فصل الكلام في مسألة الخروج على الحكام

805

المخلية
الجامية
الحكام
(4)

الحاكم المسلم الفاسق الظالم الشديد الفسق والظلم والفجور
وهو يختلف عن الحاكم المسلم الفاسق أنه شديد الفسق والظلم والفجور، وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شرَّ الرعاء الحُطمَة) [مسلم]، أي شديد الظلم والبطش بالرعية!

إلا أن فسقه وظلمه وفجوره وبطشه لا يبلغ به درجة الكفر الذي يخرجه من الملة، فهذا – على الراجح – يختلف حكمه عن الحاكم الفاسق السابق الذكر، ذي الفسق المجرد.

فأقول: في مثل هذه الحالة عندما تبتلى الأمة بحاكم هذا هو حاله ووصفه، فإنه يتعين خلعه من قبل الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد، فإن أبى الانخلاع إلا بالقتال نُظر في ذلك فإن كان القتال والخروج عليه أقل ضرراً وفساداً مما يصدر عنه من ظلم وفجور وفساد تعين الخروج عليه ولا بد، وإن كان غير ذلك – أو كان العكس – أمسك عن الخروج عليه عملاً بالأحاديث العامة الآنفة الذكر التي تأمر بالكف عن الخروج على أئمة الجور والفسق.

فإن قيل: قد عرفنا النصوص التي تمنع من الخروج على أئمة الجور، فما هو الدليل الذي يرخص الخروج عليهم في حال تلبسوا بالظلم المغلظ كما تقدم؟

أقول: هذا سؤال هام جوابه ألخصه في النقاط التالية:

1) من الأدلة التي تلزم بالخروج على هذا النوع من الحكام عموم الأدلة والنصوص التي تلزم بتغيير المنكر، وبأطر الظالمين إلى الحق، أيَّاً كانوا هؤلاء الظالمين.

قال أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية، وتضعونها في غير موضعها: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم}، وإنا سمعنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب”، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من قومٍ يُعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يُغيروا، ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب”) [30].

2) العمل بالقواعد الفقهية التي تفيد: بأنه لا ضرر ولا ضرار، وأن الضرر يُزال، وإزالة الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، وتقديم أقل المفسدتين لدفع أكبرهما مفسدة وضرراً، فهذه القواعد وغيرها المستنبطة من نصوص الشريعة كلها تلزم الأمة بخيار الخروج على هذا النوع من الحكام وفق الضابط والشرط المذكور.

3) منع أهل العلم من الخروج على أئمة الفسق والفجور هو من قبيل دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى، وتقديم أقل الضررين.

ومسألتنا هذه تختلف تماماً عما قالوه أهل العلم في ذوي الفسق أو الجور المجرد؛ حيث أن الضرر الأصغر والمفسدة الصغرى هنا تكمن في الخروج عليه قياساً للمفاسد الكبرى المترتبة من جراء بقائه على سدة الحكم والرئاسة.

لذا نجد في مثل هذه الحالة أن كثيراً من أهل العلم يصرحون بوجوب الخروج على الحاكم المقدور عليه.

قال ابن حجر في “الفتح” [13/11]: (نقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، فإن أحدث جوراً بعد أن كان عدلاً فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه) اهـ.

وقد تقدم كلام ابن تيمية وهو قوله: (وإن كان الواحد المقدور قد يُقتل لبعض أنواع الفسق؛ كالزنا…)؛ فاشترط القدرة، ومن القدرة على إزالة المنكر أن لا تؤدي إزالته إلى منكرٍ أشد وأكبر منه.

وهذا الفقه مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)، فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم للتغيير القدرة، وعلق العقاب والعذاب على التخلي عن تغيير المنكر مع وجود القدرة على ذلك!

قال الإمام الجويني في أصول الاعتقاد: (إذا جار الوالي وظهر ظلمه وغشمه، ولم يرعو عما زجر عن سوء صنيعه فلأهل الحل والعقد التواطؤ على درئه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب) اهـ.

قلت: وهذا محمول على أن يكون الخروج وشهر السلاح عليه أقل فتنة وفساداً مما يظهره من فساد وفجور، وتقدير ذلك لأهل الحل والعقد من علماء ومجاهدي الأمة.

قال الشيخ محمد رشيد رضا في كتاب “الخلافة”: (قد تقدم التحقيق في المسألة ونصوص المحققين فيها؛ وملخصه أن أهل الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على أهله بالفعل وإزالة سلطانهم الجائر ولو بالقتال إذا ثبت عندهم أن المصلحة في ذلك هي الراجحة والمفسدة هي المرجوحة) اهـ.

فإن قيل: قد تقدم في كلامكم عن الحاكم المسلم العدل، وما يجب على الأمة نحوه من توقير وإكرام وغير ذلك، فهل هذا يُحمل على أئمة الفسق والجور؟!

أقول: ما قيل هناك عن الحاكم المسلم العدل لا يقال في أئمة الجور، والبطش، والفسق؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)، قالوا: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة..) [مسلم].

فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج عليهم ومنابذتهم بالسيف، ولم ينههم عن لعنهم وبغضهم، بل عد لعن المؤمنين لهم علامة على أنهم من شرار الأئمة والولاة!

وقد نقل أبو يعلى في “الأحكام السلطانية” [ص20]، عن الإمام أحمد رحمه الله قوله في المأمون: (وأي بلاء كان أكبر من الذي كان أحدث عدو الله وعدو الإسلام من إماتة للسنة؟! وكان إذا ذكر المأمون يقول: كان لا مأمون…) اهـ.

وكذلك ثبت عن كثير من السلف شتمهم للحجاج ووصفهم له بالطاغية، وهذا كله يدل على أنه لا يجوز إنزال سلاطين الجور والفسوق منزلة الولاة الصالحين العدول، وما يجب لهم من التوقير والاحترام، والإكرام، والله تعالى أعلم.

فإن قيل: علام لم تقل في الحاكم الفاسق ما قلته في الحاكم الشديد الفسق والفجور والظلم، من حيث وجوب الخروج عليه بالقوة إذا أُمنت الفتنة الأكبر، وكان الخروج عليه هو الأقل ضرراً؟!

أقول: الذي منعنا من القول بذلك، أن افتراض حصول ذلك هو أمر نظري وخيالي وغير واقعي، حيث لا يمكن أن نتصور خروجاً على الحاكم المسلم الفاسق من ذوي الفسق المجرد المحتمل بالقوة، ثم يكون هذا الخروج – وما يترتب عليه من نتائج – أقل فتنة وضرر مما يُظهره من فسق مجرد محتمل!

قال الجويني في “غياث الأمم” [ص102]: (لو كان الفسق المتفق عليه يوجب انخلاع الإمام أو يُخلعه لكان الكلام يتطرق إلى جميع أفعاله وأقواله على تفنن أطواره وأحواله، ولما خلا زمن عن خوض خائضين في فسقه المقتضي خلعه، ولَتحزب الناس أبداً في مطرد الأوقات على افتراق وشتات في النفي والإثبات، ولما استتبت صفوةُ الطاعة للإمام في ساعة)… إلى أن قال: (وقد قررنا أن في الذهاب إلى خلعه أو انخلاعه بكل عثرة رفضَ الإمامة ونقضَها، واستئصال فائدتها ورفع عائدتها، وإسقاط الثقة بها، واستحثاث الناس على سلِّ الأيدي عن ربقة الطاعة) اهـ.

تنبيه هام:

للأهمية نعيد التذكير بما كنا قد ذكرناه من قبل، فأقول: إن النصوص ذات العلاقة بالولاة وما يجب لهم، وما يجب عليهم، وكيف يُعامل كل صنف منهم، هي كثيرة جداً، وهي أكثر من أن تحصر في هذا المبحث الوجيز.

وإن الفقه والإنصاف يقتديان من الباحث طالب الحق أن يُنزل كل نص في موضعه ومنزله الذي أراده الشارع، ويفسره على مراد الله ورسوله، فلا يحمل ما قيل في الحاكم المسلم العدل على الحاكم الكافر، ولا يحمل ما قيل في الحاكم الفاسق على ما يمكن أن يقال في الحاكم الفاسق الشديد الفسق والفجور والظلم!

كما أن الذين يريدون أن يتصدوا للبحث أو الإفتاء في هذه المسألة الهامة الشائكة، لا بد لهم من أن يحيطوا بمجموع النصوص ذات العلاقة بالمسألة – وبأقوال أهل العلم فيها – ويعملوها جنباً إلى جنب، بعضها مع بعض، من دون أن يضربوا النصوص بعضها مع بعض، أو يُعارضوا بعضها مع بعض، أو يُظهروا – بسبب قصورهم وفهمهم الخاطئ – اضطراب النصوص وتناقضها، كما هو ملاحظ عند كثير من الشيوخ والباحثين المعاصرين الذين تصدوا للحديث والإفتاء في هذه المسألة الهامة!

وأكثر الذين أخطأوا ووقعوا في الإفراط أو التفريط في هذه المسألة، هو بسبب إعمالهم لنصوص دون نصوص، وأخذهم بنصوص دون نصوص، وعلمهم بنصوص دون نصوص، فوقعوا فيما هم فيه من الغلو والإفراط، أو الجفاء والتفريط، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إلى هنا ينتهي هذا التنبيه، وبانتهائه تنتهي مسائل هذا المبحث الهام الوجيز، راجياً من الله تعالى القبول، وأن ينفع به البلاد والعباد، إنه تعالى سميع قريب مجيب.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

http://www.tawhed.ws/r1?i=4987&x=6swdkhkb

التعليقات مغلقة.