بأي شيء زيادة على العقيدة والإيمان». أما « الجيش الحر» فعليه: « أن لا ينخرط تحت لواء المجلس الوطني يد الغرب وأن لا يعوّل على أميركا الحاقدة على المسلمين والمحاربة لهم بل عليه أن يرفع راية لا إله إلا الله … ومن ثم الاعتماد على جهوده الجبارة وطول نفس الشعب السوري … وأن يعمل على إقناع الطوائف بعدم جدوى الوقوف مع هذا النظام ويحاول بكل جهده اغتيال بشار الأسد وأخوه ماهر لتسريع إسقاط المخطط قبل فوات الأوان … ».

هذه الدعوة لـ « الجيش الحر» كررتها اللجنة السياسية للتنظيم في قراءتها الثالثة الثورة « السورية والفاشية العالمية – 10/2/2012»، ووردت في معرض التعليق على اجتماع مجلس الأمن الدولي للنظر في المسألة السورية، وهو الاجتماع الذي استخدمت فيه روسيا والصين حق الفيتو لإجهاض قرار يدين النظام السوري. وتحدثت اللجنة فيه للمرة الثانية عن سيناريو « المركز» لتقسيم المنطقة، وإبقائها ساحة للحرب بالوكالة، عبر دعم النظام السوري، وتفعيل الدور « الإسرائيلي»، لضرب إيران، تمهيدا لإشعال الحرب الطائفية. ورأت أن هذا المخطط يستهدف بالدرجة الأساس ضرب المشروع الإسلامي الناهض، ذلك:

« إنّ الشرق والغرب متفقون على عداوة الإسلام والمسلمين … ولأنّ الخوف من صحوة المارد الإسلامي وقرب ولادة خلافته الجديدة حاضر، فإنّ دفع البلاد للحرب الأهلية والطائفية كفيل بتطبيق مخططات الشرق والغرب في تقسيم البلاد ووأد أيّ مشروع خلافة قريبة, وهذا الدفع يعني الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى والنفوذ ثانياً وضمان بقاء ثروات المنطقة الإسلامية بين أيديهم ثالثا، إذاً فلا بد أن يكون الصراع داخل أراضي المسلمين المراد تقسيمها، أما تنفيذ العمل فمقرون بموافقة دولة لم تقل كلمتها بعد، دولة قامت على الحروب، هي حليفة الغرب وجُل رجال دولتها من الشرق، إنها الدولة التي ترسم سياسات أميركا والغرب الخارجية وتتحكم بسياساتهم الداخلية، إنها دولة الكيان الصهيوني المسخ».

وفي القراءة الرابعة لها: « الثورة السورية وسقوط القناع العالمي – 16/3/2012 » قالت اللجنة السياسية للحركة أن محور السياسات الدولية والإقليمية والنظام الطائفي في سوريا هو « أمن الكيان الصهيوني». وفي السياق تساءلت القراءة: « أين يقع أمْن الكيان الصهيوني على الخارطة الآن بعد عام على انطلاق الثورة في سورية ؟ هل بمساندة النظام النصيري أم بإسقاطه؟ هل بضرب إيران وإضعافها أم بتركها للاستفادة من قوتها ضد أهل السنة الطرف المخيف؟ وإذا كانت الثورة السورية تهدد وجود الصهاينة وأمنهم فلماذا تقمعها إيران ولا تستفيد منها وهي التي تتبجح على الملأ بنيتها إزالة الكيان؟ » وتحدثت في ثلاثة محاور عن: « استعدادات الدول وموقعها من الحرب و سياسة النظام النصيري (الدمية) وحلفاؤه و سياسة الحرب عند القوى العظمى».

وقبل أن تختم وجهت نداء لمن أسمتهم بـ « إخوة العقيدة ورفقة السلاح»، قالت فيه إن: « الجميع قد عرف موقعه من هذه الحرب وقد آن الأوان لنعرف موقعنا منها، فنحن يجب أن لا نبقى أداة غير مباشرة يتذرعون بنا لاستكمال مخططاتهم، بل علينا أن نتوحد لنصبح طرفاً لنا تواجدنا المؤثر وخطتنا الاستراتيجية ومنهجنا الواضح لأننا في هذه الحرب لن نواجه عدواً واحداً بل أعداءً وخصوماً، والحاضنة الآن متوفرة على عكس الماضي».

لكن في الختام ردت على تساؤل مفترض عن دور « فتح الإسلام» الذي بدا إعلاميا أكثر منه عسكريا، فقالت بـ: « أن إخواننا متواجدون مع صفوف الشعب ونحن لا نعلن عن شيءٍ لاعتباراتٍ لا مجال لذكرها هنا, ولأن تجربة البارد علمتنا التعاون على قضاء حاجاتنا بالسر والكتمان إلى أن تحين اللحظة المناسبة التي سنقوم فيها بالإعلان عن ما يسر ويشفي صدور قوم مؤمنين».

وفي آخر قراءاتها الصادرة بعنوان: « الثورة السورية وحل اللاحل – 5/6/2012» رأت فيه أن الغرب هيأ الساحة لحرب طائفية قادمة لا محالة، كي يمرر مشروع التقسيم، تحت غطاء الفصل بين المتحاربين وحماية الأقليات. لكنها تقول أن: « الوقت انتهى والمراد حصل، فالنظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقلوب الناس امتلأت حقداً، والحرب المسماة أهلية أو مذهبية أصبحت أمراً واقعاً لرسم الخارطة الجديدة للمنطقة … وأرجل الرافضة في إيران والعراق ولبنان غاصت في مستنقع الدم السوري السني المسلم، ولا مفر من حقد أهل السنة على النصيرية، وهذا الغوص الذي غاصوه بأرجلهم سد الباب أمام القائلين إن نسبة الرافضة والنصيرية في سورية قليلة بالنسبة للسنة لأن الحديث الآن سيكون عن حرب أهلية في منطقة وليس في بلد». وبحسب القراءة إياها ثمة ثلاثة أطراف تتواجد على الساحة السورية الآن، هي:

(1) « النظام ومن يواليه الذين يشنون حربهم على الثورة متذرعين بوجود الإخوة المجاهدين.

(2) المنشقون عن النظام وينقسمون إلى قسمين: الأول هو المجلس المسمى بالوطني مع من رهن له نفسه من الجيش المرتهن، وهذا القسم حمل على عاتقه مقاتلة الإخوة المجاهدين بعد سقوط النظام. وإن شئتم اقرؤوا تصريحات بعض ضباط الجيش المرتهن ضد إخواننا الذين يجاهدون النظام على الأرض، والقسم الثاني الذي لا يزال يعتبر نفسه حراً ولم يرهن نفسه لأحد .

(3) وهو الأهم بالنسبة لنا، هم أهل الثغور، الطائفة المنصورة، هم المجاهدون الكرارون بإذن الله، هؤلاء الذين دعمهم الناس لما رؤوا من صدقهم وإخلاصهم، وهذا الطرف عندما يتخلص من هذا النظام الساقط لا محالة، سيبدأ فيما بعد حربه الطويلة ضد قوى الغطرسة الطامعة في البلاد».

بالمقارنة؛ فإن ما قدمته « فتح الإسلام» من رؤية سياسية للصراع في سوريا، مع التشديد على الرؤية العقدية التقليدية، لجماعات « الجهاد العالمي»، يبدو أغزر وأكثر عمقا مما قدمته « كتائب عبد الله عزام» التي بدت بياناتها وكأنها تنأى بنفسها عن الصراع الدولي، على الأقل ابتداء من مرحلة الثورات العربية. هذا الخط السياسي – العقدي قد لا يبدو واضحا لدى الكثير من الجماعات الناشئة في سوريا والتي يصعب حصرها، مثلما يصعب تتبع عقائدها مثل جماعة « أنصار الشام – رايات التوحيد و كتيبة الأنصار» في حمص أو « أنصار السنة» في اللاذقية. لكنه شديد الوضوح لدى « جيش الصحابة»، الذي ينتشر في الشمال السوري.

جيش الصحابة

فقد ظهر « جيش الصحابة في بلاد الشام» وفق أول بيان صادر له في 14/10/2011، وكانت له صفحة إعلامية متواضعة على موقع التواصل الاجتماعي « فيس بوك قبل أن تختفي نهائيا، إلا أنها تميزت، في حينه، عن غيرها من صفحات الثورة والجماعات والقوى الإعلامية، بصراحتها في قراءة الصراع، وإيرادها لأخبار أمنية وعسكرية، رفضت غرف الدردشة وصفحات الثورة ووسائل الإعلام نشرها في حينه، خاصة لما كان الخطاب الإعلامي للثورة يتجنب أي ذكر لطائفية النظام. لذا لم يكن الجيش ليتغاضى عما اعتبره: « انتقائية وسطحية لوقائع الثورة، بل غرور غير مبرر ولا مسؤولية تجاه الكثير من القائمين على إعلام الثورة».

وعلى قلة أدبيات الجيش إلا أن قراءاته الأمنية والعسكرية جاءت أعمق شأنا من بيانه الأول الذي تحدث فيه عن جرائم الأب والابن في النظام السوري، والذي حدد فيه موقفه من دعوات التدخل الدولي ومشروعية قتال النظام بالقول: « نربأ بأنفسنا عن .. الدعوات التي علت مطالبة باستقدام قواتٍ أجنبية لإسقاط نظام الأسد، فلسنا نحن من ينخدع بالغرب وبكذبهم، فهم من دعم النظام سابقا، وهم من تعاون معه، وهم من قتل الأبرياء في العراق، وهم من يدعم كيان يهودٍ المغتصب، فإننا نبرأ إلى الله من هذه الدعوات ومن كل من يقول بها، فهم لا يمثلون إلا أنفسهم، أما قتالنا نحن فهو في سبيل الله وحده، ثم لتخليص الأمة من شرور هذا النظام المفسد، … إن إخوانكم كانوا قد أعدوا العدة لقتال هذا النظام قبل سنين من اندلاع الاحتجاجات ضده، لكن أمر الله جل في علاه كان، وعلى إثر هذه الجرائم المتكررة التي يقوم بها النظام ضد أهلنا جاء هذا الإعلان عن تأسيس الجيش والله الموفق وعليه نتوكل وبه نستعين».

أما قراءته المميزة فجاءت بعنوان: « الثورة السورية … سلسلة الأخطاء والبُعد الغائب! 7 جمادى الثانية1433 هجرية = 29/4/2012»، وفيها (1) عرْض مستفيض لاستراتيجيات النظام، العسكرية والأمنية والاقتصادية، في التعامل مع الثورة السورية، و (2) نقد لما اعتبره أخطاء فادحة في الأداء العسكري والأمني لـ « الجيش الحر، و (3) تحذير من الاغترار بالقوة على خلفية السيطرة على الأرض مع عدم القدرة على الاحتفاظ بها، مقابل (4) وجوب الانتباه للتفوق الخطير للجيش الحكومي على الأرض.

أما في قراءته الثانية « الثورة السورية … الماحقة .. والحل المفقود ! 27 جمادى الثانية – 1433 هجرية = 19/5/2012»، فقد جاءت تقييما لواقع الثورة بعد مرور عام ونصف على اندلاعها. وفيها تشخيص لمكانة الثورة السورية محليا وإقليميا ودوليا. فالعدو هو: (1) النظام النصيري وأدواته، و (2) إيران الرافضية وأذرعها في العالم الإسلامي، و (3) روسيا ومصالحها. وتبعا لذلك فإن: « حل الثورة السورية ليست من الداخل السوري فقط، وهذه قاعدة (نؤكد) عليها، فواقع الساحة والصراع هنا يختلف كثيرا، ويحتاج إلى تأمل وعمق نظر، ولا يصلح أن يُنظر لهذه الثورة على أنها مشابهة في المعطيات لغيرها، وأن استنساخ التجارب من الثورات العربية أمر ممكن» .. هذه: « الثورة الماحقة لأذرع الروافض ونفوذهم ودولة النصيرية وإجرامهم وإمبراطورية إيران ومكرها» ترى في « الحل المفقود» ضرورة العمل على ثلاث جبهات في ذات الوقت، وهي جبهة:

(1) « الداخل السوري»، عبر « معركة استنزاف ضخمة وطويلة لقوة النظام الأمنية والعسكرية»، وكذلك « استهداف كل ما هو نصيري»، بما يتيح نشوء منطقة عازلة، بفعل الضغط العسكري والأمني، بعيدا عن أي تدخل لحلف « الناتو»؛

(2) و « ضرب المصالح الإيرانية في كل مكان، والتعامل مع الروافض كطائفة محاربة أينما كانت، باعتبارها: الخطر المحدق ببلاد المسلمين، والسم المدسوس بينا، والبذرة الخبيثة التي بدأت تؤتي أكلها»؛

(3) وأخيرا « استهداف المصالح الروسية»، لكي تعلم روسيا: « بأن دعمها للأسد لن يمر هكذا، وأن المواطن الروسي أصبح كالمواطن الأمريكي بعد الثورة السورية، مستهدفا من قبل المجاهدين أينما ارتحل».

وفي الختام رأت القراءة بأن: « العازم على قتال قوات الأسد على الأرض وحدها دون النظر لجذر المشكلة وحلها، ودون استئصال الورم الخبيث، وقطع الأيادي الرافضية التي تمده بالرجال والمال وما يلزم، فلن يكسب إلا ضياع الوقت والمجهود، وحتى لا ننصدم: فالثوات قد تنجح وقد تفشل، بسبب عدم الأخذ بالأسباب حق الأخذ».

لا ريب أن القراءات السياسية التي قدمتها « فتح الإسلام» وكذا القراءات الأمنية والعسكرية التي قدمها « جيش الصحابة» مدهشة بحق، لما تميزت به من عمق وخبرة ودراية بأحوال الأمة والصراعات الطاحنة التي تجري أعظم وقائعها اليوم في بلاد الشام. لكنها قراءات تكتمت على النشاط العسكري والأمني لكلا الجماعتين، بخلاف « كتائب أحرار الشام » التي أعلنت عن عشرات العمليات المسلحة ضد النظام الطائفي وميليشياته وآلياته ومؤسساته، بينما تأخرت نوعا ما في بيان هويتها وقراءاتها لحقائق الصراع.

كتائب أحرار الشام

على موقع التواصل الاجتماعي « فيس بوك»، حيث موقع « كتائب أحرار الشام»، يرد التاريخ 15/3/2011 للدلالة على « البداية». وفيه كلمة ظهرت كتسجيل مصور، أصدره المكتب الإعلامي في 4/6/2012 بعنوان: هل أتاك حديث الكتائب». لكن قبل هذا التاريخ ظهر أول تسجيل صوتي في 21/4/2012 بعنوان: « بشائر لأهل الشام في ثورة الشام». وهي بلا شك كلمة رزينة، مضمونا وأداء، حيث أصلت فيها الكتائب لحقيقة الصراع في الشام. وفي الجوهر لا تختلف قراءتها العقدية والسياسية لحال الأمة عن قراءة الجماعات الجهادية الأخرى.

في بداية الكلمة تستعرض « الكتائب» حال تسلط النظم العربية على الأمة، لاسيما تسلط النظام الطائفي الذي أفسد الدين والبلاد والعباد: « فلا تجد من أهل هذا البلد الطيب إلا متنفعا يعيش تحت وطأة المال الحرام أو حرا يرزح تحت وطأة الأغلال والسلاسل والقيود أو فارا بدينه وكرامته تاركا وراءه بيته وأهله وشوارع بلدته وأزقتها وهواءها ليموت في الغربة والمنفى مبتلى في طاعون القهر». لكن أجرأ ما ورد في الكلمة هو الموقف من العلماء، إذ، بحسب التسجيل، فإن: أسوأ ما ابتلي به هذا الشعب العظيم، أن أخرج له الطواغيت من ثنايا خبثهم، وأعطاف شرهم، مشايخ ترأسوا للدين، وتصدروا فيه للفتيا على غير هدى، فلووا أعناق النصوص، لتناسب شهوات أسيادهم، وحرفوا الكلم عن مواضعه، ليليق بمشيئة معبوديهم من المتجبرين المتكبرين، فعطلوا حدود الله، وأهملوا شريعته، وأقعدوا الناس عن الآخرة، واستفزوهم لأمر الدنيا، وأمروا بترك الجهاد في سبيل الله، لأنه في زعمهم إرهاب، وحضوا على البعد عن السنن، لأنها في تلبيسهم تخلف ورجعية، فكانوا بحق رؤوسا جهالا، أفتوا على غير النهج، وقالوا بما لم يقله الله ورسوله، فضلوا وأضلوا».

وفيما بدا منها محاولة استباقية لتجاوز أية طعون شرعية من الداخل أو الخارج، فيما هي عازمة على القيام به، لجأت « الكتائب» إلى مخاطبة: « أبناء أمة الإسلام في كل بقاع الأرض، وفي سوريا خاصة» بالقول: « إن جهادنا هذا العدو لهو من أعظم الجهاد، ويأتي في أصعب المراحل التاريخية وأكثرها دقة وسخونة، حيث شارف المشروع الصفوي القذر على وضع خطوطه العريضة في أرض الشام، وقد بدأ نظام الأسد فعلا بنشر فكر التشيع عبر وسائل متعددة الأشكال، وإنْ كانت قذارة المضمون واحدة. فمنذ أن قامت الثورة الخمينية في إيران كان من أول وأهم مبادئها تصدير الثورة: أي نشر التشيع في العالم السني المحيط بها كخطوة لنشر التشيع وهدم الدين في العالم قاطبة، مستخدمة كل وسيلة لبناء الهلال الشيعي الذي يصل إيران بالعراق وسوريا بلبنان وفلسطين. هذا الهلال الذي لو تم لكان أكبر خدمة للصهاينة على أرض فلسطين، إذ يعرف عن الرافضة أنهم لا يقاتلون عدوا بل يوجهون حرابهم وسيوفهم ضد المسلمين من أهل السنة والجماعة».

وفي 8/5/2012 أصدرت إحدى كتائبها المسماة « كتيبة الشهباء» كلمتها الأسبوعية بعنوان: « رسالة الشهباء». وهي تسجيل صوتي وجهت فيه الكتيبة تسعة رسائل إلى: « (1) الشباب الثائر، و (2) العالم الغربي المتآمر، و (3) علمائنا وعلماء بلاد الشام وعلماء العالم الإسلامي عامة، و (4) أهلنا من الأغنياء، و (5) عصابات الأسد وميليشياته وشبيحته وزبانيته، و (6) إخواننا من الشباب الثائر والأبطال المجاهدين، و (7) إخواننا من الأسرى الصامدين، و (8) أمهاتنا .. أمهات الشهداء وزوجاتهم وأبنائهم، و (9) أهل حلب الأبية».

وفي الرسائل التسع؛ ثمة ثوابت للتذكير، ومطالب للعمل، وتوجيهات للالتزام، لكل فئة من الفئات المستهدفة. لكن أميز الرسائل كانت تلك التي ذكَّرت الغرب بخذلانه للسوريين، وصمته على مجزرة حماة سنة 1982، فكانت الرسالة بقسمٍ قاطع: « والله ما رأينا منكم ولا عهدنا عليكم إلا التآمر والخيانة. فما زال يوم مجزرة حماة ومجازر الثمانينات ماثلة في أذهاننا ولن ننسى يومها خذلانكم وسكوتكم وتآمركم»، وكذا الرسالة التي خاطبت العلماء بصريح القول: « ما هكذا كان علماء بلاد الشام سابقا .. اتقوا الله .. قوموا إلى جنة عرضها السماء والأرض .. قولوا كلمة الحق في وجه هذا الطاغية .. أشعلوا النار من تحت هذا النظام الأسن .. قودوا شعب سوريا إلى الجهاد في سبيل الله .. كونوا قدوة لهذا الشعب الثائر .. قودوه إلى ساحات الحرية .. أصدروا الفتاوى وانشروا المنشورات .. وحرضوا أبناءنا على الجهاد والاستشهاد».

أما الرسالة الموجهة لمدينة حلب في حينه، حيث موطن الكتيبة، فقد بدا العتاب فيها واضحا: « إن أخشى ما نخشاه عليكم أن يستبدل الله بكم قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم . نقول: ما هكذا عودتم أقرانكم … يا أهل حلب: النخوة النخوة .. الشدة الشدة .. والشهادة الشهادة .. ثوروا في وجه هذا الخائن الجبان .. اضربوا فئران الأسد في كل مكان .. أحرقوا الأرض من تحتهم .. اقعدوا للخونة كل مرصد .. ونعد أزلام النظام وأعوانه بأن كتيبة الشهباء التابعة لكتائب أحرار الشام ستكون نارا تلظى على أمن وجيش الأسد اللعين .. سنجعلها بركانا على شبيحة النظام الفاسد .. سترون من سرية أبي بكر الصديق والصارم البتار والعز بن عبد السلام ما تشيب منه الولدان».

في 4/6/2012 كان المتابعون للشأن السوري على موعد مع هوية « الكتائب» عبر التسجيل المرئي لها بعنوان: « هل أتاك حديث الكتائب». ولسنا ندري إذا كان « حديث الكتائب» عن نفسها سيرد لاحقا في سلسلة حلقات، كما كان حال السلسلة الشهيرة لأبي مصعب الزرقاوي، والتي تحدث فيها عن الرافضة في العراق، وجاءت بعنوان: « هل أتاك حديث الرافضة؟»، لكن النص أو التسجيل بدا كافيا للاطلاع على مبرر وجود « الكتائب» وقراءتها للصراع، أو لمعرفة منهجها وعقيدتها أو مواقفها من أطراف الصراع وعلاقتها بقوى الثورة.

فقد بدت « الكتائب» منذ اللحظة الأولى على النقيض من القوى السياسية والشعبية التي كانت تنادي بـ « « سلمية الثورة»، فـ: « مُنذُ أنْ هَبَّ أهلُنا في شام ِالعزَّةِ يَنْشُدونَ خَلاصَهم … عَلِمنا مُنذُ البدايةِ أنَّ الأمْرَ لن ينْقَضِيَ بمَسِيرات احتجاج أو اعتصاماتٍ في ميادينَ أو ساحاتٍ عامة ٍعلى أهمِّيِتِها، فقد بَلَوْنا هذا النِّظام َالطائفيَّ المعتديَ على الأمَّةِ ومُقَدَّراتِها, وخَبِرْنا جبروتَه وبطشَه بطُلابِ العزَّةِ والكرامةِ، وشَهِدْنا إصْرارَهُ على العُدوانِ وإزهاقِ الأَرواحِ»، لهذا: « (1) كانت كتائبُ أحرَارِ الشَّامِ, أُولى الكتائبِ المنظَّمةِ وُجوداً و (2) هيَ كتائبُ ومَجاميعُ مؤمنةٌ, (3) علنيةُ الوجودِ، (4) أَطَّرَ الإسْلامُ عَمَلَها، مُسْتقلَّةٌ, و (5) ليستِ امْتِداداً لأيِّ تنظيمٍ أو حِزْبٍ أو جماعَةٍ، (6) تُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ (7) تَذُودُ عن حِياضِ الدِّينِ و (8) تَذُبُّ عنِ المُسْتَضْعَفِينَ … ».

إذن؛ « الكتائب» سياسيا: « تهدُفُ الكتائبُ لإسقاطِ هذهِ العصابةِ المجرمةِ وتقويضِ أركانِها, وتسعى لرِفعة ِالأُمَّةِ والأَخذِ بأيديْ أبنائِها لجادَّةِ الخيرِ والعملِ على إرساءِ نظامِ حُكْمٍ إسلاميٍّ عادلٍ راشدٍ بوسائلَ مشروعةٍ وبرؤيةٍ استراتيجيةٍ تأخذُ بعينِ الاعتبارِ واقعَ أهلِنا في سوريَّةَ بعدَ عُقودٍ من ممارساتِ نظامِ البعثِ ومحاولاتِهِ الدَّؤوبةِ لحرفِ مَنهَجِ التَّفكيرِ لدى العامَّةِ من أبناءِ شعبِنا».

وفي « الاعتقادِ والأحكام»، هي متبعة لـ: « كتابِ اللهِ وصحيحِ سنَّةِ نبيِّهِ معَ تقديمِ فهمِ سلفِ الأمَّةِ الصَّالحِ فيما لم يكنْ حادثاً». وعليه فإن: « كلُّ محظورٍ في الشَّرع ِفهو متروكٌ عندَنا, وما كانَ جائزاً فهو يدورُ بينَ الفعلِ والتَّركِ بناءً على مُوازنةِ المصالحِ والمفاسدِ وضوابطِ السِّياسةِ الشَّرعيةِ».

وفي علاقتها بعموم القوى والشرائح الاجتماعية والسياسية والأقليات والإثنيات: « تُسالمُ كلَّ مَنْ سالمَ أهلَنا. ولكنْ مَنْ أعانَ النِّظامَ في حربِهِ على شعبِنا المُصابرِ, أو سعى لإخمادِ ثورتِهِ المباركةِ فهو هدفٌ مشروعٌ. وعلى هذا فإننا لسْنَا بصددِ التصادمِ والاقتتالِ مع المخالفينَ بناءً على خلفيةِ الفكرِ والاعتقادِ, وإنَّما على دورِهم في العدوانِ الحاصلِ. فالشَّبيحةُ والجنودُ وعناصرُ الاستخباراتِ أهدافٌ مشروعةٌ من أَيَّ طائفةٍ كانوا أو لأيِّ عِرقٍ ينتمونَ ».

أما عن علاقتها بعموم القوى المقاتلة في الثورة فتقول: « نَنظرُ لإخوانِنا تحتَ المُسمَّياتِ الأُخرى بأنَّهُم في سَعَةٍ منْ أمرِهِم ما دامَتِ الغاياتُ مشروعةً»، لكن دون أن تقطع حبل الوصل والتنسيق مع أحد منها: « اعتقادِنا بأنَّ أصحابَ المشروعِ الواحدِ يجبُ أنْ تتضافرَ جهودُهُم و تتعاضدَ». ولعل هذه الفقرة كانت المدخل للإعلان عن تشكيل« جبهة ثوار سوريا في 4/6/2012» في مدينة اسطنبول التركية. ولم يكد يمض يوم على تشكيل « الائتلاف الجديد» حتى أعلنت « الكتائب» عن تعليق عضويتها فيه.

ففي « حديث الكتائب» وردت جملة مهمة في بيان هويتها تقول بأن:« الكتائب: ليستِ امْتِداداً لأيِّ تنظيمٍ أو حِزْبٍ أو جماعَةٍ». وفي التدقيق ظهرت هذه « الجملة» وكأنها السبب الرئيس لبيان تعليق العضوية، الرافض لـ: « أن يجيّر هذا الأمر ( جبهة ثوار سوريا) لنكون ذراعًا عسكرية لواجهة سياسية متمثلة بالمجلس الوطني». لكن هناك أسباب أخرى تمس منهج وعقيدة « الكتائب»، وما تم الاتفاق عليه في الميثاق التأسيسي، أوردها البيان في النقاط الأربعة التالية:

(1) « الشريعة الإسلامية الغراء هي مرجعيتنا المعتمدة في أمورنا كلها وكل ما يصادمها أو لا يكون منضبطاً بها فهو مرفوض ابتداءً.

(2) نحن أقدمنا على تشكيل الجبهة بوصفها ائتلافاً ثورياً جهادياً متكوناً من فصائل مستقلة ولسنا تمثيلاً عسكريًا لأي كيان قائم.

(3) المجلس الوطني يضم أفاضل نحترمهم وآخرين نعلم يقيناً بأن جهودهم منصبة على عرقلة جهاد الشعب لنيل حقوقه. وعلى هذا فإننا ليس لنا أية علاقة ارتباط مع المجلس الوطني أو غيره من الكيانات السياسية والعسكرية .

(4) تعليق عضويتنا في الجبهة حتى يتم الرجوع عما ذكر رسمياً ويجري تبني الميثاق الذي توافقنا عليه مع الأخوة الآخرين».

وحتى الآن لم يتوفر لدينا أية نصوص أو تسجيلات أو وثائق عن محتوى الميثاق ولا عن القوى المعنية بالائتلاف الجديد المسمى بـ « جبهة ثوار سوريا». كما لا تتوفر حتى كتابة هذا النص أية تعقيبات جديدة من « الكتائب» أو من الجهات المعنية ذات الصلة.

جبهة نصرة أهل الشام

في 22/5/2012 صدر الجزء الأول من تسجيل مرئي طويل وبالغ الإثارة، بعنوان: « صدق الوعد». ولدى معاينة التسجيل ظهرت مجموعات محترفة وضاربة، تنشط عسكريا وأمنيا ضد النظام الطائفي في سوريا، بحيث لم تفلت من ضرباتها الثكنات العسكرية ومقرات الأمن والحزب والآليات العسكرية والأمنية والأفراد والحواجز وغيرها. كما أظهر الإصدار نشاط إغاثي للنازحين من المدنيين وذوي الحاجة، ونشاط آخر يتمثل باشتباكات مع قوى النظام ومليشياته في المدن والأحياء، ونشاط ملفت للانتباه يتمثل بانتشار المقاتلين بين الناس، متحدثين إليهم وهم راجلين أو راكبين آلياتهم، في أوسع الطرقات وأكثرها كثافة سكانية وحركة مرورية.

هؤلاء الذين ظهروا في التسجيل، من المفترض أن يكونوا أشد الناس تواريا عن الأنظار، لكنهم كانوا أكثر جرأة والتصاقا في الناس والساحات العامة من أية جماعة جهادية أخرى .. هؤلاء هم مقاتلو « جبهة النصرة» .. إحدى أشد الجماعات ضراوة في ساحات القتال.

جاء الإعلان عن ميلاد الجبهة في تسجيل مرئي بعنوان: « شام الجهاد»، والذي صدر في 24/1/2012، عن مؤسسة « المنارة البيضاء»، التابعة لها. أما « المسؤول العام للجبهة» فهو المكنى بـ « الفاتح أبو محمد الجولاني». ولدى معاينة التسجيل لم يظهر ذاك الحرص الكبير على بيان عقيدة الجبهة أو منهجها كما هو مألوف عادة حين ظهور جماعات جهادية جديدة. ولعل صدور التسجيل على متن « شبكة الشموخ الجهادية»، قبل غيرها من الشبكات، كان كافيا إلى حد ما لتزكية الجبهة. ومع ذلك فلم تحد كلمة الجولاني في قراءتها للصراع عن إجمالي قراءات الجماعات الجهادية السابقة عليها أو اللاحقة، خاصة فيما يتعلق بالمشروع « الصفوي». لكنها كانت أكثر وضوحا في الغاية من ظهورها، أو في الموقف من دعوات التدخل الدولي. فالجبهة ما ظهرت إلا: « سعياً منّا لإعادة سلطانِ اللهِ إلى أرضِه».

لا ريب أنه « سعي» يترتب عليه رفض الدعوات المنادية بالاستعانة: « بالعدو الغربيّ للخلاص من العدو البعثيّ، فهي دعوة شاذة ضالة وجريمة كُبرى ومُصيبة عُظمى لا يغفِرُها الله ولن يرحم أصحابَها التاريخُ أبدَ الدهر»، بما في ذلك التعويل على أية قوة شريكة له كتركيا والجامعة العربية. إذ: « لا عِبرة بالتغيير إن كانَ التغييرُ من الظلمِ إلى الظلمِ ومن السحت إلى السحت، فهذا هو عينُ الفساد مع اختلاف ألوانه»، وعليه: « فحذارِ أن تُخدَعُ الأمةُ خمسين سنة أخرى»، أما: « النجاةُ من كلِّ هذهِ المعامع أن ترجِعَ الأمةُ لأصلِها وتضعَ الثقةَ بمن هُم أهلٌ للثقة». ومن المؤكد أن « أهل الثقة» لن يكونوا سوى: « أبناء الأمةِ، وأخصُ منهم أهلَ الجهاد … الوحيدون القادرون على التغيير الحق».

ولما يكون على أهل الشام أن يدركوا: « أنَّ هذا النظام لا يزولُ إلا بقوةِ اللهِ ثمَّ بقوةِ السلاح»، فإن: « جبهةَ النصرةِ تحملُ على عاتقها أن تكونَ سلاحَ هذهِ الأمةِ في هذهِ الأرض وتغني الناسَ بعدَ اللهِ عزَّ وجل عن استنصار الغُرباءِ القتلة».

ولعل أطرف ما في التسجيل يتعلق بالتسمية المعتمدة للجماعة. إذ أن صيغة « الجبهة» تبدو أقرب ما تكون إلى الائتلاف من صيغة الجماعة أو الحركة أو الحزب أو التنظيم. وقد لاحظنا في التسجيل سلسلة من المجموعات العسكرية المتواجدة في عديد المدن السورية تعلن مبايعتها للجبهة وقائدها الذي اتخذ لقب « المسؤول العام» وليس « الأمير». وهي بهذه الصيغة تعني أنها إطار لاستيعاب القوى الجهادية التي تنتشر على إجمالي الساحة السورية، سواء من الأفراد أو الجماعات.

لم تكد الجبهة تعلن عن نفسها حتى أصدرت مؤسسة السحاب في 12/2/2012 تسجيلها المرئي للدكتور أيمن الظواهري بعنوان: « إلى الأمام يا أسود الشام»، ولم تكد وسائل الإعلام تتناقل فحوى الخطاب حتى ثارت ثائرة القوى السياسية والعلمانية والخصوم والمخالفين، لما اعتبروه دخولا مرفوضا من « القاعدة» على خط الثورة السورية، علما أنه لا علاقة جلية بين « القاعدة» و « الجبهة»، وبالتالي لا وجود على أي مؤشر لعلاقة بين الجبهة وخطاب الظواهري. ولا وجود، حتى اللحظة، لأي دليل رسمي أو قاطع على حضور « القاعدة» بصيغتها التنظيمية في الساحة السورية.

ومن المفارقات العجيبة في الأمر أنه في ذلك الحين كانت دعوات المطالبة بـ « الحماية الدولية» أو « التدخل الدولي» أو « الحظر الجوي» تملأ منابر الفضائيات في الوقت الذي كانت فيه القوى السياسية والإعلامية السورية ترفض مجرد الحديث عن « تسليح الثورة» أو « عسكرتها». وفي ذلك الحين أيضا لم تكن الجماعات الجهادية بالفاعلية التي هي عليها اليوم. وفي ذلك الحين أيضا لم تكن « جبهة النصرة» قد ظهرت إلا في المستوى الإعلامي.

لكن حتى ذلك الحين كان الحديث عن إعلان الجهاد وتقييم التجارب السابقة في أفغانستان والصومال والشيشان والجزائر وخاصة في العراق، فضلا عن مناقشة أفضل الوسائل والآليات والسياسات التي يجب اتباعها في الساحة السورية، والبيانات التي تصدر عن الجماعات الجهادية، تملأ الشبكات الجهادية والمنتديات الحوارية ومواقع التواصل الاجتماعي. وحتى الصحف والتصريحات الرسمية والتحليلات السياسية والأمنية، التي تتحدث عن احتمال تحول الساحة السورية إلى بيئة حاضنة لـ « القاعدة» وأخواتها، وجدت طريقها إلى كافة منابر الإعلام، بدء من واشنطن وأوروبا والناتو والجامعة العربية وانتهاء بالقوى الإسلامية التقليدية والشخصيات والأحزاب العلمانية واللبرالية. بل أن وسائل الإعلام تحدثت طويلا عن تدفق المتطوعين من العالمين العربي والإسلامي على سوريا للمشاركة في مجاهدة النظام السوري.

وأكثر من ذلك. فمنذ الأشهر الأولى للثورة؛ انتشرت أنباء تلك الحوارات والترتيبات التي جرت بين القوى الجهادية والمقاتلة في جبل الزاوية، والتي لم يغب عنها ضباط منشقون من « الجيش الحر» نفسه، الذي تتقاذف القوى الدولية والإقليمية ووسائل الإعلام قياداته، وتخضعها لاستنزاف سياسي يجعلها قابلة للاختراق في كل حين. ولا ريب أن أعين وأجهزة الأمن السورية والإقليمية والدولية لم تكن غائبة عما يجري في سوريا، أو عما ينتظر الساحة والمنطقة من صراعات مخيفة.

كل هذا كان بارزا وجليا. لكن لما قال الظواهري: « لا تعتمدوا على الغربِ ولا أمريكا ولا على حكوماتِ العربِ وتركيا، فأنتم أعلمُ بما يدبرون لكم، … ولا تعتمدوا على الجامعةِ العربيةِ وحكوماتِها التابعةِ الفاسدةٍ، فإن فاقدَ الشيءِ لا يعطيه»، قامت الدنيا ولم تقعد.

أما لماذا قامت؟ فلأن القوى السياسية نأت بنفسها عن أي « تسليح الثورة» أو « عسكرتها»، نزولا منها عند رغبة « المركز»، الحريص على إبقاء المجتمع السوري والثورة مجردا من أية عناصر قوة. وبالتالي لم يقبل هؤلاء بقول الظواهري: « يا أسودَ الشامِ استحضروا نيةَ الجهادِ في سبيلِ اللهِ لنصرةِ الإسلامِ والمستضعفين والمعذبين والأسرى، وللأخذِ بثأرِ شهداءِ المسلمين. استحضروا نيةَ الجهادِ في سبيلِ اللهِ لإقامةِ دولةٍ تدافعُ عن ديارِ المسلمين، وتسعى لتحريرِ الجولانِ، وتواصلُ جهادَها حتى ترفعَ راياتِ النصرِ فوق ربى القدسِ السليبةِ.

أما لماذا لم تقعد؟ فلأن بعض الخصوم أو المخالفين رؤوا في خطاب الظواهري استحضارا لتجارب سابقة أو راهنة لا تمثل بالنسبة لهم النموذج المثالي الذي يؤمنون به، شرعيا وسياسيا، بقدر ما تبدو توريطا لا طاقة لهم بتحمل تبعاتها. إذ أن توسيع المواجهة مع النظام ستعني الدخول في حرب إقليمية لا مبرر لها إلا إعاقة فرص التخلص منه!!! على الرغم من أن النظام نفسه، وبالصيغة الطائفية الفجة، لم يتوقف لحظة عن تهديد المنطقة والنظام الدولي برمته إذا ما تعرض ملكه لخطر الزوال، وعلى الرغم أن « المركز» نفسه لا تعنيه مطالب المعارضة وأهواءها بشيء إلا بقدر تبعيتها الدائمة له، وانصياعها لسياساته المدمرة، وحاجته إليها عند اللزوم.

الطريف في الأمر أن « جبهة النصرة» ظهرت بعد شهر تقريبا من خطاب الظواهري. لكن الموقف منها كان واحدا: الإدانة والتشكيك والتشويه، رغم أنها جماعة لا تختلف، في منهجها واعتقادها، عن « كتائب عبد الله عزام» أو « فتح الإسلام» أو « جيش الصحابة» أو حتى« كتائب أحرار الشام» و « أنصار الشام رايات التوحيد – كتيبة الأنصار» و « أنصار السنة» و « قبائل دير الزور» التي كانت أول من دعا في الاجتماع العشائري الشهير إلى إعلان الجهاد، فضلا عن عشرات الكتائب الجهادية الأخرى.

أما الحرب الشعواء على « جبهة النصرة» فقد انطلقت بعد إصدارها الثاني الذي جاء بعد أسبوعين من إصدارها الأول، وحمل عنوان: « غزوة الثأر لحرائر الشام 26/2/2012». وفي الإصدار تبنت الجبهة بأثر رجعي عمليات مدينة حلب التي استهدفت فيها تدمير مقري الأمن العسكري وحفظ النّظام في 10/2/2012. وبطبيعة الحال لم تكن الاعتراضات وحملات التشكيك والإدانة والاتهامات لتتعلق بأسلوب العمليات المتبعة، فالكثير من القوى المسلحة استهدفت مقرات الأمن وحزب البعث ومباني المخابرات الجوية ومؤسسات النظام وغيرها، ولم يعترض أحد عليها. وينسحب مثل هذا الموقف على كتائب منضوية تحت مسمى « الجيش الحر» الذي يقدم نفسه، إعلاميا، حاميا للسكان وليس مهاجما للنظام. لكن الاعتراض بالنسبة للخصوم والمخالفين يتعلق بالدرجة الأساس بدخول الجبهة نفسها على خط الثورة المسلحة في سوريا، محملة بالفكر الجهادي العالمي، علما أن لا أحد له سلطة مركزية أو وصاية شرعية على القوى المسلحة أو الحق بالثناء على هذه الجهة وإدانة تلك.

مع ذلك تظل « المخالفة» موضع اجتهاد كما قال الشيخ حسين بن محمود، أحد مشايخ الجهاد، في حين أن المشكلة التي تواجهها « جبهة النصرة » تتعلق بالقوى الخصيمة والمعادية التي تصر على إسقاطها شعبيا. وفي هذا السياق انصبت الإدانات الشديدة عليها إثر التفجير المزدوج في حي « القزاز» الذي استهدف فرع فلسطين في المخابرات السورية يوم 9/5/2012، وأدى إلى مقتل 55 شخصا وإصابة 372 بجراح. وبدا أن هناك تربصا مقصودا لغايته. فبعد التفجير نشرت جهة ما تسجيلا على موقع « اليوتيوب» باسم « جبهة النصرة » تعلن فيه تبنيها للتفجير، وعلى الفور سارعت وكالة « رويترز» للأنباء بنقل محتوى التسجيل، وبثته باعتباره بيانا رسميا!!! ومن بعدها طارت به وسائل الإعلام والصحف الأمريكية والأوروبية، كما لو أنه الفريسة المنتظرة، رغم أن بيان « اليوتيوب» حمل رقم (4) في حين أن آخر بيان صدر عن الجبهة كان حتى ذلك الوقت يحمل الرقم (7)!!! ورغم أن بيانات الجبهة تصدر عن مؤسستها « المنارة البيضاء» مكتوبة لا مرئية. لكن الأعجب أنه رغم صدور البيان الثامن عن الجبهة في 13/5/2012، والذي نفت فيه مسؤوليتها عن التفجير إلا أن بان كيمون، الأمين العام للأمم المتحدة، أعرب في 18/5/2012 « عن اعتقاده بأن تنظيم القاعدة مسؤول عن التفجيرات التي نفذت بسيارات ملغومة» .. هذه «السيارات » تقول بعض مصادر الثوار أنها ثلاث « سيارات » في الأصل، جرى إعدادها في مبنى الأمن بمنطقة جرمانة بدمشق، إلا أن إحداها انفجرت أثناء تفخيخها.

لا شك أن هذا السلوك الإعلامي والسياسي الدوليين هو سلوك فاضح وهو يتصيد المواقف، أو ربما يصنعها، كي يمرر بواسطتها سياساته المعادية، ليس فقط للجماعات الجهادية بل وحتى للثورة السورية. وهو أيضا نتاج أخطاء استراتيجية في الإعلام تمثلت في التأخر الشديد في التأكيد أو النفي دون مبرر منطقي.

أخيرا

لا شك أن هذه الخريطة للقوى المسلحة هي خريطة مبدئية لأبرز القوى المسلحة والفاعلة على الساحة السورية. ونعني بـ « الأبرز» تلك القوى التي تشكل عناوين كبرى تساعد على النظر في تطورات الثورة وأدائها العسكري لاحقا.

والعجيب أن الظاهر للعيان قد يوحي بانفلاش أمني، لاسيما إذا تعلق الأمر بالجماعات الجهادية. والصحيح أننا بقدر ما لاحظنا انفلاشا إعلاميا لا حدود له بقدر ما عانينا من التكتم الشديد الذي يميز الجماعات الجهادية، بصورة تحير كل باحث أو مراقب. فالغالبية الساحقة منها لا تمتلك حتى مواقع لها، اللهم إلا مواقع التواصل الاجتماعي مثل « فيس بوك» أو « تويتر».

لكن أعجب ما يمكن ملاحظته في الثورة السورية هو استحالة حصر القوى المسلحة التي تتكاثر كالفطر. ولا ندري على وجه الدقة سببا لمثل هذه الظاهرة التي تبعث على القلق. إذ أن تكاثر الولادات يوحي من جهة بفوضى عارمة، ومن جهة ثانية بتغول العامل الأمني للنظام، والذي دفع ببعض المجموعات الصغيرة إلى توخي الحذر الشديد من الاحتكاك بجماعات أخرى، ومن جهة ثالثة بتدخلات محلية وربما إقليمية في الثورة السورية، ناجمة عن الرغبة في مقاتلة النظام والتخلص منه. وتبعا لذلك تقوم بالإعلان عن جماعات أو جبهات أو تحقيق اختراقات في القائم منها أملا بدور ما في إسقاط النظام أو انتظارا لدور قادم.

المهم أن هذه الجماعات الكبرى، فيما عدا « الجيش الحر»، تبدو معنية باستجلاب الخبرات من الخارج. وقد بدت معالم التنسيق في هذا السياق واضحة في مشهدين لسيارة يجري التحكم فيها عن بعد، ظهرا في تسجيلين مختلفين أحدهما لـ « كتائب أحرار الشام» والآخر لـ « جبهة النصرة». وقد ظهر هذا النوع من السيارات في شريط سابق بثته جماعة « أنصار الإسلام» في العراق سنة 2011 بعنوان: « سلاح لا ينضب». كما تحدثت هذه القوى، عبر إصداراتها المرئية، عن استعمال واسع النطاق لعبوات ناسفة وأخرى لاصقة. وهذه أساليب الجماعات الجهادية في العراق. ولا ريب أن مثل هذا الأمر قد يبدو مبررا في ظل حرب طاحنة ضد نظام يحصل على السلاح ومصادر القوة من الدول الكبرى والإقليمية، في حين تتعرض الثورة لحصار خانق على السلاح. لكن الأهم أن الساحة السورية قد تلجأ، في ظل الحصار، إلى التصنيع العسكري، فضلا عن تغذية نفسها بنفسها عبر مخازن النظام والشبيحة وعناصر الجيش الحكومي.

http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-350.htm

التعليقات مغلقة.