كرامة مصر الغاضبة « كلاما ملياناً» وليست « كلاما فارغا »!
د. أكرم حجازي
قلنا وما زلنا نقول أن علامات الدورة التاريخية لم تعد تخطئها العين. ومع ذلك ثمة من يزال يعتقد أنه قادر على وقف سنة التدافع. لكن الشارع العربي يتحرك غير آبه بالآلة الضخمة للإعلام والتصريحات الرسمية ولا بأية تحليلات أو فتاوى تجهد في عرقلة وقائع الدورة وصيرورة أحداثها عبر إحالتها، عبثا، إلى الفراغ أو عدم تشابه الظروف بين هذا البلد وذاك أو عبر اختلاف موازين القوة. ولو عاينا ردود الفعل الرسمية، المحلية والدولية، لما يجري في مصر، بقليل من التأمل، لأدركنا مدى التخبط الرهيب الذي تعانيه هذه القوى، ومدى الفزع الذي تعيشه. فالمواقف تتناقض بين اللحظة واللحظة ما يؤكد أن أحدا لم يعد بإمكانه التنبؤ بحركة الشارع ولا الوقوف عند مطالبه. فعلامَ إذن تراهن هذه القوى لوقف الاحتجاجات أو على الأقل محاصرة تمددها؟
ما يجري في مصر هذه الأيام هو لحظة حسم ليس مع الرئيس حسني مبارك ولا مع ولده جمال بل مع النظام برمته. وإذا ما قارنا بين مطالب الشباب المصري والهتافات والشعارات المرفوعة من قبله فلن نجد أية اختلافات تذكر. وبطبيعة الحال فهي تمثل سقفا أعلى بما لا يقارن مع تلك المطالب التي ترفعها بعض القوى الحزبية. ومن الأكيد أنه ما من معنى لهذا التباين إلا أن يكون الشارع قد تجاوز فعلا كل القوى السياسية. فالحديث لم يعد بنظر المتظاهرين مقصورا على الإصلاحات السياسية أبدا، ولا على الاستجابة لمطالب الشباب بل عن تغيير جذري يتجه نحو الاستمرارية والقطع مع الماضي. فلنعاين بعض المطالب التي وردت في بيان صدر في اليوم الأول عن تجمع باسم: « شباب مصر »:
• تنحي الرئيس حسني مبارك عن الحكم نهائيا،
• إقالة الحكومة وتشكيل حكومة وفاق وطني سريعا من شرفاء الوطن،
• حل مجلسى الشعب والشورى « المزورين»، وإجراء إنتخابات حرة ونزيهة في أقرب فرصة،
• إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ممن ليس عليهم أحكام جنائية،
• محاكمة كل رموز الفساد والمستفيدين منه وحصر ثرواتهم ومصادرتها لصالح خزانة الدولة.
• إلغاء قانون الطوارىء وحالة الطوارئ،
• تشكيل لجنة من خبراء الدستور وأساتذة القانون الشرفاء وكبار القضاة للعمل على صياغة دستور جديد للبلاد.
• تعديل فوري للمواد « المعيبة» في الدستور المصرى لضمان انتخابات رئاسية حرة،
• إلغاء كافة القرارات التي فرضت بها الحكومة « الجباية» على الشعب كقانون الضرائب وقوانين وضرائب المرور والسيارات والضرائب العقارية.
• تنفيذ كل أحكام القضاء الصادرة واحترام أحكام القضاء وإعادة هيبتة كسلطة مستقلة،
• إلغاء الحرس الجامعي،
• إلغاء كل الاتفاقيات التي تمس أمن وسلامة المجتمع وتضيره في اقتصاده، كاتفاقية الغاز مع الصهاينة،
• توفير حد أدنى من الأجور لضمان حياة كريمة لأهل مصر.
• محاربة الغلاء الفاحش الذي حل بالبلاد وعدم ربط رفع الأجور بغلاء المعيشة.
وهذه عينة من الشعارات والهتافات واللافتات:
• يا جمال قول لابوك كل الشعب بيكرهوك
• شعارات أخرى رددها الشعب المصري في السويس
• بن على بيناديك .. فندق جدة مستنيك
• حسني حسني حسني بيه كيلو اللحمة بـ 100 جنيه
• أه يا حكومة قطع الأيدي
• أنت يا مصري إيه أفكارك
• ثورة مصر جاية جاية بالعدالة والحرية
• خالد سعيد مات مقتول ومبارك هو المسئول
• حكم 30 سنة في هذا العصر هو إهانة للشعب مصر
• لا للفقر والغلاء والبطالة والفساد ونهب المال العام
• لا لقانون الطوارئ وتزوير الانتخابات
• بالروح بالدم نفديكي يا مصر انتخاباتكم مزورة .. ومجلس باطل .. والبرلمان غير شرعي
• واحد.. اتنين.. الشعب راح فين
• لا ذل ولا إهانة للمصريين
• إحنا الشعب
• تحيا مصر .. تحيا مصر
• ارفع صوتك زى الناس.. إحنا كرهنا الظلم خلاص
• صحي الخلق وهز الكون مصر بلدنا مش هتهون
• يا أهالينا يا أهالينا.. انضمو لينا انضمو علينا
• ثورة ثورة حتى النصر.. ثورة فى كل شوارع مصر
• لا للطوارئ
• إقالة وزير الداخلية مطلبنا
• يا أبو دبورة ونسر وكاب.. إحنا إخواتك مش إرهاب
• بطل تمشى جنب الحيط.. أصل سكاتك مش هيفيد
• ولو عايز عيش بلاش تنتحر.. وانزل خد حقك
• واحد اتنين.. الشعب المصرى فين
• تحيا مصر.. عايزين كمان حرية
• حرية أهالينا عايزين نخلص من بلاوينا
• كفاية ارحلوا عنا.. الحزب الوطنى خربها
• الإصلاح بقي شيء مطلوب قبل الشعب ما يأكل طوب
• يا وزراء طفوا التكييف مش لاقيين حق الرغيف
• يسقط يسقط الاستبداد
• بالطول بالعرض هنجيب النظام الحاكم الأرض
• تحيا مصر والله أكبر
• اصحوا وفوقوا يا مصريين.. مش هنقول للظلم آمين
• الطلاب ويا العمال.. ضد الفقر والاحتلال
• يا وزير داخلية مصر.. الحرية لشرفاء مصر
• ثورة ثورة حتى النصر.. ثورة في تونس وفي مصر
• ارحل ارحل عنا يا ظالم
• ثورة ثورة يا مصريين على حزب المجرمين
• حد أدنى للأجور قبل ما الشعب يثور
• عايزين علاج كويس
• عايزين تعليم كويس
• الغوا الغوا الطوارئ
• حرية.. حرية
• الشعب يريد إسقاط النظام
• عايزين علاج كويس عايزين تعليم كويس كويس
• علي صوتك بالهتاف مش حنطاطى ومش حنخاف
• ارفع ارفع في الأسعار بكرة الدنيا تولع نار
• حد أدنى للأجور قبل ما الشعب يثور
• ارحل ارحل عنا يا ظالم
• ثورة ثورة يا مصريين على حزب المجرمين
• يا حرية فينك فينك .. الطوارئ بيننا وبينك
• مش هنخاف مش هنطاطي .. إحنا كرهنا الصوت الواطي
• شعب تونس يا حبيب .. شمس الثورة مش هتغيب
• بالروح بالدم .. نفديك يا وطن
• ارفع صوتك قول للناس .. إحنا كرهنا الظلم خلاص
• لما شعب تونس قام .. هرب اللص والمدام
• حد أدنى للأجور .. قبل الشعب ما كله يثور
• حقي ألاقي شغل وأعيش .. والملاليم ما بتكفيش
• يلا يا شعب عدي الخوف .. خلي الدنيا تصحي تشوف
• شعب حضارة ومجد سنين .. مش هيطاطي ليوم الدين
• يسقط يسقط الاستبداد
إذن هو الغضب بعينه وهو يتجسد بمئات من المطالب والشعارات المرفوعة والهتافات المدوية. فما الذي يمكن أن يصلحه النظام فيما المثل الشعبي يقول: « لا يصلح العطار ما أفسده الدهر»؟ لا شيء. فما قاله بيان « شباب مصر » يغني عن أي تعبير: « نعلنها مدوية، لن نترك مصر للفاسدين، ولن نتركها للصوص السلطة وإرهابييها.. لن نترك مصر لمن يعبث بأمن المواطنين في الداخل والخارج، ويقومون بإقحامها في مآزق سواء كانت داخلية أو خارجية، وما أزمة النيل أو الغاز الطبيعي منا ببعيد، وما أزمة تعطيل القوانين منا ببعيد، وما أزمة قتل الأبرياء وإرهابهم منا ببعيد».
مرارة في النفس
حالة الغضب المصري ليست « كلاما فارغا » كما يراها د. صفوت الشريف. والتصريحات السياسية لم تعد تجد لها سبيلا وسط ضجيج المدن والشوارع الغاضبة والأحياء والأزقة وهدير المدرعات وآلة القمع. وكما تقول إحدى الصحف الغربية تعليقا على الأحداث بأن: « في النفس المصرية غصة» لا يبدو إزالتها متيسرا بسهولة. لكن هذه الغصة عبر عنها أحد المصريين في تعليق غاضب ما كنا لننشره لولا أنه ورد من مصر، حيث خُطَّت كلماته على وقع الأحداث الجارية:
السلام عليكم .. من أرض الكنانة .. أرض الثورة … أرض الغضب … أرض الكرامة.
• خرجت الجموع الهائلة من الشباب الذي اتهموه بالتحرش الجنسي والغيبوبة وقلة التربية وقلة الدين؛
• خرجت جموع الشباب الذين وصفهم الشيخ محمد الغزالي بقوله إن هذا الجيل بهذه التربية الماجنة سوف يكون أحقر جيل ولد في مصر منذ سبعين قرنا؛
• خرجت جموع الشباب المتهم بالتهام أوراق البانجو و الحشيش وأقراص الأدوية المخدرة؛
• خرج الشباب المتهم في كل شيء بعد أن لعب الجميع في عقله وثقافته ودينه؛ .. بعد أن دامت الحيرة والإحباط واليأس والاكتئاب عقود .. بعد أن قرر الكثيرين اعتزال الكتابة أو العمل العام السياسي أو الأدبي أو حتى الاجتماعي يأسا من التغيير؛
• خرجت مصر الحرة الأبية العربية الإسلامية؛
• خرجت مصر التي ستضم بجناحيها علي أخواتها وأبنائها في جميع أنحاء الوطن الإسلامي .. وكما تتدخل أمريكا وأوروبا؛ بل والمسخ المسمي إسرائيل في شؤوون البلاد والعباد سيتدخل الأحرار الشرفاء من أرض الكنانة، وبشتى، الوسائل في كل شؤوون الوطن الإسلامي، وبكل التفاصيل، بعد أن يفرغوا من هذا الطاغية.
• ستعود الخلافة بإذن الله في أبهي صورها .. وسيعود الإسلام قويا عزيزا عادلا راقيا مهيمنا على الدين كله
• الآن تخرج الطاقات المعطلة والملقاة على الطرقات منذ عقود؛
• الآن سيبدأ هؤلاء الشرفاء في مواجهة أمريكا وإسرائيل خوفا على عرش مبارك المضمون بامتيازاته وخياناته لليهود والصليبيين؛
• الآن فقط تبدأ المعركة الحقيقية بين من استفاقوا للتو من الغيبوبة الكبرى الطويلة المقيتة وبين القوى التي تسمي نفسها عظمى .. الآن فقط يا أمريكا .. يا إسرائيل .. يا بريطانيا .. يا فرنسا؛
• استعدوا فوالله حتى الآن لم تعرفوا لماذا سمانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير أجناد الأرض رغم حطين وعين جالوت إلا أن القادم والله اكبر وأعظم من تلك المعارك بل و أشرس منها بمراحل
القادم هو حرب أفكار واستخبارات تدخلها العقول المصرية لأول مرة وهي غير محبطة وغير شاعرة بالخزي والعار من حال بلدها وأهلها في أرض الكنانة.
في القلب جرح كبير لمّا تحتل أغلب الدول العربية أدنى السلم في مكافحة الفساد بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2010، خاصة حين نعلم أن دولة مثل مصر تحتل المركز 98 لتتساوى مع بوركينا فاسو والمكسيك، والمغرب 85، وجيبوتي 91، بينما تحتل عُمان المركز 41، والبحرين 48، والأردن والسعودية 50، والكويت 54، وتونس 59. أرقام تؤكد أن المشكلة ليست في الفساد فحسب بل في الكرامة والقهر. فعن أي إصلاح يتحدث هؤلاء؟
خروج الشباب في تونس ومصر أثبت في الصميم أن الأمة الحية لا يمكن أن تموت حتى لو كان في النفس العربية غصة في القلب من تونس المجروحة .. ومصر المستعبدة .. واليمن الفاسدة. . وسوريا المقهورة .. وفلسطين المغدورة .. الجزائر المذبوحة .. وليبيا المستغفلة .. وموريتانيا المكابرة .. والكويت المهددة .. والبحرين الفريسة .. والسعودية الظالمة .. والإمارات اللاهية .. وقطر المنتشية .. وعُمان المنسية .. ولبنان التائه .. والأردن الحائر .. والعراق المغتصب .. والسودان المطعون .. والمغرب المنهوب. لكن أين تركيا مما يجري في المنطقة؟!!!
الموقف الرسمي
عادة النظم السياسية العربية لا تتغير ولا تتبدل. فهي تصر على الاستخفاف بالأحداث وتحقير الأزمات الكبرى والصغرى وممارسة الغطرسة الإعلامية والكذب والفجور دون أدنى خلق أو احترام لكرامة البشر وعقولهم. فمن جهتها استخدمت الدولة وسائل إعلامها بفجاجة عز نظيرها في التعامل مع الحدث، وأنزلت قواتها الأمنية المدججة بأدوات القمع إلى الشوارع، واستنفرت مؤيديها والمدافعين عنها لتشويهه وتقزيمه وحتى التعامي عنه، وعقدت الصفقات المخزية مع بعض وسائل الإعلام لتجنب الإشارة إلى الأحداث في محاولة منها للحصول على فرصة لقمع الحدث والسيطرة عليه قبل تناوله من قبل الفضائيات. أما صحيفة « الأهرام » التي لا تتوانى عن ارتكاب الفضائح الدولية والموبقات في تزوير صورة الرئيس مبارك حين زار الولايات المتحدة لم تتوانى هي الأخرى عن ممارسة الطرش والعمى كلما اهتزت مكاتبها على وقع أصوات المتظاهرين. هؤلاء الذين نجحوا في الالتفاف على قوى الأمن واخترقوا ميدان التحرير في قلب القاهرة لم تسمع بهم « الأهرام » ولم ترهم من قبل وهم تحت مكاتبها، لكنها سمعت دوي الحناجر في لبنان وجعلت أصواته على الصفحة الأولى!
رغم أن البلاد تغلي غضبا وغليانا إلا أن الرئيس مبارك لم يظهر ولم ينطق ولو بكلمة. وصدق من قال بأن الحكومة أوكلت الأمر لوزارة الداخلية التي حاولت أن تلعب دور الحمل الوديع في عدم التصادم مع المتظاهرين، ولما فشلت استخدمت كافة قواها معززة بما يراه المصريون أجهزة أمن « بلطجية في زي مدني » وأصحاب العصا الغليظة الذين لم يتوانوا عن الفتك بالمتظاهرين.
الحقيقة أن الحكومة في مأزق عظيم للغاية. والارتباك والهلع مما سيحصل بات سيد الموقف. وسيناريو تونس في التصدي للمتظاهرين يتكرر. بل أن لغة الدولة والحزب الوطني باتت تستعمل، منذ اليوم الثاني، نفس العبارات والمفردات التي استعملها طاغية تونس في يومه الأخير. ففي بيانه الصادر عن مكتبه قال الحزب الوطني الحاكم أن صدره بات: « يتسع لمطالب الشباب ويتفهمها … (وأنه) بفكره الجديد حريص على استمرار التواصل والحوار مع كل شباب مصر مع تنوع أفكارهم ومواقفهم بما يحقق مستقبلا أفضل لهم وللوطن»! ولسنا ندري عن أي فكر، قديم أو جديد، يتحدث الحزب لحاكم؟ ولسنا ندري لماذا لا « يتفهم » هؤلاء لأمر إلا بعد انتهاء الدوام الرسمي؟
الشرطة لن تتسامح مع الفوضى بعد الآن! قالها وزير الداخلية حبيب العادلي. وقبلها قالها زميله وزير داخلية تونس، فلم يجد الوقت ليقرأها في صحف اليوم التالي. أما صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى، الأمين العام للحزب فقد كان أكثر جرأة منه حين وصف مطالب المعارضة بأنها « كلام فارغ»! أما الـ « كلام المليان» بحسب الشريف فهو كلام: « الحزب الذي يعمل ليل نهار من أجل الشعب .. ويشعر بالفلاح المصري وبالمواطن المصري .. ( وهو الذي) سيسارع إلى تلبية المطالب الشعبية»! لكن ماذا عن الموقف من المعارضة؟
في ذات التصريحات الهاتفية التي أدلى بها لفضائية « المحور» قال: « يقولون ما يريدون نحن لن نستمع لأحزاب تحت التأسيس أو لحزب مرفوض أو لحزب ليس له شرعية أو لجماعة محظورة ولحزب ليس عنده ممثل في البرلمان وثبت فشله في الانتخابات، فلن نستمع للأقلية ونحن كحزب وطني سنستمع فقط لصوت الشارع ولمطالب المتظاهرين الشباب فسنحل لهم مشاكلهم».
لا شك أن مثل هذه التصريحات تحتوي على قدر من « الجنون» ما يكفي لإيداع الشريف مصحة الأمراض العقلية برتبة امتياز. إذ لو كان به ذرة عقل لقبل مطالب الأحزاب بدلا من مطالب « شباب مصر ». لكنه عمى البصر والبصيرة لحزب لا يخجل من ارتكاب الفضائح المدوية على مرآى من العالم أجمع. ولعله أسوأ من ذلك إذا اعتبرنا أن ردود فعل الحكومة، ومنها تصريحات الشريف، يستحيل قراءتها إلا كتعبير عن حالة فزع لم يعد ممكنا بموجبها التمييز بين العقل والجنون.
أما حسام زكي المتحدث باسم الخارجية المصرية حسام زكي فقد علق ببساطة على مظاهرات اليوم الأول بالقول أنها: « ليست ظاهرة جديدة» لكنه لم يقل لماذا بدا الفاعلون فيها شديدو الغضب والتحدي للدولة؟ ثم قال في تصريح لشبكة CNN الأمريكية: « أن جميع المشاركين في المظاهرات التي خرجت إلى الشوارع يحظون بحماية الشرطة، ولا يتم إطلاق النار عليهم»، وأنه يشعر: « بالفخر لذلك» وأن: « جميع المتظاهرين الذين خرجوا ( في اليوم الأول) إلى الشوارع يقومون بذلك تحت حماية الشرطة التي لم تطلق الرصاص عليهم»! فهل ما زال يصر على كلامه هذا بعد ضحايا السويس والقاهرة واحتجاز جثثهم في المستشفيات ومطالبة أهلهم بدفنها سرا؟ وهل زادت مشاعر الفخر لديه أم نقصت؟
ورقة الجيش والأمن
عكست الصحف الغربية مثل « كريستيان ساينس مونيتور» و « التلغراف» و« الاندبندت» و« النيويورك تايمز» الموقف المرتبك الذي تعيشه دولها ونظمها السياسية. فمن جهة ثمة اعتراف صريح بمخاطر فظيعة تتهدد المنطقة والمصالح الغربية جراء ما يحدث في مصر، ومن جهة ثانية ثمة تحريض مكشوف على لعب ورقة الجيش كملاذ أخير لإنقاذ الحكم في مصر.
بدايةً فقد لاحظت « النيويورك تايمز» أن: « اللقاءات التي أجراها مراسلوها مع المحتجين تعكس واحدة من أعمق مخاوف الحكومة، فهي تظهر أن المعارضة للنظام تجاوزت الخطوط الأيديولوجية لتشمل المواطنين العاديين الغاضبين من الفساد والأوضاع الاقتصادية الصعبة، فضلاً عن العلمانيين والإسلاميين، وهذا الدعم الواسع يجعل من الصعب على الحكومة استمالة أو حتى سحق المحتجين».
أما صحيفة « كريستيان ساينس مونيتور» فقد وصفت احتجاجات « يوم الغضب» بـ « غير المسبوقة»، والتي لم « يسبق لها مثيل»، والتي: « ستكون أثارها أضخم بكثير من الثورة التونسية». أما جاك شينكر مراسل صحيفة « التليجراف» البريطانية في القاهرة ، فقد اعتبر المظاهرات بأنها: « الأضخم منذ عقود». ومن جهتها رأت الـ « فورين بوليسي» في « يوم الغضب بأنه: «علامة فارقة» في تاريخ مصر السياسي « هزت أركان النظام حتى الأعماق»، مشيرة إلى أن الأحداث « حركت المياه الراكدة » وأثبتت أنه: « لا شيء في الشرق الأوسط سيبقى على ما كان عليه نتيجة لما حدث في تونس».
لكن صحيفة « كريستيان ساينس مونيتور» ربطت بقاء الرئيس المصري والنظام بدور الجيش معتبرة أنه من الصعوبة تكرار نموذج تونس في مصر، وأن التوقعات بانتفاضة على غرار الثورة التونسية « سابقة لأوانها ». لأن: « (1) الجيش المصري أقوى بكثير من نظيره التونسي، و (2) لأن دائرة النخبة الذين لديهم الكثير ليخسروه إذا سقط نظام الرئيس مبارك أوسع بكثير».
أما صحيفة « التلغراف » البريطانية فقد سارت على منوال شقيقتها « الاندبنت» حرفيا، وهي تركز على ولاء الجيش المصري، مشيرة بأن: « النظام في مصر يحظي بدعم الجيش بشكل أكبر بكثير من تونس ». فمن جهتها رأت بأن: « الرئيس مبارك يحظى بولاء أكبر بكثير داخل قواته المسلحة. كما أن الشرطة المصرية أكثر ضبطاً للنفس في التعامل مع المتظاهرين .. وأكثر قدرة على احتواء الاحتجاجات»، لكنها قللت من شعور الرئيس المصري بالأمان: « إذا بدت الاحتجاجات وكأنها تملك فرصة حقيقية للإطاحة به».
مثل هذه التقييمات لا يمكن الركون إليها. فالجيش المصري هو أكثر المؤسسات التي تحملت عبء الصراع العربي ضد إسرائيل تاريخيا، وأكثر المؤسسات احتراما من قبل المصريين حتى على مستوى الشارع، وهو ما يفتقده الجيش التونسي الذي لم تكن له أية سوابق تاريخية لا في الصراع العربي الإسرائيلي ولا في غيره. كما أن الجيش المصري لم يمارس أي دور قمعي في تاريخه، وحتى لما ضغط الرئيس السابق أنور السادات على قيادته لقمع حركة الشارع في أحداث 18 و 19 يناير 1978 رفض قائده المشير محمد عبد الغني الجمسي إراقة قطرة دم واحدة. وهذا معطى غير قابل أصلا للمقارنة مع الجيش التونسي الذي لم يسبق له أن دعي لأية مهمة وطنية أو قومية كما هو حال الجيش المصري.
من الممكن أن يكون النظام السياسي قد نجح في تدجينه بعد أن تعرض الجيش لعملية تخريب منظمة من الداخل فضلا عن سلسلة من الاغتيالات الغامضة لقياداته بالجملة بدء من أحداث يناير. لكن المراهنة عليه قد تكون خاسرة وخطرة إذا ما لاحظ الجيش أنه، كما المواطنين، لديه فرصة ذهبية للانتقام من القيادة السياسية التي همشته طوال عقود وأضعفت دوره وأخرجته من أية مواجهة، وأحالت الأمر برمته إلى أجهزة الأمن التي مارست بطشها بلا رادع أو حسيب، وتغولت حتى على كرامته الوطنية.
الطريف أن استخدام الجيش كآخر حصن حصين للنظام سيعني أكبر مؤشر على انهيار الأوضاع كلية. فما الذي يضمن ولاء قيادات الجيش للنظام؟ أما الأطرف فهي أن القوى الأمنية نفسها التي تمثل أعتى أدوات النظام لم تعد مضمونة بعد أن بدت ملامح الانحياز إلى الجمهور تتجلى في صورة انضمام لبعض قياداتها وعناصرها إلى المتظاهرين خاصة في الإسكندرية. وهي صور مماثلة لتلك الانحيازات التي جرت في تونس في الأيام الأخيرة من الثورة. ومماثلة لصورة الأحداث التي جرفت طاغية رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو الذي استنجد بالجيش فإذا به ينحاز إلى المدنيين.
الموقف الدولي
الموقف الغربي والإسرائيلي عموما يدافع كالعادة عن نظام قائم يلائم مصالحه الاستراتيجية. وكلهم يتعاملون مع وضع مستقر، وإن لم يكن مستقرا فينبغي العمل على استقراره بقطع النظر عما إذا كان هذا ممكنا أم لا. تلك هي استراتيجياتهم. لذا فهم يفتقدون فعليا، والآن، لأية آلية في التراجع خطوة أو التقدم خطوة. فلا هم قادرون على التخلي عن النظام المصري ولا هم قادرون على دعمه. لكن كيف سيتعاملون مع وضع لم تعد فيه دفة الأحداث بيدهم ولا بيد الأنظمة السياسية؟ بمعنى آخر حين يفقد الغرب أدوات السيطرة التقليدية على المنطقة وتصبح بيد الشعوب؛ فما هو مصير الاستثمار الأمني والسياسي في منطقة لم تعد مستقرة؟
إنهم ببساطة لا يعرفون!!! فالنظام الدولي الراهن الذي أفرزته دورة تاريخية منحت الغرب تفوقا وسيطرة وهيمنة بلا حدود على المنطقة وعلى العالم. هذا النظام لا يفهم الغرب منه إلا المحافظة على استقراره كونه في الوعي واللاوعي يخدم مصالحه. فهو يعرف كيف يقمع ويتدخل ويضغط ويبني علاقات واستراتيجيات وخطط لضمان السيطرة، لكن حين يهتز النظام محاولا الخروج من السيطرة فلا يدري ورثته من الغرب ماذا سيفعلون!!! وليس عجيبا في مثل هذه القراءة أن نستمع منذ عشرات السنين لعبارات يتيمة من نوع « ضبط النفس» أو « مراقبة الوضع عن كثب»!!!! هذا ما قالوه تعليقا على ثورة تونس وهي في بداياتها، وهو ما قالوه حين تفجرت الأوضاع في مصر. فلنعاين بعض التصريحات.
خذ مثلا المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبز الذي كان تقليديا للغاية في تعليقه على أحداث مصر حين قال بأن: « الولايات المتحدة تراقب الوضع في مصر عن كثب وهي تؤيد حق المصريين في التجمع والتغيير». أما السفيرة الأميركية في مصر مارغريت سكوبي فقد عبرت عما يشبه الأماني وتطييب الخواطر وهي تقول بأن: « الولايات المتحدة ترغب في رؤية الإصلاح في مصر وفي أماكن أخرى من أجل خلق فرص سياسية واجتماعية واقتصادية أكبر وتتناسب مع تطلعات الشعب»! ولسنا ندري إذا كانت الولايات المتحدة قد خشيت من التعبير عن مثل هذه الأماني عشية الانتخابات المصرية الأخيرة أو بعد تزويرها الفاضح أمام العالم أجمع؟ أما وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون فقد كانت محامية فاشلة بامتياز في تعقيبها على أحداث اليوم الأول، حين دعت: « كل الأطراف إلى ممارسة ضبط النفس والامتناع عن العنف»، ودافعت عن الحكومة المصرية بالقول أنها: « مستقرة وتبحث عن سبل للاستجابة لحاجات الشعب المصري ومصالحه المشروعة»! ولسنا ندري عن أي « أطراف» تتحدث هذه المرأة؟ وعن أي « استقرار»؟ وهل تقل تصريحاتها جنونا عن تصريحات صفوت الشريف؟ ربما!! لكن تصريحات الأوروبيين لم تخلُ واحدة منها من ذات العبارات.
ففيما عدا فرنسا التي « تأدبت» من فضيحتها خلال أحداث تونس وأدانت وقوع قتلى فقد تماثل الموقف الأوروبي مع الموقف الأمريكي إلى حد التطابق. فالألمان تحدثوا عن الاستقرار بلسان وزير الخارجية جيدو فيسترفيله الذي دعا إلى: « مزيد من الديمقراطية والحوار الاجتماعي وحرية الصحافة والتجمع باعتبارها من الطرق المؤدية للاستقرار». وكذلك الأمر ما عبر عنه وليام هيغ وزير خارجية بريطانيا الذي على أنه: « ينبغي على جميع الأطراف التحلي بضبط النفس وتجنب العنف» ومعتبرا أن: « الانفتاح والشفافية والحرية السياسية مبادئ هامة للاستقرار». ومن جهتها قالت مايا كويانغيتش مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي: « إن الاتحاد الأوروبي يراقب الوضع في مصر عن كثب».
العجيب أن مواقف اليهود بدت أكثر وضوحا من مواقف الأمريكيين والأوروبيين تجاه مستقبل العلاقة بين إسرائيل ومصر. فقد كان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية ييغال بالمور محسوبا بدقة بالغة حين قال بأن: الحكومة الإسرائيلية لن تعلق على الأحداث الجارية في مصر»، تجنبا، على ما يبدو، من إحراج الحكومة المصرية لكنه كان فزعا للغاية حين قال بأن: « إسرائيل تراقب الأحداث بدقة شديدة». أما سيلفان شالوم نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي فقد اعترف بأن: « الوضع في مصر ليس بسيطا» معربا عن أمله في ألا تؤثر الاضطرابات على علاقات مصر « الجيدة التي تربطها باسرائيل منذ أكثر من 30 عاما».
ولعل التخبط الأمريكي والرتابة الأوروبية استفز صحيفة « الواشنطن بوست» التي علقت بغضب على موقف الإدارة الأمريكية و « الدعم الأعمى» للنظام المصري. فقد وصفت الصحيفة الموقف بـ « الحماقة» ملاحظة، بقليل من التصرف، أن « الإدارة الأمريكية لا تزال متخلفة بشكل خطير عن وتيرة الأحداث في الشرق الأوسط، فقد فشلت في توقع أحداث الثورة في تونس وخرجت لتعلن أنها تقف على الحياد قبل أيام من سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي». ولا ريب أن تعليق الصحيفة يكشف عن (1) ارتباك مشين في الإدارة الأمريكية تجاه تقييم الحالة السياسية والأمنية في العالم العربي، و (2) وعن انقسام داخل الإدارة الأمريكية خاصة وأن تصريحات الصحيفة جاءت في افتتاحيتها وليس رأيا لأحد الخبراء.
ولا شك أن مخاوف « الواشنطن بوست» على مصالح بلادها والغرب لها ما يبررها طالما أن « أهل مكة» أنفسهم صاروا يتحدثون عن مستقبل الرئيس المصري. فقد كان تصريح الأمير تركي الفيصل مدير المخابرات السعودية السابق لافتا للغاية حين قال بأن: « مستقبل الرئيس المصري يتوقف على قدرة القياديين المصريين على فهم الأسباب وراء الاحتجاجات الحالية غير المسبوقة في مصر». فبالكاد مضى يومين على الأحداث في مصر حتى غدت مثل هذه التصريحات، التي لن تروق المصريين ولا السعوديين ولا العرب، موضع تداول بين وسائل الإعلام ومن شخصيات نافذة. لكن ماذا لو أثبتت الوقائع الجارية أن فهم القيادة المصرية جاء مطابقا لفهم القيادة التونسية وهي مستودع الأمن العربي؟
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-261.htm
التعليقات مغلقة.