تراجعت الثورة المضادة فمتى تستسلم؟

185

تسلك الثورة المضادة فى مصر طريقا لم يسبق أن سلكته ثورة مضادة من قبل فى التاريخ.. بالتحديد فى تاريخ الثورات الكبرى.

لم يحدث من قبل أن حاولت ثورة مضادة أن تصور نفسها بأنها هى الثورة. كما لم يحدث من قبل فى تاريخ الثورات أن تظاهرت الثورة المضادة بأنها هى الثورة وهى حاميتها وهى رافعة ألويتها وهى المسئولة عن تحقيق مطالبها وأهدافها.

ولكن هذا ما يحدث فى مصر الآن منذ لحظة اقتراب العيد السنوى لثورة 25 يناير.

ف معنى لقرارات الحكم ــ بعد كل ما أظهره من رغبة فى وأد الثورة عن طريق قمع الثوار ــ باحتضان تاريخية هذه الثورة وارتباطها الحميم بوجدان الشعب وفكره بإعن تاريخ 25 يناير مناسبة قومية وتسجيلها فى الذاكرة القومية للشعب والأمة ستعادتها كل عام لحتفال بها وبقيمتها التاريخية. إن الثورات المضادة تحاول دائما أن تثبت أن الثورة جاءت اما قبل أوانها أو أن أوانها قد فات. وعندما تفشل الثورة المضادة فى تثبيت أى من هاتين «الحقيقتين» فإنها تؤثر أن تتراجع وان تختفى وان تعترف بانتصار الثورة عليها. حدث هذا فى السنوات الأولى للثورة الفرنسية كما حدث فى السنوات الأولى للثورة البلشفية. وفى هاتين الثورتين كانت الثورة المضادة قد قطعت شوطا كبيرا فى تحدى الثورة وبدا انها توشك أن تسقط الثورة وتجبرها على انهيار فى وجدان الأمة وعقلها.

اما أن تجد الثورة المضادة نفسها مجبرة ــ بعد معارك وشهداء ومصابين للثورة ــ على أن تتبنى الثورة وجانبا من أهدافها ومطالبها وحتى شعاراتها فهذا هو جديد الثورة المضادة الذى ظهر فى مصر فى الأسابيع الأخيرة، خاصة مع اقتراب العيد السنوى الأول للثورة. وعنى هذا أن الثورة المضادة المصرية أدركت وسلمت بأن الثورة أقوى منها بكثير وان استمرارها ــ اى الثورة المضادة ــ فى السير فى طريق مضاد محكوم عليه بالإخفاق والسقوط. وهنا يظهر التناقض الحاد فى سمات الثورة المضادة المصرية: انها تريد أن تحل محل الثورة بتبنى عدد من جوانبها وتريد فى الوقت نفسه أن توقف مسيرة الثورة التى عن طريقها تكتمل العملية الثورية ويكتمل تحقيق الأهداف سنة وراء اخرى. وهنا أيضا يظهر أن الثورة المضادة تعتقد أن طاقة الثورة تكون قد نضبت تماما بانتهاء الفترة انتقالية ودعم النتائج التى تسفر عنها هذه الفترة خاصة فى مجال الحكم اى فى مجال الديمقراطية ومؤسساتها وعلى رأسها المجلس التشريعى (مجلس الشعب) ووثائقها الأساسية وعلى رأسها الدستور.

ويبدو أن الثورة المضادة تعتقد انه اذا انقضت مناسبة العيد الأول للثورة فى 25 يناير الحالى دون أحداث تجدد الثورة وطاقاتها وطريقها ــ أى ما أسمته الثورة المضادة بإلحاح بأنه «مخطط تخريب مصر» ــ فإن العيد السنوى الثانى وبعده الثالث وصو الى ما هو ابعد زمنيا بكثير سيأتى وقد تحولت الثورة الى مجرد عيد واحتفال سنوى.. ولا مانع لدى الثورة المضادة من ذلك. فإنها ستكون قد أبقت أهداف الثورة بعيدا عن متناول الشعب بل بعيدا عن الذاكرة القومية والوجدان الشعبى. شىء اشبه ما يكون بذكرى ثورة يوليو 1952 بعد رحيل جمال عبد الناصر عن عالمنا ورحيله بعد ذلك على يد أنور السادات من واقعنا وسياساتنا نحو كل ما هو مضاد لفكر ذلك القائد الراحل وطموحاته الثورية الاجتماعية والتحررية.

انما يبقى أن هذا الاعتراف من جانب الثورة المضادة وهى فى ذروة قوتها وتمكنها يدل على انها وصلت الى نقطة الوعى بان وأد الثورة او محوها هدف مستحيل مهما كانت النتائج التى أمكن التوصل إليها. وهذه النتائج التى توصلت اليها الثورة المضادة لا تتجاوز تثبيت الأوضاع التى كان النظام القديم قد رسخها. وهذه تتلخص فى أمرين اثنين: الأول تثبيت النظام الداخلى عند خطوط الرأسمالية كنظام اقتصاديــ اجتماعى، والثانى تثبيت العلاقات الخارجية عند خطوط التحالف مع الولايات المتحدة حليف إسرائيل الأساسى والرئيسى وخطوط السلام ــ بالتالى ــ مع إسرائيل. بالإضافة إلى ما بين هذه الخطوط الداخلية والخارجية من تبادل وتفاعل، كل يدعم الآخر ويدعم تثبيته.

●●●

فهل يعنى هذا كله أن ثورة 25 يناير قد توقفت ــ انتهت ــ وراء خطوط هذين النظامين الداخلى والخارجى كما حددتهما بعناد قوى الثورة المضادة؟ بمعنى آخر هل انتصرت الثورة المضادة على الثورة بان تبنتها فى حدود هذه الخطوط وتبنت قيمتها التاريخية وتبنت استمرارها ذكرى فى الوجدان الشعبى المصرى؟

لعل الإجابة الواضحة والقاطعة على مثل هذه التساؤلات تنصح بانتظار سلوك الثورة ــ اى سلوك الثوريين ــ خلال الفترة المقبلة. نعنى الفترة التى تبدأ من اليوم الخامس والعشرين من يناير 2012. وذلك على أساس أن الثوار مطالبون بأن يثبتوا أنهم لم يكتفوا بما تم حتى الآن، وهو فى نظر الشعب المصرى لم يتجاوز حدود تنحية مبارك ومجموعته الفاسدة التى كانت تستعد لتوريث حكمه لابنه استمرارا للفساد وسطوة الأقلية المستفيدة. وهذه إجابة لا يمكن تنحيتها جانبا. فإن مصير مسار هذه الثورة يتوقف على ما سيفعله الثوار لكى يبرهنوا على أن الثورة لم تكن محدودة الأهداف الى هذا الحد وإلا لما استحقت من البداية اسم الثورة. فالثورات لا تنطلق لمجرد تغيير حاكم ومجموعته، إنما تهدف الى تغيير الواقع برمته نحو نظام جديد قادر على تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية للأغلبية الساحقة من الشعب. الثورات تنطلق لإطلاق قدرات وطاقات الجماهير الشعبية وإظهار كل الجوانب الإيجابية فى الجماهير الشعبية بما فيها أخلاقياتها وقدراتها الإنتاجية والإبداعية.

مع ذلك فإن هذه اجابة لا تكفى فى ذاتها. اولا لأن الثورة لا تستطيع أن تعيش فى حالة انتظار لما يمكن أن يفعله ــ وما لا يمكن أن يفعله ــ الثوار لمواصلة طريق الثورة حتى وضعها على طريق تحقيق أهدافها. وثانيا لأن الثوار الذين خرجوا يوم 25 يناير الماضى والايام التالية حتى يوم سقوط رئاسة النظام القديم لا يزالون فى حالة الغليان نفسها التى تعتمل بداخلهم واعين بأن الثورة لم تحقق أهدافها الأساسية السياسية والاجتماعية والإنسانية. والثوار فى حالة الغليان تلك لا يمكنهم أن ينصرفوا الى بيوتهم مقهورين فى حالة من الإذل والحزن على شهدائهم ومصابيهم. هذا يمكن أن يحتمله الوجدان الوطنى والقومى. واهم من هذا يمكن أن تحتمله الحالة التى تعيشها الجماهير الشعبية العربية انتظارا لرؤية نتائج الثورة النموذج.. الثورة المصرية. أن الثورة المضادة تبقى محدودة القوى على الرغم من كل ما برهنت على قدرتها على أدائه خل الأشهر السابقة منذ يوم 25 يناير 2011. يمكن القول بان الثورة المضادة حققت كل ما هو باستطاعتها. لم تعد لها أهداف سوى التمسك بالحكم كوسيلة للإبقاء على ما استطاعت تحقيقه، وهوــ فى تقدير الشعب المصرى أيضاــ الإبقاء على النظام القديم بعد التخلص من رئيسه وجماعته ومشروع التوريث.

ونظام حكم ب أهداف سوى التمسك بالحكم يتحول الى نظام قديم، مع فارق أساسى هو وجود الثوار الماثل دائما أمام أعين الجميع. وكان هذا الوجود غير مرئى للنظام القديم وإ لما فوجئ به كما حدث، الأمر الذى اجبره على التنحى ونقله من قصور الحكم الى قفص محكمة الجنايات. و يستطيع النظام القديم الجديد أن يتجاهل وجود الثوار المستعدين دوما لمواصلة الثورة. فإما أن يتجاهلهم وإما أن يتصدى لهم كما فعل فى ميدان التحرير والشوارع المحيطة. فى الحالة الأولى يعرض نفسه لهجمات ثورية تقل قوة وعنفوانا عن أحداث ثورة 25 يناير نفسها. وفى الحالة الثانية حالة التصدى يكون قد سلم بان الثورة مستمرة وان أحداث الميادين والشوارع لم تقض عليها كما تصور او كما صور للوطن كله.

تقديرنا أن الثورة المضادة استنفدت أغراضها وأساليبها. وحان الوقت لتتراجع وتستسلم بصورة نهائية. ولن يكون ذلك امرا بالغ الصعوبة.

http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=25012012&id=78bf81f0-10ab-4e0c-99ad-0c4f4755dc6f

التعليقات مغلقة.