شواهد وخفايا خطيرة

69

د. أكرم حجازي

كل من استمع، من المراقبين والمصريين، لخطاب الرئيس المصري أصابته صدمة البكاء أو الضحك أو الإغماء. فالرئيس مبارك يعلم علم اليقين أن خطابه سيقابَل بعاصفة من الرفض كما الخطابات السابقة طالما أنه يخلو من تنحيه عن السلطة. وحتى لو تضمن خطابه قرارا بإلغاء قانون الطوارئ وحل مجلسي الشعب والشورى، أو تعديل المواد الدستورية مثار الجدل، فلن يكون أوفر حظا لدى العامة. فكيف يكون حاله وقد خلا من تحقيق أي مطلب إلا من تشكيل اللجان والابتزاز واللعب على العواطف التي استنزفتها سياساته ولم تترك لها أي أثر لدى المتظاهرين.

أما الحديث عن الحرج الذي سيأتي من الخارج فلا أثر يذكر له، لا في شخصية الرئيس ولا في حياته ولا في سياساته. فقد كان متساهلا بل متطوعا في تقديم ما لم يطلب منه من الغرب وإسرائيل والكنيسة الأرثوذكسية. وهو لم يخجل من كل جريمة ارتكبها بحق الشعب الفلسطيني أو بحق شعبه الذي أهانه بين الأمم، أو بحق الأمة، أو بحق الدين، أو بحق الأفراد الذين قتلهم رجاله جهارا نهارا أو اغتصبوهم وفتكوا بكرامتهم وشرفهم، أو بحق السجناء الذين تلقوا من التعذيب ما لم يتلقه أحد من البشر. فعن أي حرج يتحدث فخامته؟

الطريف كان في خطاب نائب الرئيس عمر سليمان الذي بدا واضحا أنه لن يستطيع الإفلات من تبعيته المطلقة لرئيسه. وحتى منصبه كمدير للمخابرات يبدو أنه لم يجعل منه شخصية محترفة بقدر ما صنع منه خادما لأجندات سياسية وأمنية وقاتلا دمويا. وأعجب ما في الخطاب الذي دعا الناس إلى العودة إلى بيوتهم أن صاحبه سقط سقوطا ذريعا مع سقوط مبارك، وأثبت أنه عاجز حتى عن قراءة نص مكتوب قراءة صحيحة!!! مثل هذا الشخص الذي لم ينجح في حياته إلا أن يكون ملحقا بحقيبة، حتى وهو على رأس أكبر جهاز أمني، لا يمكن أن يكون مؤهلا لإدارة دولة أو قيادة أمة أو حتى النجاح في حوار مع قوى سياسية ضعيفة أصلا.

يقول الشاهد الأول أن التوريث سقط بلسان الرئيس في أول خطاب له لما عين عمر سليمان نائبا له، كما سقطت أية فرصة له بعد إعلانه أنه لن يرشح نفسه في الانتخابات القادمة. فعن أي مصر يتحدث الرئيس إذا كان هو وابنه ونائبه سقطوا من الحياة السياسية في البلاد إلى الأبد.

الشاهد الثاني يقول أن الشارع بيد الناس، والحوار مع القوى الحزبية فشل منذ اللحظة الأولى على وقع الحشود المليونية التي اندفعت إلى الشوارع والميادين العامة في اليوم الثاني قبل أن تفشل بفعل ردود الفعل الغاضبة حتى من داخل الإخوان المسلمين التي شاركت فيه، وتعرضت لنقد مرير من داخلها.

أما الشاهد الثالث والأهم في وقائع الثورة المصرية فهو سقوط الدستور نفسه وسقوط شرعية الرئيس والنظام وكل قراراته. ففي حالات الثورات الشعبية تسقط كل الشرعيات الأخرى سقوطا حرا. وبالتالي فإشغال الناس بالتعقيدات الدستورية لانتقال السلطة ليس لها أي معنى موضوعي ولا حتى فقهي.

المستجدات المذهلة تقول، وفق الشاهد الرابع، بأن الثورة المصرية تلقت إمدادت شعبية من القوى المدنية كالموظفين والعمال والفلاحين والحرفيين والمحامين والمفكرين والطلبة والتجار وعامة الناس. بل أن بنية النظام المدنية بدأت تتفكك تدريجيا، وبدا رموزها يغيرون من مواقعهم ولغتهم حتى في المؤسسات القومية التابعة للنظام. وهي إمدادات تعكس إلى حد كبير توجه الشعب المصري، اختيارا، نحو العصيان المدني دون أن ينتظر تلقيه دعوة من أحد.

الشهادة الخامسة تقول: مع أن خطابات مبارك، وعدم تنحيه عن السلطة حتى الآن، لم تخلف في نفوس العامة من المصريين وغير المصريين إلا الغضب والقهر والشعور بالإهانة والاستفزاز إلا أن الرئيس المصري تلقى طعونا وإهانات لم يسبق أن تلقاها رئيس دولة في التاريخ. وتبعا لذلك لا يمكن القبول بفكرة أن الرئيس يتشبث بالسلطة. فما من منطق يبرر له ذلك على الإطلاق. إذن لماذا لم يرحل حتى الآن؟

لعل الرجل معتقل!!! فإما أن خروجه ليس بيده، أو أن هناك ما يستدعي بقاءه إلى حين تصفية التركة. فالغرب أعد البلاد، على قدم وساق، لتكون مركز ثقله الأمني والاستراتيجي. ولا أحد يدري ماذا يخفي ظهر مصر وباطنها. ولا أحد يدري حجم النفوذ العسكري والأمني وبنيتهما التحتية الدولية المتمركزة في البلاد، والتي تحتاج إلى تأمين. فالثورة باغتت الجميع، ووقائعها بالغة السرعة، والوقت المتاح لا يكفي. فمن عليه أن يتحمل البقاء في مثل هذا الوضع غير الرئيس والنظام؟

لأن القوى الغربية لا تثق بهوية السلطة القادمة أو بما ستؤول إليه الأمور فمن الأضمن لها أن تخفي معالم حضورها في البلاد ولو إلى حين قبل أن تخسر كل شيء وينكشف المستور. فالملفات بدأت تتكشف على نحو مريع.

أما كشفته صحيفة الغارديان البريطانية عن ثروة مبارك وعائلته البالغة ما بين 40 – 70 مليار دولار فهو جزء هام من السبب الذي يبقي مبارك في السلطة. إذ لم يعد خافيا على أصحاب الشأن والمتابعين أن البلد تتعرض لنهب منظم وواسع النطاق منذ ثلاثة عقود. فالعائلة الحاكمة تنهب، وحيتان المال والأعمال، ينهبون. وثروات هؤلاء لا تعد ولا تحصى، وقد شرعوا بإفراغ الخزائن منذ اليوم الأول. وغدا الواحد منهم يسافر في اليوم أربع مرات محملا بحقائب المال والذهب. وموجودات الحضارة المصرية تتعرض، هي الأخرى، لاستنزاف مدمر للتاريخ، حتى أن بعض القطع صارت تباع في الأسواق الدولية.

أما داخل البلاد فثمة عمليات نهب فاضحة تاريخيا للأموال غير المنقولة. وعلينا ألا نفاجأ إذا كان النظام يقوم حاليا، أو أنه قام سابقا، بعملية نقل خفية للممتلكات والأموال إلى السفارة الإسرائيلية والسفارات الأجنبية ولصوص العالم من التجار واليهود. ولا شك أن مثل هذا الأمر سيجعل من مصر مخترقة في صميمها ومهددة على الدوام.

بطبيعة الحال فإن عملية التهب هذه تمثل فرصة لا بأس بها للولايات المتحدة والدول الغربية المهددة اقتصاديا بالانهيار. فنحن دول وأفراد لا نمتلك ثرواتنا المهربة والمودعة في البنوك الأوروبية، أو القدرة على التحكم بها وإدارتها. فالاستعمار لم يتخل حتى هذه اللحظة عن سياسة النهب للثروات والموارد. وتبعا لذلك لا أحد يستطيع الجزم أن مبارك وغيره من مافيا الدولة يمكنها أن تحظى ولو بالقليل من الفتات الذي قامت بتهريبه إلى الخارج. إذ أن مثل هؤلاء النهابون، إنْ كان لهم الحق فيما سرقوه، فليس لهم الحق في الانتفاع به. وسيتعرضون لابتزاز وتهديدات في الصميم. وسيكون عليهم الاختيار ما بين تسليمهم للسلطات الجديدة ومصادرة كل ما يمتلكون أو أن يقبلوا بحق الغرب في الحصول على نسب عالية جدا من السمسرة قد تتجاوز النصف مع فرض الرقابة على ما تبقى لديهم كي يمكن ابتزازهم على الدوام.

http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-272.htm

التعليقات مغلقة.