قراءة ميدانية في حرب الثورة الليبية
د. أكرم حجازي
التصريحات الغربية حول فرض حظر جوي على ليبيا رافقت عقوبات مجلس الأمن على ليبيا. وما زالت مستمرة دون جدوى إلا من النفاق والميوعة الواضحة، خاصة في ضوء الجرائم الوحشية التي يرتكبها القذافي بحق الشعب الليبي والتي أودت بحياة الآلاف من القتلى والجرحى، فضلا عن عمليات الخطف والترويع الجارية على قدم وساق في العاصمة طرابلس. والملاحظة الملفتة للانتباه تقع في مرمى الثوار الذين كلما أبدو صمودا وقدرة على المبادرة أو أحرزوا تقدما ما كلما شهدنا تسارعا في وتيرة التصريحات الدولية!!! والأسوأ هو كم التناقض الهائل فيها، فضلا عن المراوغة، التي لا يبدو أن لها من هدف سوى استمرار ماكينة القتل أو امتصاص الانتقادات الموجهة للغرب عبر الحديث مثلا عن بدء طائرات الأواكس بمراقبة ليبيا! وكأن المشكلة في المراقبة. كل هذا في كفّة وحركة الثوار ميدانيا في كفّة أخرى. أما الكفّة الخفية فلعلها تكون في تأمين الترسانة الحربية للقذافي قبل أن تقع بأيد معادية للغرب!!! فما الذي يمكن قوله في هذا السياق؟
مواقف الليبيين من الحظر الجوي
واقع الأمر أن الليبيين وغيرهم، لأكثر من سبب، لا يرغبون بأي تدخل أجنبي ببلادهم. لكن، ولأكثر من سبب أيضا، ثمة توافق بشأن الدعوة إلى الحظر أو توجيه ضربة جوية لدفاعات القذافي. مع أن لكل موقف حساباته التي تختلف عن الآخر:
• فبعض الذين يعيشون خارج البلاد، ممن يوافقون على الضربة أو الحظر، واقعون تحت تأثير المذبحة التي ينفذها القذافي ضد السكان. ويتمنون على الغرب أن يكون منسجما، على الأقل، مع قيمه ومبادئه التي يروجها بشأن حماية المدنيين وليس مساعدة الثوار. مواقف هذه الفئة، التي تعلم علم اليقين نفاق الغرب، يعكسه قلقهم على ذويهم وليس ثقتهم بالغرب. وهو بمحتوى أدق؛ موقف فاقد الحيلة إلا من الرغبة في حقن الدماء بأية وسيلة. ولا ريب أنه موقف عاطفي مأزوم. إذ ليست ليبيا وحدها من فقد الأرواح دفاعا عن الدين أو النفس أو المال أو العرض. والحقيقة التاريخية أنها مضرب المثل في الجهاد والتضحية. لكن كثرة الضحايا واقع ليس لأن القذافي مجرم بلا هوادة فقط، بل لأن وأد الثورة الليبية، بحد ذاتها، بات هدفا لكل خصوم الأمة في سعيهم المستميت في اعتراض مسار الثورات العربية. وهذا يعني أن تكلفة الثورة الليبية ستكون أعلى من سابقاتها .. لكنها ليس بالضرورة أن تكون أقل من الثورات اللاحقة. لذا فالثورة الليبية اليوم تستحوذ على مركز القيادة، وتتحمل مسؤولية استمرار الثورات العربية. وعليه فإن مطالبة الغرب فيما يخالف مصالحه تبدو مضيعة للوقت، أو وقوع في شرك الأماني الزائفة. ولا ننسى، في هذا السياق، أن قرار العقوبات الصادر عن مجلس الأمن منح القذافي الوقت اللازم لضرب الثورة وليس محاصرته أو التضييق عليه. لكن إذا فشل في مهمته، وتقدَّم الثوار فقد يجد الغرب نفسه ملزما بالإسراع في إزاحة القذافي حفاظا على مصالحه أو ما تبقى له من ماء الوجه.
• أما موقف المجلس الانتقالي حين طالب الغرب، فقط، بتوجيه ضربة جوية أو تحييد سلاح الطيران، فهو موقف تفرضه احتياجات الناس النفسية والموضوعية بضرورة تحييدهم والدفاع عنهم والتخفيف من معاناتهم. وهو أيضا موقف فاقد الحيلة خاصة أنه لا يحظى باعتراف دولي ولا حتى عربي. وحتى، إنْ مثلت، توصية مجلس التعاون الخليجي المطالبة بفرض حظر جوي غطاء سياسيا للمجلس الانتقالي فلن يكون من السهل تجاوز الموقفين الروسي والصيني. وفي المحصلة من الخطأ الفادح إحالة وقائع الثورة الليبية إلى مجلس الأمن الدولي أو أية هيأة دولية.
• لهذا فإن مواقف الثوار، في ضوء المقابلات التلفزيونية والشهادات الميدانية، تبدو أشد صلابة من أية فئة اجتماعية أو سياسية في إصرارها على إسقاط القذافي أو الموت دون تحقيق هذا الهدف، بعيدا عن أية توسلات من هذه الجهة أو تلك. موقف هذه الفئة يرى أن أية ضربة جوية لقوات القذافي لا شك أنها تساعد الثوار ميدانيا لكنها لا تلزمهم، بالضرورة، بأية توابع سياسية. فالثوار لم يطالبوا الغرب في التحرك، ولن يستطيعوا منعه إنْ فعل. وهو موقف أقرب إلى الموقف الشرعي بالمقارنة مع الفئة الأولى الواقعة تحت التأثير العاطفي، أو الفئة الثانية الواقعة تحت ضغط الاحتياجات الاجتماعية.
إذن خلفيات المواقف تتباين. لكنها أبعد ما تكون عن الرغبة في أي تدخل أجنبي يُخشى أن ينتهي بحمام دم في ليبيا، وأبعد ما تكون عن أية حركة غير محسوبة قد تنال من طهارة الثورة أو تشوهها أو تلحق بها العار جراء التدخل الأجنبي.
والحقيقة أن الغرب، الذي دخل على خط التدخل في الثورات العربية، عبر مجلس الأمن، لا يمكن أن يكون صادقا في حقن الدماء وهو الذي طالما أراقها بالملايين في بقاع الأرض قاطبة. فلماذا يحقنها في ليبيا وهو الذي ما زال يسفكها في أفغانستان والعراق والصومال والشيشان والصين وباكستان ونيجيريا؟!! لماذا يحقنها وقد سفكها في هيروشيما وناغازاكي وأوروبا بعشرات الملايين؟ أما التعويل على المواقف العربية فهو أقرب ما يكون إلى علامات الساعة. إذ ما من منطق يلزم النظم العربية بالتدخل لنصرة الليبيين في حين أنها المستهدف الأول من الثورات الجارية. وما من منطق إلا ويؤكد أن انتصار النظم العربية للقذافي هو الأقرب إلى العقل والمنطق، لاسيما وأن تصريحات الثوار تتهم دولا مثل سوريا والسعودية والجزائر وغيرها بتقديم الدعم المادي والشرعي للنظام الليبي.
سقوط معادلة توازن القوى
بما أن الثوار يسيطرون على ثلاثة أرباع ليبيا، مساحة وسكانا وثروات، فإن النظام الليبي في وضع عسكري بائس. ولو راقبنا عمليات الكر والفر بين الثوار وقوات القذافي سنلاحظ، قطعا، أن معادلة « توازن القوى» التي حاول القذافي فرضها، عبر التلويح بالحرب الأهلية، قد فشلت إلى حد كبير. فالحرب الأهلية تعني وجود قوتين متنافرتين، وعلى طرفي نقيض في مطالبهما، وهو معطى ليس في صالح القذافي حتى في عمق طرابلس العاصمة.
صحيح أن تقدم الثوار بطيئا .. وصحيح أن الكر والفر يجعل من الطرفين أقرب إلى حالة « توازن القوى». لكن الأصح أن زحف الثوار نحو مدينة سرت يضع القذافي في موقف بالغ الحرج. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن مدينة سرت باتت تمثل خط الدفاع الأخير عن طرابلس، وسقوطها يعني الإطباق على العاصمة والتعجيل بنهاية النظام. وفي هذا السياق بالذات تدور معارك طاحنة للاستيلاء على بلدة بن جواد، ليس لأنها استراتيجية بل لأنها تمثل الطريق إلى الوادي الأحمر حيث تتمركز قوات القذافي من الكتائب الأمنية على مقربة من سرت، المستودع المالي والعسكري الثمين للنظام. ولا شك أن القذافي بات يدرك هذه الحقيقة أكثر من أي وقت مضى.
حين ظهر أول أمس على الشاشة بدا القذافي كسير النفس، وأقرب إلى الانهيار. فهو أدرك بالتأكيد أن زحف الثوار نحو سرت سيكون بمثابة الطامة الكبرى. وإذا ما التحق المزيد من المتطوعين وخاصة الجيش المساند للثوار بهم فقد تصبح فرصه السياسية في مهب الريح. وفي هذا الإطار فإن تصريح سيف الإسلام الذي قال فيه أن الجيش لم يتدخل بعد!!! ليس له أي سند واقعي. فوالده الذي لا يأمن، أصلا، من استخدام قطعاته العسكرية وترسانته الحربية اضطر للاعتماد على الكتائب الأمنية في حربه الدموية، وشرع باعتماد أسلوب الإرهاق والتشتيت العسكري للثوار. وهو أسلوب يستهدف إحداث البلبلة في صفوف الثوار واستنزافهم بأقصى ما يستطيع عبر مهاجمة المدن والضواحي واختراق هذه المنطقة أو تلك أو قصف منشأة في بنغازي أو محاولة استعادة منطقة ما.
إذن معادلة « توازن القوى» انكسرت ولم تعد ورقة رابحة. ولا شك أنها خسارة فادحة له. كما أن التهديد باستخدام الجيش فشل هو الآخر بدليل أنه عاجز عن استعادة الشرق فضلا عن أنه يخوض حرب كر وفر لم يستطع بها السيطرة على مجرد مدينة صغيرة نجحت كتائبه باختراقها دون أن تتمكن من الاحتفاظ بها. فماذا بقي له؟ وما الذي وفّره ولم يستعمله بعد؟
ربما بقيت له ورقة الحوار مع الثوار!!! ولا شك أنه حين يلجأ إليها فسيعني ذلك أنه في مأزق ميداني وإلا ما كان ليضطر إلى إرسال مبعوث له يحمل مبادرة تفيد باستعداده لمناقشة الأمر .. لكن .. في إطار المؤتمر الشعبي العام. دعوة جاءت بعد سلسلة من الحديث المتواتر عن تنحيه عن السلطة. لكنها مرفوضة من قبل المجلس الانتقالي بما أنها تتحدث عن مناقشة التنحي وليس عن التنحي بحد ذاته. وعملا بمقولة: « لا تحشر القط في زاوية فيستوحش .. أترك له فرصة للفرار». وهذا بالضبط ما لجأ إليه المجلس حين منح القذافي فرصة 72 ساعة للرحيل مع ضمانات بعدم ملاحقته وأسرته. لعلها فرصة ثمينة للقذافي لولا الدعوات الليبية التي تطالب بمحاكمته على ما ارتكبه من جرائم. فهل سيقتنصها؟ أم أن هناك مبررات أقوى لتأجيل الرحيل؟
مصير الأسلحة الليبية
لعل الأسلحة الليبية مشكلة المشاكل الخفية. فالمؤكد أن الثورة الليبية لم تندلع كي تتوقف أو تقبل بهزيمة بعد كل هذه المذابح. وليست هي من اختار الاحتجاج المسلح بقدر ما هو النظام الذي فرض عليها اللجوء إلى السلاح. ولأنها أول ثورة مسلحة في سياق الثورات العربية المتتالية فلا شك أن مخاوف القوى الدولية والإقليمية بلغت الحناجر على الأقل لسببين مباشرين:
• إذا انتصرت الثورة الليبية فإن فرص التحول من النهج السلمي في الاحتجاج إلى نهج مسلح في دول عربية أخرى ستكون أكبر. وحين يحمل الناس السلاح فسيكون من الصعب على أحد انتزاعه منهم بسهولة. ولا ريب أن القلق يتعاظم كلما بدا أن سلاح الثوار الليبيين ذو نكهة إسلامية.
• في دولة مثل ليبيا، حيث لا نظام ولا مؤسسات ولا ورثة، ثمة مشكلة عويصة تتعلق بمصير الترسانة الحربية الخفية والظاهرة التي يخزنها النظام من معدات وتجهيزات وطائرات وصواريخ وغيرها. فإلامَ ستؤول؟
بطبيعة الحال لا يمكن للقذافي أن يستعمل ترسانته ضد الشعب الليبي، في ظروف حرب شعبية لا تجدي فيها الجيوش الكلاسيكية وأسلحتها، أو دون أن يحسب حسابا للصينيين والروس، مثلا، باعتبارهم المصدر الرئيس لها. فحتى هذه اللحظة يعارض هؤلاء تدخلا عسكريا غربيا ضد ليبيا، أو فرض حظر جوي عليها. وبحسب تصريحات الروس فقد خسروا نحو أربعة مليارات دولار في صفقات تسلح مع ليبيا. ولأننا لا ندري طبيعة هذه الصفقات، فضلا عن خفايا التسلح الليبي، فليس من المستبعد أن تكون هذه المشكلة، بكل تفاصيلها، إحدى أهم العقبات التي تعيق رحيل القذافي.
لكننا تابعنا الأنباء التي تحدثت عن إنزال بريطاني لوحدة خاصة من عشرين فردا شرقي مدينة بني غازي بحدود 35 كم، ووقوع ثمانية أفراد منهم في أسر الثوار. وقد أكد أحد أعضاء المجلس الانتقالي أن من بينهم رجال استخبارات وخبراء!! وخلال التحقيق معهم قالوا بأنهم جاؤوا لتقديم الدعم للثوار. لكن هل يأتي الدعم خلسة؟ وعبر إنزال جوي؟ ومن يجزم بأنهم لم يجتمعوا مع عبد الفتاح يونس العبيدي أو بعض القادة العسكريين ممن أعلنوا انضمامهم إلى الثوار مبكرا؟ ومن باستطاعته أن يجزم بحقيقة مهمتهم؟
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-282.htm
التعليقات مغلقة.