لماذا لم تسقط « جمعة الرحيل» الرئيس المصري؟
د. أكرم حجازي
ثمانية ملايين مصري، من مختلف الفئات العمرية الواقعة ما بين 15 – 60 سنة، خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات مليونية طافت أكبر المدن المصرية بحسب التقديرات الغربية. أمواج بشرية أغلبها من الذكور، وأعمارها تزيد عن 15 سنة. هؤلاء يشكلون صلب الكتلة الحيوية والفعالة للمجتمع المصري. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن كل متظاهر هو عضو في أسرة مكونة من خمسة أفراد، في المتوسط، فسيكون المحتجون ممثلين لقرابة أربعين مليونا من المصريين. وهو رقم تقريبي مبدئي لاعتبار ما يجري في مصر ثورة في الصميم تشمل كل المجتمع وليس فئة بعينها.
لا شك أن هذا الحشد الضخم يفسر إلى حد كبير سرعة وقائع الثورة المصرية واستحالة السيطرة عليها من قبل أية مؤسسة أمنية في النظام السياسي القائم. وهي من حيث الواقع أقرب إلى العصيان المدني من أي أمر آخر. ومع أن وقائع الثورة وحجمها قادر على سحق أي نظام سياسي، في بضعة ساعات، إلا أنها حتى الآن لم تجبر الرئيس المصري على الرحيل!!! فالنظام لا يحتاج إلى تعرية، والرئيس سقط شرعيا وقانونيا وأخلاقيا وواقعيا خاصة بعد أن كشف للبسطاء من العامة عن وجه فرعوني سافر، ومؤسسات النظام عاجزة بكل الوسائل عن مواجهة تحدي المتظاهرين، والعالم يُظهر عبر وسائل الإعلام أن مبارك لم يعد مقبولا وأنه لا بد من تحقيق انتقال سلمي للسلطة. إذن ما الذي يحول دون سقوطه؟ وما هو السر في بقائه حتى اللحظة؟
الدخول في التفاصيل للإجابة على السؤال لا تبدو مجدية إذا توفرت بعض الملامح الخفية التي تكشف عن الحقيقة. والمسألة هنا لا تتعلق البتة بنفسية الرئيس أو من خروج مهين له كما حصل للرئيس التونسي. فلو توقفنا، بقليل من التأمل، عند تصريحات الأمريكيين والرئيس مبارك ونائبه عمر سليمان حول التغيير ورغبة الرئيس في التقاعد لولا خشيته من وقوع الفوضى ربما استطعنا الإمساك بأول الخيط!
كل مراقب يدرك أن مصر تعج في هذه الساعات بالجواسيس والعملاء. وكل مراقب يعلم جيدا أن أجهزة الأمن الدولية، بعلمائها وخبرائها في علم النفس وسيكولوجيا الجماهير وغيرهم، تعمل بكامل طاقتها في العالم والمنطقة ليل نهار. ولا يعقل أن يفرط هؤلاء بأخطر نظام، وفي أخطر منطقة في العالم، ويستسلمون في بضعة أيام لشارع يحتله ملايين البشر.
لنتأمل واجهة المشهد: ملايين غاضبة تجوب الشوارع والميادين في المدن .. هدير من الحناجر لا يتوقف .. مواجهات شديدة العنف مع أجهزة النظام الأمنية وأخرى مع أدواته .. اختراقات مروعة في صفوف الجمهور من قبل البلطجية .. تحليق جوي لطائرات حربية على ارتفاعات منخفضة فوق الجمهور .. حرب نفسية عبر الخطابات الرسمية والتصريحات والإشاعات والمواقف المثيرة والباعثة على الفتن .. آليات دبلوماسية وأخرى أمنية تخرق المسيرات وتدهس كل من في طريقها .. تحدٍ وإصرار عجيبين من الشارع على الإطاحة بالرئيس ونظامه .. معارضة حزبية متأرجحة في مواقفها .. نخب فكرية وفنية داعمة للنظام .. مشايخ وعلماء حسموا أمرهم في الالتحام بالشعب وآخرين مذبذبين ومحرضين على تجنب الفتنة وتحريم الخروج على ولي الأمر …
لكن خلفية المشهد، يمكن تلخيصها بالقول أن: القوى النوعية ذات التأثير المعنوي والشرعي في المجتمع ما زالت خارج الحدث. وهي قوى مسيئة له بصمتها أو رفضها أو محاربتها له أو تسلقها عليه أو انتهازيتها بانتظار من ستؤول إليه الغلبة. ومواقف هذه القوى تصب في المحصلة في صالح النظام إلى درجة خطيرة. أما القوى المادية، كالجيش وأجهزة الأمن والإعلام فما زالت تحت سيطرة النظام إما لكونها موالية له، وهو الأرجح، وإما لكونها متخوفة من بطشه وبطش القوى الدولية.
إذن ترتيب المشهد في مصر من قبل النظام السياسي والقوى العالمية اختلف إلى حد كبير عنه في تونس. وهذا الأمر يجعلنا نستحضر التصريحات التي أعقبت انتصار الثورة التونسية، والتي ركزت على أن الوضع في مصر يختلف عن تونس. فالمجتمعات العربية وإنْ تماثلت في همومها ومطالبها إلى حد التطابق، إلا أن الاختلاف واقع فعلا! لكن ليس فيها بل في بنية النظام، وفي أدوات القوة لديه الأمنية أو العسكرية، وفي مرجعياته الاقتصادية والمالية والثقافية والفكرية وحتى في موارده من فئات البلطجية والانتهازية، وكذلك فيما أعده من وسائل ضغط أو استثمره من تخريب اجتماعي وعقدي طوال ثلاثين عاما من الحكم ضربت صميم الشخصية المصرية.
المهم في مشهد المماطلات والتسويف والخداع والترهيب وبث الفتن وغيرها أنه يحول، مؤقتا، دون سقوط سريع للنظام خاصة حين يضطر إلى مواجهة الملايين من الأمواج البشرية. وهذا هو المطلوب للتعامل مع الصدمة الأولى من الانفجار الاجتماعي. إذ أن الضغط البشري الهائل في مصر كان مفقودا لتونس لاسيما إذا علمنا أن القاهرة وحدها تساوي ضعف تونس سكانيا. مثل هذه الوضعية يمكن إرباكها، مؤقتا، وإشغالها بنفسها عبر الإشاعة أو الاستفزاز أو القوى الدخيلة كـ « لجنة الحكماء» وغيرها أكثر مما يمكن السيطرة عليها أمنيا.
الأكيد أن انسحاب مبارك لم يعد بيده مثلما أن المحافظة على النظام إلى حين، وليس مبارك، بات ضرورة ماسة للقوى الغربية المالكة الحقيقية له تاريخيا وموضوعيا. إذ أن انسحاب مبارك، المبكر، تحت الضغط الشعبي سيكون كارثة محققة للغرب وإسرائيل على حاضر المنطقة ومستقبلها.
فمن جهة سيؤدي السقوط المبكر للنظام إلى انفجارات اجتماعية فورية في المنطقة لا يمكن السيطرة عليها ولا بأي شكل من الأشكال بالنظر إلى قوة مصر ومكانتها. ومن جهة أخرى فإن سقف المطالب المحلية للمصريين لن يكون له حدود!!! ولن يستطيع الجيش ولا أية قوة السيطرة على حركة الشارع.
هكذا فإن خشيه الرئيس المصري من الفوضى المترتبة على رحيله مبررة، من أول وهلة، بالنظر إلى المطالب التي تستهدف ملاحقة كل النظام ومحاكمته. لكن بحدود. ذلك أن الوقوع في فوضى محلية احتمال يكاد يتلاشى مع وفرة المخارج الدستورية في النظام السياسي.
وعليه فإذا استبعدنا هذا الاحتمال فما من تفسير للفوضى المقصودة بلغة الرئيس إلا أن تكون لغة غربية قلبا وقالبا خاصة وأن التداعيات المدمرة التي يمكن أن تمس المنطقة وتوقعها بخطر شديد باتت أهم من أي تداعيات محلية. ولعل هذا ما يفسر التصريحات المتدافعة من قادة الغرب، وأهمها التصريحات الأمريكية التي تحدثت قبل ثلاثة أيام، بلسان روبرت جيبس، المتحدث باسم البيت الأبيض، عن وجوب « التغيير الآن» فإذا بها تصعد اللهجة على لسان الرئيس الأمريكي الذي صرح بالأمس (4/2/2011) أن: « الانتقال السلمي والسلس للسلطة في مصر بدأ الآن». والسؤال: هل يتكرر سيناريو تونس في مصر؟
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-269.htm
التعليقات مغلقة.